حل المشكلات الأسرية وعلاجها (7) الولاية على الزوجين

قبل بضع سنين التقاني شاب في مقتبل العمر، فقال لي: يا شيخي العزيز، لديَّ مشكلة عائلية أعاني منها منذ بضعة أشهر، وقد شَغَلت عَلَيَّ تفكيري طيلة هذه المدة، ولم أجد لها حلا، وأنا في ضيق شديد، حيث تنازعني نوازع عديدة، وتصطرع في صدري دوافع متعددة، كل منها تود لو تنتزع القرار مني لصالحها، وربما جنحت مرة نحو واحدة منها، واتجهت نحو إصدار القرار لمصلحتها، فتسبقها النوازع الأخرى، وتحول بيني وبين إصدار القرار، وتعيدني إلى مرحلة التردد والحَيرة، فإذا ما حاولت أن أحسم حَيرتي ثانية، وأركن إلى دوافع أخرى، سبقتها دوافع مخالفة لها، فأعود إلى التردد ثالثة، وهكذا دواليك ، وقد أخذ هذا الصراع الداخلي المرير كلَّ جهدي، وعطَّلني عن كل أعمالي، ورماني في السقام، وقد أتيت إليك لتساعدني على حل مشكلتي، وتطييب نفسي، والوصول بي إلى مرحلة الاستقرار،

فقلت له: أيها الأخ الكريم، إنني حتى الآن لم أفهم مشكلتك، ولم أتعرف على مسألتك، وقد كدتَ بإسهاماتك توقعني في الحَيرة والشك معك، فأوضح لي السؤال، وقص عليَّ المشكلة باختصار، فلعلي أجد لك الحل المناسب، أو أوجهك نحوه،

فقال الشاب: إنني شاب في الخامسة والعشرين من عمري، وقد عرض عليَّ والدي أمر الزواج منذ سنين، كما عرضَتْ عليَّ والدتي ذلك قبله، ولكنني كنت أطلب منهم الانتظار في هذا الأمر المصيري الخطير حتى أنتهي من دراستي الجامعية، وأهيئ نفسي لتحمل مسؤوليات الزواج، ماديا واجتماعيا، وأتجه نحو مهنة، أو عمل يوفر لي كسبا كافيا لبناء حياة زوجية، وكان والداي يضيقان ذرعا بجوابي هذا كثيرا، ويقولان: نحن موجودون وميسورون والحمد لله رب العالمين، ونستطيع أن نكفيك ذلك كله، ونحن متعهدون لك بجميع تكاليف الزواج، من مهر ومسكن وفرش.. .، كما إننا متعهدون لك بنفقتك ونفقة زوجتك مدى الحياة، إلا أنني كنت مع ذلك أرجوهما أن يُنظراني بضع سنين، مع شكري الجزيل لهما على هذا العرض السخيِّ، وأقول لهما: الزواج مسؤولية، ولا يجوز لمن لا يحس من نفسه بالقدرة على تحمل هذه المسؤولية أن يُقدم عليه، ولا يجوز لأي من الشباب أن يعتمد على والديه أو غيرهما في ذلك أبداً، وإلاَّ جنى الندامة والحسرة، فكانا يقبلان ذلك مني على مضض، ثم لا يلبثان أن يعيدا عليَّ عرضهما وإلحاحهما بين الفينة والفينة، وعندما انتهيت من دراستي الجامعية، وعملت في الدولة موظفا عاما براتب شهري مُرْضٍ وكاف للبدء ببناء أسرة، وكررا العرض عليَّ في أمر زواجي، رضخت لأمرهما، واستجبت لرغبتهما، حيث لم يعد لي من عذر أتعلل به أمامهما، ثم إنني لا أخفي عليك يا شيخي الكريم، أنني أصبحت أتشوَّف إلى الزواج بعدما فرغت له من دراستي، وأجده حاجة ملحة أندفع إليها تلقائيا بكل قواي، فقلت لهما إنني موافق على طلبكما، وسوف أبدأ بإذن الله تعالى بالبحث عن شريكة الحياة، ورفيقة العمر، والزوجة التي أرى أنها جديرة بي، وأرجو أن أوفق إلى الالتقاء بالزوجة الصالحة التي تسعدني في حياتي، وتملأ عليَّ مشاعري ونفسي، وتحفظ عليَّ ديني وخلقي، وتربِّي لي أولادي ونسلي، فقال أبي: يا بني لماذا البحث والعناء ؟ فهذه ابنة عمك فلانة، تعرفها منذ صغرها، وهي جميلة ومثقفة، وقد اتفقت مع والدها على خطبتها لك، ولم يبق عليك إلا أن توافق على ذلك، وقالت أمي: لقد خطبت لك بنت خالك فلانة، ووافق على هذه الخطوبة والدها، ورحب بك زوجا لابنته، وهي جديرة بك، وهي من أسرة عريقة كريمة كما تعرف، ففيم التعب والبحث ؟ فعجبت لهذه التطورات السريعة التي لم أعلم بها مسبقا، ولم أسمع بها إلاَّ الآن بشكل مفاجئ، وقلَّبت وجوه النظر في الأمر، وأدركت أنني إن أطعت والدي ووافقته على عرضه غضبت أمي، أيما غضب ستغضبه إذا رفضْتُ طلبها بعد أن تورطت في الخِطبة والحصول على الموافقة ! وإن أطعت أمي وأجبتها إلى مطلبها غضب أبي، وأي غضب سيحل بوالدي إذا أحس أن ابنه خرج على إرادته، وخالفه في أخطر أمر توجه إليه ! ثم إنني تذكرت أن كلا من أبي وأمي كان قد عرض عليَّ وتعهد لي بالقيام بكل أعباء الزواج المالية، وأي إنكار لجميلهما وبخس لحقهما سيكون مني إذا تنكرت لذلك كله، وخالفت رغبتهما وأمرهما، في أمر يقدِّران أن لي السعادة فيه والهناءة، ثم تذكَّرت أحوال كلٍّ من ابنة عمي وابنة خالي، وأعدت إلى ذاكرتي طفولتهما، والساعات التي كنت قد قضيتها في اللعب معهما، وأنهما كانتا تشاكسانني وتنفران من اللعب معي، وتذكَّرت أنني لم آلفهما يوما، ولم أنسجم معهما في لحظة من اللحظات، رغم ما تقدم من صفاتهما على لسان أمي وأبي، ووقع في نفسي أن ارتباطي بهما أو بإحداهما بعد كل ما تقدم لن يسعدني، ولن يشعرني بالطمأنينة في حياتي، فحرت في أمري وتنازعتني الشكوك والوساوس، وانتابني الخوف من المستقبل، فأنا بين غضب أبي أو غضب أمي، وهما أحب الناس اليَّ، وأدناهم إلى قلبي، وأنا حريص كل الحرص على رضاهما وطاعتهما، وعدم الخروج على أمرهما، وبين تطلُّعي إلى مستقبل حياتي، وتحقيق أحلامي، بالعيش مع فتاة آلفها وتألفني، وأشعر نحوها بالانجذاب، وهو ما لم أحس به مع أي من ابنة عمي أو ابنة خالي - فيما أقدر - فماذا عليَّ أن أفعل أيها الشيخ الكريم؟

أقول لهذا الشاب ولكل الشباب من ورائه: هذه المشكلة التي قصصتها عليَّ ليست مشكلتك وحدك فقط، ولكنها مشكلة الكثيرين من الشباب والشابات، والجواب عليها يفيدكم جميعا، وقد حسم الإسلام هذا الموضوع، ووضع له القواعد الكفيلة بحله على الوجه المرضي، ويتضح ذلك مما يلي: 

1 - من واجب الوالدين الديني والخُلُقي أن يساعدا الابن والبنت - بعد أن يصلا إلى سن الشباب - في أمر زواجهما، ماديا ومعنويا، في حدود طاقتهما وإمكاناتهما. 

2 - من واجب الابن أن لا يفكر في الزواج قبل أن يكون مستعدا لتحمل تبعاته بنفسه، ماديا ومعنويا، دون الاعتماد في ذلك على أحد، لحديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) متفق عليه، ولا بأس بالاستعانة هنا بالوالدين والأهل ماديا تبعا، دون الاعتماد عليهم في كل شيء،

3 - من واجب الأبوين وسائر الأهل أن يشيرا على الابن والبنت في أمر زواجهما، وبخاصة إذا ما استشاراهما في ذلك، وأن يبذلا لهما النصح في اختيار القرين، وأن يساعداهما في التحري عنه بصدق وأمانة، ثم يتركا القرار لهما ماداما بالغين راشدين، ولا يفرضا عليهما شيئا في هذا الموضوع، فإن الأمر في النهاية للزوجين،

4 - من واجب الابن والبنت أن يستمعا لنصح الوالدين والأهل المقربين في هذا الموضوع، وأن يأخذاه بعين الاعتبار والجدِّية، ثم القرار لهما في النهاية، ولا إلزام عليهما في شيء من ذلك النصح إذا لم يجد الزوجان أنه في موضعه، ما داما كاملي الأهلية، في قول كثير من الفقهاء، وهو ما عليه أكثر القوانين العربية، وذهب كثير من الفقهاء إلى أن للولي أن يجبر الفتاة البكر مطلقا على الزواج، وإنني أستحسن الالتزام برأي الوالدين ما أمكن دون عدِّه واجبا لا يجوز الخروج عليه،

هذا كله ما دامت الكفاءة متوفرة بين الخطيبين، وأنهما ملائمين لبعضهما في العرف، أما إذا اختلت الكفاءة، وكان الشاب أدني من الفتاة في عرف الناس، فلولي الفتاة الاعتراض على هذا الزواج ومنعه لدى عامة الفقهاء، رعاية لسمعة الأسرة، وحماية لكيانها ومصالحها العامة،

وإنني أختم كلمتي هذه بقصة حدثت في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد جاءته فتاة تشكوا أباها وتقول له: إن أبي زوجني من ابن أخيه، ليرفع بي خسيسته، فأرسل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن يعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء، رواه النسائي وابن ماجه وأحمد،

فيا أيها الشباب والشابات، ويا أيها الأولياء، انتبهوا إلى هذا الموضوع الخطير، وتعاملوا معه بدقة وحذر وحصافة، وإلا فإنكم سوف تخسرون أبناءكم، أو يخسر أبناؤكم سعادتهم، وفي كل ذلك شر لا تحمد عقباه، ولا ترضون به. 

والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين