المعنى الصحيح لقوله تعالى: ((تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ ...))

يقول تعالى في سورة آل عمران: ((قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ)) [آل عمران، ٢٦]

وهناك آيات أخرى أيضًا تشير إلى هذا المعنى، وهو أن الله هو الذي يؤتي المُلُوكَ مُلْكَهم، صالحين كانوا أم طالحين، كقوله تعالى عن نمرود الطاغية الذي كان يدَّعي الإلـهية: ((أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ...)) [البقرة، ٢٥٨]، وقوله عن داود عليه السلام: ((وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ ...)) [البقرة، ٢٥١] 

لقد استنتج بعض المسلمين أنه طالما أن الله هو الذي يعطي الملوكَ مُلكَهم والسلاطين سلطتهم، فلا يجوز السعي لإزالة أي مَلِكٍ عن ملكه أو زحزحة سلطان عن سلطنته، مهما كان ظالمًا مستبدًّا وفاسدًا فاجرًا خائنًا، لأن من يسعى لإزالته وتنحيته فهو يعارض إرادة الله ويعترض على حكمه!!!

وأشاع بعض الملوك في بداية عهد الملوك في الإسلام الذي أعقب فترة الخلافة الراشدة هذا المفهوم، وقال: إن الله هو الذي ملكني عليكم! مريدًا بذلك أن الله رضي ملكي وأوجب عليكم طاعتي مهما فعلت، وتم وضع حديث يقول:" إن السلطان ظل الله الأرض"، في تكريس لمفهوم ثيوقراطي في الحكم... وهو حديث موضوع كل أسانيده تالفة ...

وصار مثل ذلك النمط من التفكير منتشرًا حتى يومنا هذا بين كثيرٍ من المتدينين، بل نظَّرت له بعض المذاهب العقائدية الإسلامية قديمًا واعتبرته من أصول الدين!

وأصبحنا نرى بعض الفقهاء يعتبرون السلاطين بل حتى الملوك المحتلين أمثال نابليون بونابارت والإنجليز الذين استعمروا شبه القارة الهندية ومصر وغيرها ملوكٌ آتاهم الله المُلك ومِنْ ثمَّ فطاعتهم واجبة، والخروج عليهم ممنوعٌ!

والمسألة كلها مبنية على فهم خاطئ يخلط بين المشيئة والرضا، فصحيحٌ أنه لا شيء في الوجود يحصل إلا بمشيئة الله وإذنه، كيف لا وكل ما في الوجود مُفتقرٌ إلى الله في وجوده، ومدين للمدد الإلـهي في استمراريته، إلا أن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن كل ما يحصل في عالم البشر المختارين في هذه الحياة الدنيا مرضي لله، بل كثير منه، لا بل أكثره، مما لا يرضاه الله، ومما يدعو المؤمنين إلى تغييره، فالكفر منتشر بين العباد، مع أن الله لا يرضاه كما قال: ((إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)) [الزمر، ٧] وكذلك الشرك والقتل والزنا والسرقة كلها منتشرة بين العباد مع أن الله لا يحبها ولا يرضاها ويأمرنا بالنهي عنها ومنعها،

فالله يشاء ويرضى، ويشاء ولا يرضى، ولا يشاء ويرضى، ولا يشاء ولا يرضى.

والحقيقة أن الله تعالى بين لنا في كتابه أن نمط التفكير الذي يتصوَّر أصحابه أنه طالما تعلقت مشيئة الله بشيء فهو راض به ولا يجوز تغييره، هو نمط تفكير الكفرة والمشركين الذين كانوا يقولون بما أن الله هو الذي شاء شركنا فهو راض به: ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)) [النحل، ٣٥]

واستنادًا إلى نمط التفكير ذاته كان الكافرون يقولون للرُّسُل عندما يدعوهم الرُّسُل إلى الإنفاق على الفقراء: إن الله هو الذي شاء فقر الفقراء ولو شاء لأغناهم وأطعمهم، فكيف تدعوننا أن نطعم من شاء الله فقره؟ فليطعمهم هو إن شاء!! ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)) [يس، ٤٧]

نرجع إلى آية ((قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ)) فنقول: أول ما يدفع ذلك الاستنتاج الخاطئ منها الذي أشرنا إليه أعلاه أن الله تعالى أيد إيتاءه داود (عليه السلام) المُلك، مع أن داود نهض للقضاء على مُلْكِ قائد الفلسطينيين آنذاك "جالوت" [حينذاك كان الفلسطينيون وثنيون معتدون وبنو إسرائيل موحدون على الحق، بعكس الواقع في زمننا]. فرغم أن الله كان قد آتى جالوت الزعامة، إلا أن هذا لم يمنع أنه دعا داود للقضاء على جالوت وفعل! [سورة البقرة، الآيات ٢٤٦ إلى ٢٥١]

كما أن سليمان بن داود عليه السلام أزال مُلكَ ملكة سبأ (المسماة بلقيس في التقليد الإسلامي) وأخضعها لسلطانه لما علم أنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله. فلم يكن إيتاءُ الله بلقيسَ المُلك معناه أن مُلْكَهَا للهِ رضًا وأنه يجب بقاء هذا المُلك ولاتجوز إزالته، إذْ لو كان الأمر كذلك لما أمر سليمان بإزالته! [سورة النمل، الآيات ٢٢ إلى ٤٤]

كذلك رغم أن الله تعالى هو الذي آتى قارون كنوزه الطائلة التي يعجز الأقوياء عن حمل مفاتيح صناديقها، إلا أن هذا لم يمنع أنه أمر قارون أن ينفق من أمواله ويحسن إلى الناس، فلما رفض ذلك خسف به وبماله الأرض! لنقرأ هذه الآيات المباركات التي تلخص لنا بأجمل بيان وأبلغه كل ما قيل أعلاه:

((۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ (76) وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓۚ أَوَ لَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ وَلَا يُسۡ‍َٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ)) [القصص، ٧٦ - ٧٨].

اللهم فقِّهنا بالقرآن وعلِمنا من أسراره ما جهلناه، والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين