بسمات في صباح العلم تأملات في بيتين للعلامة الدبان

مقدمة

الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على من لم يكتب، ودان له كل قلم، وعلى آله وأصحابه ما خط على ورق قلم.

أما بعد:

فقد كان لشيخ مشايخنا العلامة عبد الكريم الدبان رحمه الله تعالى أثر كبير في حاضر العراق العلمي، إذ عمل نقلة في التأليف في العلوم الشرعية، فقد أشربها روح المعاصرة بتآليفه الفذة التي تمزج بين رزانة الماضي وسهولة الحاضر، وقد رأينا اهتمام مشايخنا الكرام بنشر علم هذا العَلَمِ الشامخ والقامة السامقة من قامات العلم الشرعي الحديث، فرأينا أن نشاركهم في هذا المضمار بشيء قليل على سرعة إنجاز وكساد بضاعة، يتفضل علينا بأخذها بنظر الاعتبار كل من نظر في هذه الكلمات البسيطة التي سلطنا فيها الضوء على نص من نصوص العلامة الدبان يتكون من بيتين شعريين بحثنا في عتباتهما وولجنا عالمهما الماتع اللطيف فكشفنا مكامن الجمال فيهما، وبسطنا القول في ثراء المعلومات التي يقدمانها. 

وبعد ذكر النص ارتأينا تقسيم تأملاتنا فيه على مبحثين: 

المبحث الأول: عتبات النص سلطنا فيه أنوار البحث على ما يحيط بالنص من تحديد نوعه، وبحره العروضي، ومُنشئه، وتحقيق نسبة النص إلى مؤلفه، ومناسبة النص.

المبحث الثاني: دراسة النص، وفيه ولجنا عالم النص برحابته، فدرسنا معاني النص، ولغة النص.

يجيب هذا البحيث إجابة مستعجلة على ثلاثة أسئلة هي عماد تحليل النصوص هي: ماذا أراد الشاعر أن يقول؟ وكيف قال؟ وهل نجح في التعبير عما قال؟ 

وترجع أهمية هذا البحيث إلى كونه متعلقًا بهذا العلامة الكبير وشرف العلم مرهون بشرف ما يتعلق به، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنه يعطي مزاوجة بين مجموعة من العلوم استعملها الباحث في بحثه، إذ تضمن البحث همسات أدبية ونغمات عروضية ولمحات لغوية ونفائس أخلاقية وذكريات تاريخية وتحقيقات علمية ودروسًا تربوية. 

ومن استعمال الباحث لكل هذه الأدوات تتبين مدى عبقرية النص، فالنص جمع كثيرًا من المتضادات التي قلما تجتمع في غيره، فقد زاوج بين البساطة والعمق، والعلم والأدب، والعقل والروح، والقوة والجمال ؛ وبالمختصر نقول: لَقَدْ مَثَّلَ النَّصُّ صاحِبَهُ.

وبعد فهذه ملاحظات كتبتها على عجالة في معرض تخصصي بتحليل النص لهذين البيتين الثمينين ؛ فإن أصبت فبفضل الله تعالى، وإن كانت الثانية فمن نفسي المجبولة على الخطأ والنسيان ومن الشيطان الذي لا ينفك عن معارضة كل جهد في سبيل الخير. 

النص قالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْكَرِيْمِ الدَّبَانُ:

وَلِيْ إِخْوَةٌ فِي اللهِ قَلْبِي يُحِبُّهُمْ=أَتَوْنِي صَباحَ الْيَوْمِ وَالْكُلُّ بَاسِمُ

فَعَبـْــدُ حَكِيْــــمٍ مُنْعِمٌ ثُمَّ رَافِعٌ=وعَبْدُ جَلِيْـــلٍ هَاتِفٌ ثُمَّ قَـــاسِمُ 

المبحث الأول: عتبات النص

يعد مصطلح عتبات النص من المصطلحات التي دخلت الدراسات الأدبية منذ الثمانينيات، وقد نَظَّرَ له المفكر الفرنسي جيرار جينيت، ويقصد به ما يحيط بالنص من ظروف ونصوص مقتضبة كالعنوان والمؤلف وظروف النص التي قيل فيها، وسندرس في ما يأتي مجموعة من عتبات النص السابق لنتمكن من إيجاد همزة وصل بين خارج النص وداخله. ولم يكن للنص الذي نحن بصدد دراسته عتبة عنوان، وجرى المؤلف في ذلك سيرًا على سَنَنِ شعرائنا القدماء في عدم تسمية نصوصهم الشعرية. 

المطلب الأول: نوع النص

النص السابق نص شعري، وهو عبارة عن مقطوعة متكونة من بيتين، والمقطوعة أصغر من القصيدة، وتتكون من أبيات قليلة تتناسب مع سرعة الموقف الذي يمر به الشاعر، فيكتب ما جادت به قريحة اللحظة، وليس له فيه طول نفس، فيطيلها أكثر من ذلك كما فعل الشيخ عبد الكريم الدبان رحمه الله تعالى، فقد جاءه هؤلاء الطلبة، يقول العلامة الدكتور عبد الحكيم الأنيس حفظه الله: (كنا متفرغين تلك السنة للدراسة الخارجية نبدأ بالشيخ عبد الكريم المدرس بعد الفجر ثم نذهب إلى الشيخ عبد الكريم الدبان)(1)، فأعجب بهم، لا سيما أنهم مجموعة متميزة من طلبته الأفاضل، فكان جمال الموقف وسعد اللقاء يقتضي تسجيل هذا المشهد ومحاولة إيقاف الزمن لتصوير هذه اللقطة الباسمة من عمر الزمن، فلم تسمح هذه اللقطة وسرعتها بما تحمل في طياتها من التأخر عن الدوام لم تسمح للشاعر بنظم قصيدة كاملة، بل كانت مقطوعة مركزة متكونة من بيتين يختزلان الجمال والإحصاء والشعور والأخلاق التي يتحلى بها الشيخ وطلابه الكرام. 

وهذا ما يبرر شيوع المقطوعات في شعر الفتوحات لكونها مجموعة أحداث متسارعة لا تسمح بطول النفس الشعري لنظم القصائد الطويلة المتعددة الأغراض كما كان الشعر الجاهلي مثلاً، إنما هي لقطات تصورها كاميرا الشاعر بأوجز العبارات(2). 

بحره العروضي

وهي مقطوعة على بحر الطويل، وهو سيد البحور وملكها، وعليه كثير من مشهورات قصائد العرب مثل معلقة امرئ القيس ومعلقة زهير بن أبي سُلمى، وتفعيلات المقطوعة جاءت على وزن:

فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاْعِلُنْ=فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاْعِلُنْ

وعروضه وضربه مقبوضتان (مَفَاعِلُنْ)، والعروض هو التفعيلة الأخيرة من الشطر الأول، والضرب هو التفعيلة الأخيرة من الشطر الثاني، والقبض هو حذف الخامس الساكن من تفعيلة (مفاعيلن) فتصبح (مفاعلن)، وذلك بحذف الياء وهو الخامس الساكن.

وخلا البيت الأول من التصريع، والتصريع هو تلاؤم قافية الشطر الأول مع قافية الشطر الثاني في القافية، والتصريع عند أهل العروض أن ((يجانس الشاعر بين شطري البيت الواحد في مطلع القصيدة، أي: يجعل العروض مشبهًا للضرب وزنًا وقافية))(3). وهذا هو الغالب في منهج الشعراء العرب في قصائدهم أن يكون البيت الأول فيها مصرعًا. 

المطلب الثاني: المنشئ

المبدع الذي أنتج هذا النص هو علامة العراق وشيخ مشايخنا الكرام الأفذاذ الأستاذ العلامة عبد الكريم بن حمادي الدبَان رحمه الله تعالى، وسنقتصر من ترجمته على ما يعيننا على فهم النص، فليس هدفنا الترجمة المطولة له. فنقول:

هو المفسر الفقيه الأصولي المتكلم البلاغي النحوي الأديب الشاعر العابد الزاهد، وهو تكريتي ثم بغدادي، وهو من ذرية الشيخ عبد القادر الكيلاني. 

ولد في تكريت، وتلقى علومه الأولى فيها وفي سامراء على يد مجموعة من العلماء من أبرزهم: الشيخ داود بن سلمان التكريتي وعبد الوهاب البدري السامرائي وأحمد الراوي الرفاعي، وأجازه الشيخ البدري إجازة عامة 1953 م، وأجازه التكريتي 1954 م. له سبعة عشر مؤلفًا متنوعة الموضوعات متعددة العلوم(4).

المطلب الثالث: نسبة النص إلى منشئه 

وقد أرسل النصَّ السابق لنا تلميذُ المؤلفِ شيخُنا العلامة الدكتور عبد الحكيم الأنيس حفظه الله تعالى، وقد بعثه لنا بخط يد مبدعهما العلامة الدبان رحمه الله تعالى، وهذا من أوثق التحقيق بأن تأتي نسخة النص بخط المؤلف، وينقلها لنا أحد أوثق تلاميذه، فليس بعد هذا التوثيق بحث، فليست بنا حاجة بعده إلى مزيد من توثيق النص. 

المطلب الرابع: مناسبة النص

المناسبة التي قيل فيها النص عتبة مهمة من عتبات النص تلقي الضوء على بعض مكامن النص غير المقولة، وتوحي بالترابط بين النص المقول والظروف الزمكانية التي أحاطت بالنص.

وقد ذكر لنا الشيخ الدكتور قاسم الجوراني - وهو من تلاميذ العلامة الدبان رحمه الله وهو أحد التلاميذ الأفذاذ المذكورين بهذين البيتين - قصة هذين البيتين في رسالة كتبها لنا منها: ((قال الشيخ الدبان رحمه الله هذين البيتين لمجموعتنا حيث كانت متميزة...، وكان الدرس... صباحًا في سنة 1984، وكان الشيخ فَرِحَ بنا وبهذه المجموعة)).

فالظرف الزماني للقاء هو الصباح، وقد دخل هذا الظرف في المقطوعة ليرسم لنا ابتسامة الفجر التي انعكست بدورها على محياهم جميعًا، هؤلاء الفتية من طلبة العلم هم وشيخهم، قال:

وَلِيْ إِخْوَةٌ فِي اللهِ قَلْبِي يُحِبُّهُمْ=أَتَوْنِي صَباحَ الْيَوْمِ وَالْكُلُّ بَاسِمُ

والتبكير في الدرس من علامات نجابة الطلاب وهمة شيخهم، ومظنة البركة في العلم التي انعكست على تحول هؤلاء الطلبة أصحاب النجابة في الطلب إلى علماء يشار إليهم بالبنان. 

المبحث الثاني: دراسة النص

بعد وقوفنا على بعض عتبات النص قررنا أن نلج في عالم النص فالعتبات هي التي تشي ببعض من زوايا النص، وتعطي تصورًا عامًّا عنه، وتنم عن خبايا تجعل القارئ يأخذ موقفًا من النص إما بالإيجاب، فيقرر الولوج في سبحات النص، أو بالسلب فيحجم عنه، وينثني عن قراءته ؛ ونحن بعد هذه الدعوة المغرية التي وجهتها لنا عتبات النص قررنا الولوج في عالمه والنهل من منهله العذب. 

المطلب الأول: معاني النص 

انطوى النص على مجموعة ثرية من المعاني على قصره، وهذه المعاني جاءت على شكل نص أو تلميح، ولا غرابة في هذا الثراء الدلالي الذي امتلكه النص، إذ من المعلوم أن لغة الفقهاء تكون لغة مركزة موجزة خالية من الحشو والصنعة اللفظية الزائدة، وتكون فيها الكلمات تحوي أضعاف حجمها من الدلالات: إما بالنص أو بالإحالة على المعاني عن طرق الإحالة المختلفة.ومن هذه المعاني التي تضمنها النص:

أولاً: الحب والأخوة في الله

وهذا معنى جميل يجب أن يكون حاضرًا بين الشيخ وطلبته، ويكون رابط الحب في الله الذي يجمعهم معينًا على تلقي العلم وثباته في العقول، فكم من أستاذ يدرس طلبة لا يفيدون من علمه لكون علاقته بهم مقتصرة على العلاقة العقلية العلمية التي لا تعدو أن تكون معلومات تتناقل بينهم من غير علاقة قلبية، فيخفق الشيخ في عملية التعليم، ويخفق الطالب في عملية التعلم لعدم وجود الرباط القلبي بين الطرفين، وهذا ما أثبتته أحدث نظريات التعليم والتعلم المعاصرة. فإذا أضيف للعلاقة القلبية الترابط على منهج الله تعالى وعلى حبه فالمسألة دخلت في قضية البركة التي لا يوجد مقياس لها في العالم المادي، وهي أمر يعد من خصائص منهج الإسلام الذي يضاعف التعلم أن كان الرابط بين المعلم والمتعلم هو الترابط في سبيل الله تعالى.

ثانيًا: تواضع الشيخ الدبان رحمه الله

هذه العلاقة القوية الجامعة بين العلامة الدبان وتلاميذه الأفذاذ دليل على تواضعه، وهي في الوقت نفسه درس لكل عالم يريد الارتقاء بتلاميذه أن عليه أن يتعامل معهم تعامل الأخوة والمحبة، ويتخلى عن البرج العاجي الذي يرتقيه بعض أنصاف العلماء، ويتعالمون على طالب العلم، ويعاملونه معاملة فوقية تحجب عن الطالب الإفادة المثلى من شيخه، ناهيك عن توريثه خلق الكبر الذي قلما يسلم منه العباد والعلماء كما ذكر الإمام الغزالي(5). وقد انعكس هذا الخلق على تلاميذ العلامة الدبان، فكل من يعرف الشيخ العلامة الدكتور عبد الحكيم الأنيس والشيخ الدكتور قاسم الجوراني وغيرهما من تلاميذ الشيخ يرى خلق التواضع قد زانهم، والكبر أبعد ما يكون عنهم.

ثالثًا: السعادة في العلم

ابتسم الشيخ، وابتسم التلاميذ، وما هذه الابتسامة إلا ثمرة السعادة بالعلم الذي ينتظرهم في درس الشيخ، ومن جرب سعادة طالب العلم بعلمه هانت أمامه كل سعادة في الدنيا، فما ألطف شعورك وأنت تحصل على شذرات العلم من فم الشيخ حين يجود بها ! وما أجمل إحساسك وأنت ترى علامات الفهم في وجه طلابك لمسألة كانت مستعصية عليهم! فهي السعادة المتبادلة بين الشيخ وتلاميذه انعكست على وجوههم ابتسامة تداعب ابتسامة الصباح وهو يقبل وجه الأفق قبلة اللقاء، ويرسم على خدوده حمرة الخجل. 

رابعًا: مدح الطالب لزيادة الهمة

يستحب للشيخ أن يمدح طلابه الذين يرى منهم رجاحة في طلب العلم وإقبالاً على التحصيل لكي يزيد من همتهم، ويولد عندهم دوافع للتفوق، ويحثهم على المثابرة، لا سيما إذا كان متمتعًا بموهبة مثل موهبة الشعر الكامنة في قريحة العلامة الدبان رحمه الله تعالى، فيسخر هذه الموهبة لمدحهم وبعث الهمة في سلوكهم.

خامسًا: توثيق العالم لأسماء طلبته النجباء

يعد هذان البيتان من الشعر توثيقًا لتلمذة هؤلاء الأفذاذ على العلامة الدبان رحمه الله تعالى، فالشعر توثيق لكثير من الأحداث، ومن الفوائد التي تضمنها البيتان إثبات هذه التلمذة بلفظ الشيخ، وهي من أعلى درجات إثبات التلمذة، إذ قالها الشيخ ونقلها تلاميذه.

وتلاميذ العلامة الدبان الموثقة تلمذتهم عليه في هذا النص رتبناهم بحسب ورودهم في النص الشيوخ الأفذاذ: عبد الحكيم الأنيس، وعبد المنعم الجنابي رحمه الله، ورافع الرفاعي، وعبد الجليل الفهداوي رحمه الله تعالى، وهاتف الهيتي، وقاسم الجوراني مع حفظ الألقاب كل بما يليق به. وهم بهذا البيت ثبتت تلمذتهم على العلامة الدبان رحمه الله تعالى.

سادسًا: اعتزاز الطلبة بشيخهم

إن احتفاظ فضيلة العلامة الدكتور عبد الحكيم الأنيس بهذين البيتين ونقلهما لتلاميذه - وأنا أحدهم - لدليل واضح على اعتزازه بشيخه العلامة الدبان رحمه الله تعالى واحتفاظه بكل ما له علاقة به مثل خطه لهذين البيتين، وهذا لعمري من وفاء الطالب لشيخه، وقد رأينا كيف نشر العلامة الأنيس كتب شيخه وحضرنا مجالس أسمعنا فيها مقدمات كتب شيخه العلامة الدبان، وهذا من أعظم صور الوفاء للشيخ.

سابعًا: الطالب دال على شيخه

لقد احتل هؤلاء التلاميذ مكانة مرموقة في الساحة العلمية في العراق والوطن العربي بل والعالم أجمع، وهذه المكانة التي احتلوها تدل بما لا يقبل الشك أن هناك يدًا تعبت في إعدادهم وتكوينهم التكوين العلمي والإيماني العالي، فالطالب دليل على تلميذه ؛ فلئن لم نتشرف بالتلمذة على يد العلامة الدبان رحمه الله تعالى فلقد رأينا قوة علم الشيخ في تلاميذه الذين تزينت بهم المحافل العلمية، وهم ينشرون علمه. وقد يكون تسجيله لأسماء هؤلاء نوعًا من الفراسة التي استطاع من خلالها أن يستكنه مستقبلهم العلمي.

ثامنًا: العمل بالسنة 

أخبر الشيخ طلابه من خلال هذين البيتين بحبه لهم، وهذا عمل بالسنة بأن من أحب أخاه في الله فليخبره، وذلك مما يزيد من جو الألفة بين الإخوة ويكثر إفادة بعضهم من البعض الآخر.

وعمل الجميع الشيخ والتلاميذ بسنة الابتسامة التي هي بريد القلب، قال رسول الله : ((لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْقٍ))(6). ومعلوم أن طلاقة الوجه وانبساطه مع كل مسلم أمر يثاب عليه صاحبه، والتجهم عكسه وبخلافه(7)، وذلك لأن البشاشة في وجه المسلم تجلب له السرور والسعادة، وهي بلا شك حسنة(8).

المطلب الثاني: لغة النص

امتازت لغة النص بكونها لغة مباشرة قليلة الإيحاء والرمز، وذلك لكون النص ابن لحظته التي ولد فيها، ولم يلقَ من الصنعة ما يمكن أن تتوافر في إبداع علامة متمكن من اللغة تمكنًا فريدًا، وما يمكن أن يحظى به نص قائم على التأمل ومداومة النظر والإسفاف التي تلقاها النصوص التي يبدعها الشاعر على مهل وروية ؛ ومع تلك البساطة والتلقائية، فقد احتوى النص لمحات لغوية جميلة ارتأينا دراسته على مستويات دراسة اللغة على النحو الآتي:

المستوى الصوتي 

تضمن النص مجموعة من الأصوات المتناغمة التي لا تكاد تسمع منها صوتًا نشازًا يعكر صفو سمعك، بل هي متناسقة منسجمة يؤدي أحدها للآخر، ويكمل أولها آخرها، وقد شاع في المقطوعة صوتا الميم والنون، وهما من أجمل أصوات العربية لتضمنهما لصفة الغنة، وهي صوت لطيف يخرج من الخيشوم يضفي على العبارة التي يشيع فيها شيئًا من الجمال بحسب السياق والدلالة. وهذا الشيوع لصوتي الغنة يتلاءم مع جو الألفة والأخوة والمحبة والابتسامة التي امتلأ بها النص، فقد احتوى النص عبقرية التلاؤم بين الأصوات والمعاني. 

ومن جهة أخرى احتوى النص موسيقا كلما قرأته تذكرت موسيقا قصيدة امرئ القيس: (تعلق قلبي طفلة عربيةً).

المستوى الصرفي

استعمل المبدع جمع القلة (إخوة)، وهو جمع كلمة (أخ) على وزن (فِعْلَة)، وهو وزن من أوزان القلة، وهذا من دقته في استعمال الأوزان الصرفية، إذ إن التلاميذ الذين أتوه كانوا ستة، وبالتعبير عنهم بجمع القلة دقة في التعبير ومهارة في استعمال الأوزان الصرفية بمعانيها التي وضعت لها.

استعمل المبدع اسم الفاعل (باسم) تناغمًا صرفيًا مع أسماء الفاعلين التي جاءت عليها أسماء الأعلام التي ذكرها (منعم، رافع، هاتف، قاسم) وتناغمًا صرفيًا صوتيًا مع الثلاثة الأخيرة، ويكون بذلك تركيز بنية اسم الفاعل، وهو من أنواع التوظيف النصي للصيغ والأوزان يمكن أن نطلق عليه التكثيف، وهو مصطلح نعني به أن تأتي الصيغة أو الوزن مكررًا متواليًا في الجملة أو النص بغية تقوية المعنى وتركيزه في ذهن المتلقي ووجدانه. وبذلك حصلنا على بنية مهيمنة على النص هي بنية اسم الفاعل، وهيمنة صيغة اسم الفاعل على النص يناسب فاعلية هؤلاء الأفذاذ المذكورين في النص، وتحركهم وتأثيرهم في الساحة العلمية.

المستوى النحوي 

وقد تضمنت تراكيب النص مجموعة مهمة من التراكيب التي تشعر بالإبداع منها:

تقديم الخبر وهو شبه الجملة من الجار والمجرور (لي) من باب الاعتزاز، فقدم الضمير الدال عليه - وهو ياء المتكلم المجرور بحرف الجر - وفي ذلك اعتزاز بنسبتهم إليه.

تكون البيت الأول من جملتين مركزيتين، وتنوع شطراه بين كون الشطر الأول جملة اسمية والشطر الثاني جملة فعلية، وفي هذا من التنويع في طرائق التعبير، واستغلال القدرات التعبيرية الموجودة في اللغة العربية.

وبعد كل واحدة من الجملتين شبه جملة وتنوع شبه الجملة بين الشطرين: فالأولى بعدها جار ومجرور: (لي)، والثانية بعدها ظرف ومضاف إليه: (صباحَ اليوم).

وبعد كل شبه جملة جاءت جملة اسمية: الأولى في محل رفع صفة (قلبي يحبهم)، والثانية في محل نصب حال (الكل باسم).

وهندسة البيت الثاني التي توحي بعبقرية ناظمه فقد جاء التوازي واضحًا بين الشطر الأول والشطر الثاني ؛ إذ كل منهما بدأ بحرف: الأول الفاء، والثاني الواو، وعبد حكيم مناظر لعبد جليل، فكلاهما مضافان لكلمة (عبد)، وكلاهما على وزن (فَعِيْل)؛ وبعدهما اسما فاعلَيْنِ، فقدم الذي هو من الثلاثي المزيد بالهمزة (منعم)، وأخر الذي هو من الثلاثي المجرد (هاتف)، وبعدها جاء بحرف العطف (ثم)، وبعدهما اسما فاعلَيْنِ (رافع، قاسم). 

وهذا ما فتح الله تعالى علينا من أنوار هذا النص الجميل نضعه بين يدي القارئ الكريم ... لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ  [القصص: 70].

1 من رسالة أرسلها لي العلامة الدكتور عبد الحكيم الأنيس. 

2 شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام: 198.

3 علم العروض والقافية: 34.

4 استقينا هذه الترجمة مختصرة من مجلس قراءة (مقدمات أستاذنا الشيخ عبد الكريم الدبان التكريتي لعشرة من مؤلفاته) للشيخ العلامة الدكتور عبد الحكيم الأنيس حفظه الله تعالى.

5 إحياء علوم الدين: 3 / 405.

6 رواه أحمد: 23 / 57 برقم (14709)، ومسلم: 8 / 37 برقم (2626) كتاب البر والصلة والآداب / باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، والترمذي: 3 / 515 برقم (1970) أبواب البروالصلة عن رسول الله / بابٌ: ما جاء في طلاقة الوجه وحسن البشر.

7 ينظر إكمال المعلم: 8 / 50، والمنهاج:.

8 ينظر مرعاة المفاتيح: 14 / 163.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين