حدث في الحادي والعشرين من شوال وفاة المظفر الصنهاجي

في الواحد والعشرين من شوال من سنة 465 توفي في غرناطة المظفر الصنهاجي، باديس بن حَبُوس بن ماكسين الصِنهاجي، صاحب غرناطة، وأحد ملوك الطوائف بالأندلس، والذي ينحدر من عائلة بني زيري البربرية الصنهاجية.

بويع المظفر الصِنهاجي - وهو شاب - بعد وفاة أبيه سنة 428، وكان أول تحد واجهه هو من زهير العامري صاحب المرية Almeria والصَّقْلَبي الأصل، الذي هاجم غرناطة سنة 429 بجيش كثيف حتى وصل إلى بابها سنة 429، فقاتله باديس وانتصر عليه، وقُتِلَ زهير في آخر المعركة. والصقالبة هم من الشعوب السلافية وكانوا يجلبون من بلادهم إلى الأندلس ويباعون كعبيد واشتهروا بالقوة والبأس.

وممن قتل في هذه الموقعة وزيرٌ لزهير العامري هو أبو جعفر أحمد بن عباس، بذَّ الناس في وقته بأربعة أشياء: المال، والبخل، والعُجب، والكتابة، وكان جمَّاعاً للكتب حتى بلغت أربعمئة ألف مجلد، وبلغ ماله خمسمئة ألف مثقال جعفرية سوى غير ذلك.

وبعد انتصاره على زهير العامري أراد المظفر باديس انتزاع إشبيلية من المعتضد بن عباد، فأرسل إليها جيشاً فلاقاه المعتضد بجيش يرأسه ابنه إسماعيل، فقاتله رجال المظفر، وقُتِلَ إسماعيل وانهزم جنوده إلى إشبيلية سنة 434 فارتفع شأن المظفر باديس وهابه نظراؤه.

وكانت الدعاء في خطبة الجمعة في غرناطة للأدارسة من بني حمود أصحاب مالقة، ولكن باديس باديس خلع طاعة المستعلي الحمودي محمد بن إدريس، وتغلب على مالقة سنة 449 منهياً حكم بني حمود، وأَخرج المستعليَ منها منفياً إلى المرية، وأراد ابن عباد انتزاعها منه فأرسل إليها جيشاً دخلها ثم لم يلبث أن مزقه جيش باديس.

وكانت إلبيرة هي مدينة الأندلس قبل غرناطة، فبنى والده حبوس الصّنهاجي مدينة غرناطة وقصبتها وأسوارها وانتقل الناس إليها، ثم زاد في عمارتها ابنه باديس، وبنى قصراً فيها ليس ببلاد الإسلام والكفر مثله، فيما قيل، ومما كُتِبَ على هذا القصر:

قد كان صاحب هذا القصر مغتبطاً ... في ظل عيش يخاف الناس من باسه

فبينما هو مسرور بلذته ... في مجلس اللهو مغبوط بجلاسه

إذ جاءه بغتة ما لا مرَدَّ له ... فخرَّ ميتاً وزال التاج عن راسه

وكان حَبَّوس والد باديس قد استوزر أحد أحبار اليهود وكبير علمائهم وهو إسماعيل بن يوسف ابن النغرِلة اليهودي وهو تعريب لاسمه العبري Samuel ha-Nagid الذي يعني إسماعيل الرئيس، ويقال له كذلك ابن النغريلة، قال عنه المؤرخ المعاصر حيان بن خلف المعروف بابن حيان: وكان هذا اللعين في ذاته، على ما زوى الله عنه من هدايته، من أكمل الرجال علماً وحلماً، وفهماً وذكاء، ودماثة وركانة، ودهاء ومكراً، ومُلكا لنفسه وبَسطاً من خُلُقِه، ومعرفةً بزمانه، ومداراة لعدوه، واستسلالاً لحقودهم بحلمه، ناهيك من رجل كتب بالقلمين، واعتنى بالعِلْمين، وشُغِفَ باللسان العربي، ونظر فيه، وقرأ كتبه، وطالع أصوله، فانطلقت يده ولسانه، وصار يكتب عنه وعن صاحبه بالعربي، فيما احتاج إليه من فصول التحميد لله تعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، والتزكية لدين الإسلام، وذكر فضائله، ما يريده، ولا يقصر فيما ينشئه عن أوسط كُتَّاب الإسلام، قليلَ الكلام مع ذكائه، ماقتاً للسباب، دائم التفكر، جمّاعة للكتب.

ولما تسنم باديس عرش مملكة غرناطة بعد وفاة والده أبقى ابن النغرلة وزيراً له، وانغمس في الملذات تاركاً لوزيره أمور الحكم فأصبح – كما تقول الموسوعة البريطانية – الخليفة الفعلي يجهز الجيوش ويشارك في الحملات، وأصبح نفوذه من القوة بحيث أنه استطاع حين توفي في سنة 459 عن 58 عاماً أن يـُحِلَّ ابنَه يوسفَ مكانه في الوزارة.

قال ابن عذاري المراكشي في كتابه المسمى بالبيان المغرب: أبقى باديسُ كاتبَ أبيه ووزيرَه إسماعيل بن يوسف ابن نغرلة اليهودي، وعمالاً متصرفين من أهل ملته، فاكتسبوا الجاه في أيامه واستطالوا على المسلمين.

وكان قد ابن النغرلة قد حمل ولده يوسف المكنى بأبي حسين على مطالعة الكتب، وجمع إليه المعلمين والأدباء من كل ناحية، يعلمونه ويدارسونه، وأعلقه بصناعة الكتابة، ورشحه لأول حركته للكتابة عند الأمير سيف الدولة بُلُكِّين الابن الأكبر لباديس وولي عهده المنظور، ويقال له كذلك بُلقين وبولوغين، تمهيداً لأن يكون وزيره كما كان الأب وزير باديس، فلما مات الأب إسماعيل، أدنى باديس ابنه يوسف إليه، وأظهر الاغتباط به، والاستعاضة بخدمته عن أبيه.

وكان الأمير بُلكين عاقلاً نبيلاً، عينه والده والياً على مالقة في حياته، ومرشحاً للإمارة من بعده، وكانت بطانته من المسلمين، وكان مسلمو غرناطة في غاية الاستياء من تسلط ابن النغرلة، وقال شعراؤهم أبياتاً وقصائد في ذلك، فتكلم بلكين مع والده في عزل الوزير يوسف، وبلغ الوزيرَ ذلك المسعى من عيونه المبثوثين في القصر، لا يكاد باديس يتنفس إلا وهو يعلم ذلك، فدعا بلكين إلى قصره واستضافه وسقاه السم، فرام القيء فلم يقدر عليه، فحمل إلى قصره وقضى نحبه في يومه، وبلغ خبر وفاته إلى أبيه ولم يعلم السبب، فأخبره الوزير يوسف أن أصدقاء بُلكين وبعض جواريه سمُّوه، فقتل باديس جواري ولده، ومن فتيانه وبني عمه جماعة كبيرة، وخافه سائرهم ففروا عنه، وذلك في سنة 456.

واستغل الوزير هذه الحادثة ليفتك كذلك بقريب له يهودي يليه في الخدمة والوجاهة، يدعى بالقائد، شعر منه بمزاحمته إياه، فشغلت به ألسنة الناس، وملئت غيظاً عليه صدورهم، واتفق أن أغارت على غرناطة قوات من بني صُمادح في المرية قالت إنها جاءت بطلب من الوزير، وشاع في غرناطة أن ابن النغرلة كان يهدف إلى أن يضعف عرش باديس بافتعال مواجهة مع الصُمادحي، فإذا انتهى أمر باديس على يد ابن صمادح ثنّى عليه فألحقه بباديس.

وإزاء هذه الأمور نظم أبو إسحاق إبراهيم بن مسعود الفقيه الإلبيري الزاهد - وكان كاتب القاضي بغرناطة - قصيدة في الإغراء باليهود، وحوَّل التذمر من الضرائب إلى التذمر من جباتها الذين كان أغلبهم من اليهود، وأشار إلى الترف الذي يعيش فيه الوزير، ثم يشير إلى رسالة أنشأها والد الوزير حول ما زعمه تناقضا في القرآن الكريم، وردَّ عليه في حينها ابن حزم في كتابه الرد على إسماعيل اليهودي، ومن هذه القصيدة:

ألا قل لصنهاجة أجمعين ... بدور الندى وأسود العرين

لقد زلَّ سيدكم زلة ... تَقُرُّ بها أعين الشامتين

تخير كاتبَه كافراً ... ولو شاء كان من المسلمين

فعزَّ اليهود به وانتخوا ... وتاهوا وكانوا من الأرذلين

ونالوا مناهم وجازوا المدى ... فحاق الهلاك وما يشعرون

ثم يخاطب الملك باديس بعد مدحه

أباديس أنت امرؤ حاذق ... تصيب بظنك نفس اليقين

فكيف اختفت عنك أعيانهم ... وفي الأرض تضرب منها القرون

وكيف يتم لك المرتقى ... إذا كنت تبني وهم يهدمون

وكيف استَنَمْتَ إلى فاسق ... وقارنته وهو بئس القرين

فقد ضَجَّتِ الأرض من فسقهم ... وكادت تميد بنا أجمعين

على أنك الملك المرتضى ... سليل الملوك من الماجدين

وأن لك السبق بين الورى ... كما أنت من جلة السابقين

ثم يصف أعمالهم في جباية الضرائب

وإني حللت بغرناطة ... فكنت أراهم بها عابثين

وقد قسموها وأعمالها ... فمنهم بكل مكان لعين

وهم يقبضون جباياتها ... وهم يخضمون وهم يقضمون

ويأكل غيرهم درهما ... فيُقصى ويُدنون إذ يأكلون

ثم يشير إلى كتاب إسماعيل حول القرآن الكريم وولده يوسف الذي كان طائشاً لم يرث حكمة والده فاغتر بالسلطة واستهزأ بالمسلمين

وقد ناهضوكم إلى ربكم ... فما تمنعون ولا تنكرون

ويضحك منا ومن ديننا ... فإنا إلى ربنا راجعون

ولو قلتُ في ماله إنه ... كمالك كنتُ من الصادقين

فبادر إلى ذبحه قُربة ... وضَحِّ به فهو كبش سمين

ولا ترفع الضغط عن رهطه ... فقد كنزوا كل عِلق ثمين

ولا تحسَبَنْ قتلهم غَدرة ... بل الغدر في تركهم يعبثون

وقد نكثوا عهدنا عندهم ... فكيف تلام على الناكثين

فلا ترض فينا بأفعالهم ... فأنت رهين بما يفعلون

وراقب إلهك في حزبه ... فحزب الإله هم الغالبون

ولم يستجب باديس للقصيدة، ونفى الفقيه الإلبيري، وبقي منغمساً في ملذاته، عاكفاً على شرابه، وشاعت القصيدة بين الصنهاجيين التي تنسب الدولة إليهم، فقامت قيامتهم، وثاروا في سنة 459 مع العامة في غرناطة، فقتلوا الوزير يوسف وصلبوه على باب مدينة غرناطة، وقتلوا من اليهود في يومه مقتلةً عظيمة، ونهبوا دورهم، وبقي قبر الوزير وأبيه معروف لدى اليهود أمام باب إلبيرة Elviria.

كان باديس جباراً داهية، قال عنه الذهبي: كان سفاكا للدماء، فيه عدل بجهل. أتت له يوماً عجوزٌ فشكت عقوق ابنها، وأنه مد يده إلى ضربها، فأحضره وأمر بضرب عنقه، فقالت له: يا مولاي ما أردت إلا ضربه بالسوط. فقال: لست بمعلم صبيان! وضرب عنقه.

وحكى أيضا أن بعض أهل البادية كانت له بنت عم بديعة الحسن، فافتقر، ونزح بها، فصادفه في الطريق أمير صنهاجي، فأركبها شفقة عليها، ثم أسرع بها، فلما وصل البدوي، أتى دار الامير، فطردوه، فقصد الملك، فقال لذاك الأمير: ادفع إليه زوجته. فأنكر، فقال: يا بدوي! هل لك من شهيد ولو كلبا يعرفها؟ قال: نعم. فدخل بكلب له إلى الدار، وأخرجت الحريم، فلما رآها الكلب، عرفها وبصبص، فأمر الملك بدفعها إلى البدوي، وضرب عنق الأمير، فقال البدوي: هي طالق لكونها سكتت، ورضيت. فقال الملك: صدقت، ولو لم تطلقها لألحقتك به. ثم أمر بالمرأة، فقتلت.

ودخل أبو محمد غانم بن وليد مجلس أنس لباديس بن حبوس، فوسّع له على ضيق كان فيه، فقال:

صيِّرْ فؤادك للمحبوب منزلةً ... سُمُّ الخِياط مجالٌ للمحبّين

ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين

واستمر باديس مهيب الجانب مطاعا حتى مات سنة 465، وكان قد جعل ولي عهده حفيده عبد الله بن بُلُكين، المولود سنة 447، والذي صنف كتاباً أسماه التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري في غرناطة، سرد فيه بالتفصيل أحداث تلك الحقبة ونزاعات ملوك الطوائف وعلاقاتهم بالملك ألفونسو السادس ملك قشتالة، الدولة الصاعدة القوية في الأندلس، وضمنه مشاهداته وانطباعاته فيما يشبه المذكرات الشخصية.

وكانت أيام عبد الله بن بلكين سلسلة طويلة من النزاعات المسلحة مع جيرانه من الأمراء المسلمين وعلى رأسهم المعتمد ابن عباد، واستفاد من هذه الخلافات والاضطرابات الملك ألفونسو السادس، الذي كان يغذي التنافس بين أمراء الطوائف بعقد التحالفات معهم حتى إلى أن سقطت طليطلة في يده، وإزاء خطره الداهم اتفق أمراء الأندلس على الاستعانة بالمرابطين فجاء يوسف بن باديس من المغرب وأزال ملوك الطوائف واحداً تلو الآخر، وتحالف مع ألفونسو السادس ضد المرابطين، فحاصر ابن باديس غرناطة سنة 483، واستولى عليها، وأرسل عبد الله، وأخاً له يدعى تميم، إلى المنفى في آغمات في جنوب المغرب حيث كتب كتابه فيها وتوفي هناك، وبذلك اضمحل ملك بني زيري من صنهاجة ومن إفريقية والأندلس أجمع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين