المؤلِّفون الذين كوّنوا عقلي (5)

الإمام الفراهي

هو الإمام الأجل حميد الدين الفراهي (1280-1349هـ)، وترجمته كما ورد في نزهة الخواطر: الشيخ الفاضل عبد الحميد بن عبد الكريم بن قربان قنبر بن تاج علي، الأنصاري الفراهي الأعظمكدهي، المعروف بحميد الدين الفراهي، أحد العلماء المشهورين. ولد في جمادى الآخرة سنة 1280هـ في قرية فريهه من قرى مديرية أعظم كده، واشتغل بالعلم أياماً على المولوي محمد مهدي والعلامة شبلي النعماني، ثم سافر إلى لكهنؤ وأخذ عن العلامة عبد الحي بن عبد الحليم وشيخنا فضل الله بن نعمة الله، ثم سار إلى لاهور وتأدب على مولانا فيض الحسن السهارنبوري، ثم تعلم الإنكليزية ونال الفضيلة في العلوم الغربية أيضاً وامتاز في الفلسفة الحديثة.

ثم ولي التدريس بمدرسة الإسلام بكراتشي فدرس بها زماناً، ثم ولي بالمدرسة الكلية بعليكراه ثم بإله آباد، ثم سافر إلى حيدر آباد وتصدر بدار العلوم وأقام بها مدة من الزمان.

ثم اعتزل عنها ولازم بيته ببلدة أعظم كده عاكفاً على المطالعة والتأليف، وأسس في سراي مير قريباً من قريته مدرسة دينية سماها مدرسة الإصلاح، من أكبر مقاصدها تحسين طريقة تعليم العربية والاختصاص في علوم القرآن، وانتخب رئيساً للجنة دار المصنفين الإدارية.

وهو من كبار العلماء، له خبرة تامة بالعلوم الأدبية، وقدرة كاملة في الإنشاء والترسل، وتودد إلى معارفه وأصحابه مع جودة فهم، ووفور ذكاء، وزهد وعفة، وشهامة نفس وانجماع، لا سيما عن بني الدنيا وعدم اشتغال بما لا يعنيه، راسخ في العلوم العربية والبلاغة، متعمق فيها، متضلع من أشعار الجاهليين، وأساليب بيانهم، واسع الاطلاع على الصحف السابقة، حسن النظر في كتب اليهود والنصارى، عاكف على التدبر في القرآن، والغوص في معانيه وأساليبه، يعتقد أن القرآن مرتب البيان، منسق النظام، ويذهب إلى ربط الآيات بعضها ببعض، وقد بنى على ذلك تفسيره نظام الفرقان.

وله ديوان الشعر الفارسي، ومنظومة في اللسان الدرى لأمثال سليمان، ومنظومة بالأردو في الإعراب سماها تحفة الإعراب، ورسالتان في النحو والصرف، ورسائل بالعربية في تفسير القرآن، منها الإمعان في أقسام القرآن، والرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، وبعض أجزاء من تفسيره المسمى نظام الفرقان وتأويل القرآن بالقرآن منها تفسير سورة التحريم، والعصر، والذاريات، والشمس، والقيامة، والتين، والكافرون، واللهب، وجمهرة البلاغة، وديوان شعر عربي، ومنها ما لم يطبع إلى الآن، مات في التاسع عشر من جمادى الآخرة سنة 1349 في مدينة متهرا، ودفن بها.

وأثنى عليه شيخه العلامة شبلي النعماني والعلامة السيد سليمان الندوي، والعلامة أبو الكلام أزاد، والأستاذ عبد الماجد الدريابادي، وشيخنا الإمام أبو الحسن علي الندوي، رحمهم الله تعالى، ثناء بالغا عطرا مستفيدين من آرائه، ومنتفعين بعلمه.

وممن اعترف بفضله من الأعلام العرب العلامة رشيد رضا، كتب عنه في عدد صفر 1327 من مجلة المنار وقد وصلت إليه مؤلفات للفراهي: "وقد ألقينا على بعض هذه الرسائل لمحة من النظر، فإذا طريق جديد في أسلوب جديد من التفسير، يشترك مع طريقنا في القصد إلى المعاني من حيث هي هداية إلهية، دون المباحث الفنية العربية ... وإن للمؤلف لفهما ثاقبا في القرآن، وإن له فيه مذاهب في البيان .. وإنه لكثير الرجوع باللغة إلى مواردها والصدور عنها ريان من شواهدها".

وزاره العلامة تقي الدين الهلالي قبل وفاته بسبع سنين، فكتب عنه: "والرجل فصيح في التكلم لغاية، نادر في علماء العرب فضلا عن علماء الهند ... سمعت منه خطبة تفسيره للقرآن، اغرورقت منها عيناي لفصاحتها وحقيتها. وهو عارف بمسألة الخلافة محقق لها، لا يلتبس عليه شيء من أمرها خلافا لأهل الهند، مجتهد في العقائد والعمليات، لا ينتمي لمذهب لكنه يتعبد على مذهب الحنفية لأنه نشأ عليه ويعتقد أن الأمر في مثل ذلك سهل. ماهر في الإنجليزية والعربية والفارسية والأردية. وبالجملة فهو أعلم من لقيته قبل هذا الحين، وهو 17 رمضان 1342 هـ" (1).. (مجلة الضياء، المجلد الثاني، العدد السابع، ص 260).

عنايته بكتاب الله تعالى

قضى عمره في تدبر كتاب الله واستكشاف معانيه، واستجلاء دقائقه، وفاق أقرانه في بيان نظام القرآن وربط آياته وسوره، يقول في مقدمة نظام القرآن: "إني قد تصفحت كتب التفسير وسبرتها سبرا، فما وجدتها إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فلم تبرد غلتي، بل زادت قلبي حرا، وملأت كبدي جمرا".

"ففزعت إلى تدبر كتاب الله وسعة معانيه وتركت أقاويل الناس هجرا، وكانت بداية أمري أني بينما كنت أجيل الطرف في نجوم الآيات إذ أضاء لي في أفقها الأعلى سلك نظامها مثل الخيط الأبيض من الصبح فما ازداد إلا سطوعا وجهرا، فكشف الحجاب عن فؤادي أو طحر قذى عن عيني طحرا، فأبصرت قصدي وتبينت رشدي وصرت أعمل في أساليب نظامها وأعاجيب رباطها فكرا".

"وقضيت على ذلك عصرا، ومن أحسن عمري شطرا، حتى ولى الشباب ظهرا، وأذاقني المشيب طعما مرا، وكرت علي الأسقام والأوجاع كرا، ولامني الصديق ونظر الحقود إلي شزرا، بأني ركبت وعرا، وتوليت أمرا إمرا، ولكني لم أزل مشتغلا بخصيصاي لا أقصر عنها قصرا، كأن أمرا من السماء يسوقني إليها قسرا".

ومن أشرف مؤلفاته: دلائل النظام، ومفردات القرآن، وإمعان في أقسام القرآن، والتكميل في أصول التأويل، وأساليب القرآن، وحجج القرآن، وحكمة القرآن، والرسوخ في معرفة الناسخ والمنسوخ، ومقدمة تفسيره نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان، وتفسير سورة البقرة، وتفسير السور المختلفة، وتعليقاته في التفسير.

نظام القرآن: وأبدع ما توصل إليه في فهمه للكتاب العزيز هو العثور على النظام فيه، يقول في كتابه دلائل النظام: "قد صنف بعض العلماء في تناسب الآيات والسور، أما الكلام في نظام القرآن فلم أطلع عليه، والفرق بينهما أن التناسب إنما هو جزء من النظام.. فإن التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئا واحدا مستقلًا بنفسه، وطالِب التناسب ربما يقنع بمناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها؛ فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بُعد منها، ولولا ذلك لما عجز الأذكياء عن إدراك التناسب".

ويقول: "إن المراد بالنظام أن تكون السورة كلا واحدا، ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة، أو بالتي قبلها أو بعدها على بُعد منها، فكما أن الآيات ربما تكون معترضة، فكذلك ربما تكون السورة معترضة، وعلى هذا الأصل نرى القرآن كله كلاما واحدا، ذا مناسبة وترتيب في أجزائه، من الأول إلى الآخر؛ فتبين مما تقدم أن النظام شيء زائد على المناسبة وترتيب الأجزاء".

ويقول: "إن نظام القرآن ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو المنهاج الصحيح لتدبر القرآن، وهو المرجِّح عند تضارب الأقوال، وهو المعيِّن عند تعدد الاحتمالات، وهو الإقليد الذي تُفتح به كنوز القرآن".

ويقول: "إن التناسب جزء من النظام، فإن التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئا واحدا مستقلا بنفسه، وطالب التناسب ربما يقنع بمناسبة ما، فربما يغفل عن المناسبة التي ينتظم بها الكلام، فيصير شيئا واحدا. وربما يطلب المناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها، فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بعد منها. فإن عدم الاتصال بين آيات متجاورة يوجد كثيرا. ومنها ما ترى فيه اقتضابا بينا، وذلك إذا كانت الآية أو جملة من الآيات متصلة بالتي على بعد منها".

العلم والعمل: إن الأساس الذي يبتني عليه علم الإنسان وينطلق منه عمله: فطرته، وحواسه، وعقله، وإرادته، ولعل أفضل من تكلم عن أهمية الفطرة هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكلامه طويل جدا ومقنع، قرأته مرارا وترجمت كثيرا منه إلى اللغة الإنكليزية، ألتقط هنا منه لقطة، يقول: "كل مولود يولد على الفطرة ليس المراد به أنه حين ولدته أمه أن يكون عارفا بالله موحدا له بحيث يعقل ذلك، فإن الله يقول: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا)، ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر، ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك، وتستوجبه بحسبها. فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة، حصل من معرفتها بربها، ومحبتها له، ما يناسب ذلك كما أنه ولد على أنه يحب جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، وحينئذ فحصول موجب الفطرة، سواء توقف على سبب، وذلك السبب موجود من خارج، أو لم يتوقف، على التقديرين يحصل المقصود. ولكن قد يتفق لبعضها فوات الشرط أو وجود مانع، فلا يحصل مقصود الفطرة".

ويتلوه الإمام الفراهي في الكشف عن دور الفطرة، يقول: "قد وجدنا النفس في فطرتها مدركة ذائقة، وهكذا نرى الحواس، فإنها ليس لها محض الإخبار، بل لها لذة وألم، فالنفس بإدراكها تحكم بالوجود، وكون الشيء شيئا، وبذوقها تحكم بكون الشيء مرغوبا فيه أو مرغوبا عنه، وهذا الطرف هو أصل جميع أفعالها وأعمالها". (حجج القرآن 76)

ويقول: "اعلم أن القرآن صرح كثيرا بأن دين الله هو الفطرة، والإنسان مسؤول حسبما أودع فطرته، فيناديه من جانب فطرته ويخاطبه من مركز وجوده، فإن الفطرة أصل علومه وإرادته، فلا علم حتى البديهيات إلا وهي أصله وأمه، فبها يوقن ويحكم، وهي حاكمة عليه". (حجج القرآن 79).

ويقول وهو يتحدث عن الحواس: "وهي مصادر علوم الإنسان، قال تعالى: (أفلم نجعل له عينين ولسانا وشفتين). قال الفراهي: الإنسان مفطور للرقي إلى أعلى المنازل، وهو قربة الرب تعالى، وذلك بما ركب فيه السمع والبصر، وجعل الفؤاد حاكما فيه (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون (سورة النحل 78)، أي حين أخرجكم لا تعلمون شيئا، ولكن جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لتكسبوا بها علما ومعرفة، وغاية ذلك أن تشكروا. (حجج القرآن 74).

ويقول وهو يتحدث عن معنى الإرادة والعمل: "وإذا كان الفكر والنظر من عمل النفس، ولا عمل إلا بإرادة، ولا إرادة إلا برغبة، ولا رغبة إلا بذوق، غمع أن العلم غير الذوق، ولا تترقى النفس في العلوم والمعارف أيضًا إلا من جانب الذوق والإرادة والفعل". (حجج القرآن 76).

ويقول: "العمل يعقب الإرادة، ولكن إنشاء الإرادة قد لا يكون سهلا، لأن الهوى والعقل يتنازعان، والهوى والوحي يتنازعان، فمن رحمة الله بعباده أن هداهم إلى الإيمان والتقوى، وذلك مما يساعده على إرادة الخير".

انتفاعي بكتابات الإمام الفراهي:

لقد قرأت كل ما تيسر لي من كتابات الفراهي منذ صغري، وأنا مديم النظر فيها وعاكف عليها، فإنها أنشأت في حبا عجيبا للقرآن الكريم، واعتمادا له في الهدى والعلم، ووقفا لنفسي على تدبره، وتعميقا لجذور الإيمان في عقلي، وتثبيتا للإسلام وشعبه في قلبي، وربط بيان النبي صلى الله عليه وسلم به متعاضدين، والكشف عن حقيقة الدين، والفصل بين أصوله وفروعه، ووضع المذاهب الفقهية موضعها في غير إفراط ولا تفريط، وتجنب البدع الكلامية والفلسفية والطرقية.

وإني أنوي بعد من فراغي من شرحي لصحيح مسلم أن أعمل تفسيرا متوسطا لكتاب الله تعالى في اللغات العربية والإنكليزية والأردية، وأدعو الله العون والتوفيق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين