أحاديث الفتن وتنزيلها على الواقع

لا تخلو حقبةٌ زمنيةٌ في التاريخ الإسلامي من ظهور جماعات أو أشخاص يحاولون إسقاط بعض النصوص الدينية على واقعهم الذي يعيشون فيه، ليفسروا من خلال تلك النصوص بعض الظواهر السياسية أو الحروب الناشبة، حتى كان الوهم في تنزيل النصوص على الواقع في كثير من الأحيان سبباً من أسباب الغلو والتطرف. 

ومن هذه النصوص ما أورده البخاري في صحيحه في (كتاب الفتن) فقد ذكر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث الفتن وكثرة الهرج في آخر الزمان(1)، كما ذكر فيه ما يكون من أحداث في ذلك الوقت، وهي ما أطلق عليها المحدثون (علامات الساعة). 

ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الحديث من بابٍ تجمع فيه أحاديث الفتن وأشراط الساعة، بل ذهب بعض العلماء إلى إفراد ما ورد في الفتن وعلامات الساعة في كتاب مستقل، كما فعل نعيم بن حماد(2) فقد جمع هذه الأحاديث في كتاب سماه (الفتن) ذكر فيه تفصيلات دقيقة تتعلق بظهور الفتن في الشام والعراق، وقتال المسلمين مع اليهود، ونزول الروم في الأعماق ودابق، وفتح القسطنطينية، وظهور السفياني، وخروج المهدي، وخروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم، بل ذهب به الأمر إلى تحديد مدة بعض الأحداث بالسنوات، وكذلك فعل حنبل بن إسحاق(3) فقد جمع أحاديث الفتن في كتاب سماه (الفتن). 

وبغضِّ النظر عن صحة هذه الأحاديث التي يندرج غالبها تحت الموضوع وواهي الضعف والضعيف، والتي قام العلماء بتحقيقها وتوضيح الصحيح من الضعيف فيها، إلا أنها كانت محلّ تفسيراتٍ غريبةٍ في محاولات تنزيلها على الواقع، أو البناء على ما تشير إليه هذه النصوص، وفهم الظواهر السياسية والاجتماعية من وحي ما ورد فيها، وتحديداً في وقتنا الذي عصفت فيه الفتن في كلٍ من الشام والعراق، لأن أغلب أحاديث الفتن تشير إليهما، وتبين وقوع الأحداث الجسام فيهما.

وإن استعراض هذه الأحاديث ومناقشتها يحتاج إلى دراسات وأبحاث، إلا أنه من المفيد في الجملة الإشارة إلى ما كتبه أحد العلماء المعاصرين حيث قال: (إن الأصل في تنزيل أحاديث الفتن على الأزمان والأشخاص الردُّ)(4) وهذا الضابط من الأهمية بمكان، والتساهل به فيه خطورة وجناية على النصوص، والمقصود بهذا الضابط: أن الأصل في تنزيل أحاديث الفتن على ما يقع في حياة الناس من فتنٍ حاضرة أو أشخاصٍ بعينهم الردّ، سدَّاً لذريعة التقوُّل والتخرُّص على نصوص الفتن بغير علم، والتساهل في هذا الباب، لاسيما مع كثرة الشائعات وتعلُّق كثير من النفوس بتتبع الغرائب، وكثرة الفتن الحاضرة، ومحبَّة البعض في وعظ الناس بربطهم بأحاديث الفتن، هذا وغيره يستدعي تساهل البعض الحاصل في إنزال نصوص الفتن على الأحداث أو الأشخاص في واقعة، ولقد كثرت المؤلفات في هذا الإنزال والمجازفة في الزجِّ بأحاديث الفتن على ما يقع من أحداث، ولذا كان الأصل في هذا الباب الردّ.

ولا يعني القول بأن الأصل الردّ هو أنه لا يُشرع التنزيل، فليس هذا المقصود، وإنما التنزيل جاء في كلام أهل العلم بضوابطه، والناس في هذا الباب متفاوتون، فمنهم من تساهل في إنزال أحاديث الفتن على الواقع كما تقدَّم بيانه، ومنهم من تشدّد ومنع هذا الباب جملة وتفصيلًا، والحقُّ أن التنزيل يصحُّ بضوابطه كما سيأتي، فكان الأصل الردّ صيانةً لأحاديث الشريعة، وحفظًا لمعانيها، وقد وقع تنزيل أحاديث الفتن على الوقائع في عصر التنزيل ومن ذلك خبر الدجال، فحين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبر الدجَّال ظنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- أنه في طائفة النخل، فذهبوا يبحثون عنه، وشكُّوا في ابن صياد أن يكون هو المسيح الدجال، بل إن بعض الصحابة أقسم على ذلك منهم عمر وجابر رضي الله عنهما"(5). 

ولذلك فإن تنزيل النصوص على الواقع دون تأصيل وإحاطة بعلوم أصول الشريعة والتفسير يؤدي إلى جملة من المحاذير من أهمها: 

أولاً: عدم البحث عن صحتها، وقبولها على عواهنها، وإن كانت موضوعة أو واهية.

ثانياً: تحريف معانيها، وإخراجها عن مراد المتكلم بها، من خلال التكلف في التأويل أو الاقتباس المخل، أو أخذها بمعزل عن سائر ما ورد في الباب، أو يستنبط منها أشياء على غير قواعد أهل العلم في الاستدلال.

ثالثاً: من أسوأ أنواع هذا التحريف وأخطره التعدي على المسلًمات والقواعد الكليات، سواء فيما يخص الشرع بعامة، أو الفتن بخاصة، مثل: تحديد موعد قيام الساعة، أو موعد خروج المهدي، أو موعد زوال دولة يهود.. وهكذا"(6).

لقد رسمت أحاديث علامات الساعة وأحداث آخر الزمان فضاء واسعاً في خيال بعض القادة في كثير من مراحل التاريخ، فمحمد بن تومرت (ت: 524هـ) سمى نفسه (المهدي) واستهوى حركته التي قام بها على أساس الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم تحولت إلى حركة حربية عسكرية معتمداً في إقناع أتباعه على فكرة ظهور المهدي المنتظر(7). 

وفي عصرنا الحالي فإن محاولات تنزيل النصوص على الأحداث والأشخاص لا تزال تستهوي البعض ممن يطمح إلى التغيير في الواقع أو التأثير فيه، كما فعل محمد بن عبد الله القحطاني في ادعائه أنه المهدي المنتظر سنة 1400 للهجرة، ووقعت الأحداث التي تعرف بأحداث الحرم المكي في ذلك الوقت. 

ولم يقتصر الأمر اليوم على أشخاص يقومون بدعواتٍ بناءً على تنزيل النصوص على أنفسهم أو غيرهم، بل تعدى الأمر ذلك لتقوم جماعات بتنظيم أفكارها وأعمالها بناء على فهمها للنصوص الواردة وتنزيلها على الواقع المعاصر ، كما تفعل بعض الجماعات المسلحة في كل من العراق والشام، فراحوا من خلال كلماتهم المصورة والمسموعة يبشرون بفتح روما، وينذرون الأمم الأخرى بالسيطرة عليها بعد أن ينزل الروم في الأعماق ودابق، وراحوا يفسرون ما يجري الآن في سوريا بأنها الأحداث المقصودة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يفتحون روما! 

إن الأمر لا يقف هنا عند المحاذير التي وردت سابقاً في مخاطر تنزيل النصوص على الواقع المعاصر، وإنما يدعو الناس إلى الشك في دينها عندما يطوي التاريخ صفحة الأحداث، ويجد الناس أنفسهم أمام تاريخ جديد.

1 - انظر: صحيح البخاري كتاب الفتن، تحقيق: محمد زهير عبد الناصر، (1422)، دار طوق النجاة، ج9 ص 46. 

2 - أبو عبد الله نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخزاعي المروزي (المتوفى: 228هـ)

3 - أبو علي حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 273هـ)

4 الدكتور عبد الله بن حمود الفريح، تنزيل نصوص الفتن وأشراط الساعة على الواقع المعاصر – موقع الألوكة http://www.alukah.net/web/alferieh/0/59524/ بتصرف

5 - المرجع السابق 

6 - العراق في أحاديث وآثار الفتن، أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، (2004) مكتبة الفرقان، دبي، ج2 ص 599. 

7 - البداية والنهاية لابن كثير، تحقيق: علي شيري، (1988) دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ج12 ص 230.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين