المؤلِّفون الذين كوّنوا عقلي (4)

الإمام الذهبي

هو الإمام الحافظ المؤرخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، المتوفى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة، قال ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله في ترجمته: "الشَّيْخ الامام الْحَافِظ الْهمام، مُفِيد الشَّام، ومؤرخ الإسلام ناقد الْمُحدثين وَإِمَام المعدلين والمجرحين ... ومشيخته بِالسَّمَاعِ والإجازة نَحْو ألف شيخ وثلاثمائة شيخ، وَكَانَ آيَة فِي نقد الرِّجَال، عُمْدَة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل، عَالما بالتفريع والتأصيل، إِمَامًا فِي الْقرَاءَات، فَقِيها فِي النظريات، لَهُ دراية بمذاهب الْأَئِمَّة وأرباب المقالات، قَائِما بَين الْخلف بنشر السّنة وَمذهب السّلف". (الرد الوافر ص 31) .

وقال تاج الدين السبكي رحمه الله: "وَأما أستاذنا أَبُو عبد الله فَبَصر لَا نَظِير لَهُ، وكنز هُوَ الملجأ إِذا نزلت المعضلة، إِمَام الوُجُود حفظا، وَذهب الْعَصْر معنى ولفظا، وَشَيخ الْجرْح وَالتَّعْدِيل، وَرجل الرِّجَال فِي كل سَبِيل، كَأَنَّمَا جمعت الْأمة فِي صَعِيد وَاحِد فنظرها، ثمَّ أَخذ يخبر عَنْهَا إِخْبَار من حضرها. وَهُوَ الَّذِي خرّجنَا فِي هَذِه الصِّنَاعَة، وأدخلنا فِي عداد الْجَمَاعَة". (طبقات الشافعية 9/101).

له مصنفات أصيلة معتمدة على الذروة من الجودة والإتقان، سارت بها الركبان، ونالت القبول عبر الزمان وفي أقاصي البلدان، منها "سير أعلام النبلاء"، وهو الكتاب الذي سأتحدث عنه في هذا المقال.

سير أعلام النبلاء

طالعت كثيرا من تراجم "تذكرة الحفاظ" للذهبي وأنا في دار العلوم لندوة العلماء، ولم أطلع على "سير أعلام النبلاء" بها، ولما قدمت إلى أوكسفورد سنة 1991م اقتنيته من مكتبتها وقرأته من أوله وآخره، فعلق به قلبي كلفا به هائما، واشتريته لنفسي، معيدا قراءته ومطالعته، غير متشبع منه، أنشأ في تذوقا عجيبا للأسانيد وطبقات الرجال والعلل، وأتبعته بمطالعة "فهرس الفهارس" للحافظ عبد الحي الكتاني فوقفت على اتصالات المتأخرين وأسانيدهم، حدثني الطنجي عن الجوزي بن الجوزي يقول: "فهرس الفهارس" ورد أهل الحديث". قلت: يا ليت أحمد أنصف وجعل سير أعلام النبلاء "المجلي"، وفهرس الفهارس "المصلي".

والإمام الذهبي من أعلم العلماء بالتراجم، واسع الإطلاع، غزير المعارف، استعمل أسلوباً فريداً في انتقاء التراجم باسطا لها وقابضا، وموسعا ومختصرا، شاملا لجميع المشاهير والأعلام من الصحابة ومن بعدهم من العلماء، والمحدثين، والفقهاء، والمفسرين، والقراء، والأدباء، والأطباء، واللغويين، والنحاة، والشعراء، الخلفاء، والملوك، والسلاطين، والوزراء، والقضاة، وأرباب الملل والنحل، والمتكلمين والفلاسفة، من كافة أنحاء العالم الإسلامي، مع الكلام على المسائل العلمية في الحديث والفقه والتفسير والكلام والأخلاق، والحكم على الأحاديث سندا ومتنا.

والكتاب حافل بالفوائد العلمية البديعة، أنتقي منها ما يتعلق بالحديث والإسناد:

تدليس الصحابة: قال يزيد بن هارون سمعت شعبة يقول كان أبو هريرة يدلس قلت تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم والصحابة كلهم عدول .(2/608)

الواقدي لا يعي ما يقول: في ترجمة معاوية رضي الله عنه: قال الواقدي وشهد معه حنينا فأعطاه من الغنائم مئة من الإبل وأربعين أوقية قلت الواقدي لا يعي ما يقول فإن كان معاوية كما نقل قديم الإسلام فلماذا يتألفه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان أعطاه لما قال عندما خطب فاطمة بنت قيس أما معاوية فصعلوك لا مال له. (3/122).

فرية بابا رتن الهندي: أبو الطفيل خاتم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، واستمر الحال على ذلك في عصر التابعين وتابعيهم وهلم جرا، لا يقول آدمي إنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نبغ بالهند بعد خمسمائة عام بابا رتن، فادعى الصحبة، وآذى نفسه، وكذبه العلماء . فمن صدقه في دعواه، فبارك الله في عقله، ونحن نحمد الله على العافية . (4/467-468).

السنن لاترد بالدعاوي: قال أبو عبيد الآجري حدثنا أبو داود حدثونا عن الأشجعي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال كانوا يرون أن كثيرا من حديث أبي هريرة منسوخ قلت وكان كثير من حديثه ناسخا لأن إسلامه ليالي فتح خيبر والناسخ والمنسوخ في جنب ما حمل من العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم نزر قليل وكان من أئمة الإجتهاد ومن أهل الفتوى رضي الله عنه فالسنن الثابتة لا ترد بالدعاوى. (4/528).

مرسل الزهري: قال يحيى بن سعيد القطان مرسل الزهري شر من مرسل غيره لأنه حافظ وكل ما قدر أن يسمي سمى وإنما يترك من لا يحب أن يسميه قلت: مراسيل الزهري كالمعضل لأنه يكون قد سقط منه اثنان ولا يسوغ أن نظن به أنه أسقط الصحابي فقط ولو كان عنده عن صحابي لأوضحه ولما عجز عن وصله ولو أنه يقول عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن عد مرسل الزهري كمرسل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ونحوهما فإنه لم يدر ما يقول نعم مرسله كمرسل قتادة ونحوه. (5/338-339).

ليس من شرط الثقة أن لا يغلط أبدا: وقال أبو بكر بن خلاد سمعت يحيى بن سعيد القطان وذكر حسين المعلم فقال فيه اضطراب قلت الرجل ثقة وقد احتج به صاحبا الصحيحين ومات في حدود سنة خمسين ومئة وذكر له العقيلي حديثا واحدا تفرد بوصلة وغيره من الحفاظ أرسله فكان ماذا فليس من شرط الثقة أن لا يغلط أبدا فقد غلط شعبة ومالك وناهيك بهما ثقة ونبلا وحسين المعلم ممن وثقه يحيى بن معين ومن تقدم مطلقا وهو من كبار أئمة الحديث والله أعلم. (6/346).

الرؤساء في العلوم: قال الفضل بن محمد الشعراني سمعت يحيى بن أكثم يقول كان في الناس رؤساء كان سفيان الثوري رأسا في الحديث وأبو حنيفة رأسا في القباس والكسائي رأسا في القراء فلم يبق اليوم رأس في فن من الفنون قلت كان بعد طبقة هؤلاء رؤوس فكان عبد الرحمن بن مهدي رأسا في الحديث وأبو عبيدة معمر رأسا في اللغة والشافعي رأسا في الفقه ويحيى الزبيري رأسا في القراءات ومعروف الكرخي رأسا في الزهد ثم كان بعدهم ابن المديني رأسا في الحديث وعلله وأحمد بن حنبل رأسا في الفقه والسنة وأبو عمر الدوري رأسا في القراءات وابن الأعرابي رأسا في اللغة والسري السقطي رأسا في الزهد، ويمكن أن نذكر في كل طبقة بعد ذلك أئمة على هذا النمط إلى زماننا فرأس المحدثين اليوم أبو الحجاج القضاعي المزي ورأس الفقهاء القاضي شرف الدين البارزي ورأس المقرئين جماعة ورأس العربية أبو حيان الأندلس ورأس العباد الشيخ علي الواسطي ففي الناس بقايا خير ولله الحمد. (7/249-250).

التشديد في رواية الحديث: وقال يحيى بن المغيرة الرازي عن ابن عيينة لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره قلت لهذا أكثر الأئمة على التشديد في أحاديث الأحكام والترخيص قليلا لا كل الترخيص في الفضائل والرقائق فيقبلون في ذلك ما ضعف اسناده لا ما أتهم رواته فإن الأحاديث الموضوعة والاحاديث الشديدة الوهن لا يلتفتون اليها بل يروونها للتحذير منها والهتك لحالها فمن دلسها أو غطى تبيانها فهو جان على السنة خائن لله ورسوله فإن كان يجهل ذلك فقد يعذر بالجهل ولكن سلو أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. (8/520).

المعمرون: قال في الرواة عن أبي داود الطيالسي: وخلق آخرهم موتا محمد بن أسد المديني شيخ أبي الشيخ له عنه مجلس ليس عنده سواه وعمر إلى سنة ثلاث وتسعين ومئتين ولقيه الطبراني فعاش بعد أبي داود تسعين عاما وهذا نادر جدا لم يتهيأ مثله إلا للبغوي وأبي علي الحداد وابن كليب وأناس نحو بضعة عشر شيخا خاتمتهم أبو العباس الحجار. (9/380).

أصحاب الرأي وترك الأحاديث: قال أحمد بن حنبل أخبرني رجل من أصحاب الحديث أن يحيى ابن صالح قال لو ترك أصحاب الحديث عشرة أحاديث يعني هذه التي في الرؤية ثم قال أحمد كأنه نزع إلى رأي جهم قلت والمعتزلة تقول لو أن المحدثين تركوا ألف حديث في الصفات والأسماء والرؤية والنزول لأصابوا والقدرية تقول لو أنهم تركوا سبعين حديثا في إثبات القدر والرافضة تقول لو أن الجمهور تركوا من الأحاديث التي يدعون صحتها ألف حديث لأصابوا وكثير من ذوي الرأي يردون أحاديث شافه بها الحافظ المفتي المجتهد أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون أنه ما كان فقيها ويأتوننا بأحاديث ساقطة أولا يعرف لها إسناد أصلا محتجين بها قلنا وللكل موقف بين يدي الله تعالى يا سبحان الله أحاديث رؤية الله في الآخرة متواترة والقرآن مصدق لها فأين الإنصاف. (10/455).

معنى كثرة الأحاديث: قال عبد الله بن أحمد قال لي أبو زرعة ابوك يحفظ الف الف حديث فقيل له وما يدريك قال ذاكرته فاخذت عليه الابواب فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله وكانوا يعدون في ذلك المكرر والاثر وفتوى التابعي وما فسر ونحو ذلك والا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك. (11/67).

كل يؤخذ من قوله ويترك: وأصل المدونة أسئلة سألها أسد بن الفرات لابن القاسم فلما ارتحل سحنون بها عرضها على ابن القاسم فأصلح فيها كثيرا وأسقط ثم رتبها سحنون وبوبها واحتج لكثير من مسائلها بالآثار من مروياته مع أن فيها أشياءلا ينهض دليلها بل رأي محض وحكوا أن سحنون في أواخر الأمر علم عليها وهم بإسقاطها وتهذيب المدونة فأدركته المنية رحمه الله فكبراءالمالكية يعرفون تلك المسائل ويقررون منها ما قدروا عليه ويوهنون ما ضعف دليله فهي لها أسوة بغيرها من دوواين الفقه وكل أحد فيؤخذ من قوله ويترك إلا صاحبه ذاك القبر صلى الله عليه وسلم تسليما فالعلم بحر بلا ساحل وهو مفرق في الأمة موجود لمن التمسه. (12/68).

الصوفية والحديث: قال الحافظ أبو سعيد النقاش في كتاب طبقات الصوفية محمد ابن منصور الطوسي أستاذ أبي سعيد الخراز وأبي العباس بن مسروق كتب الحديث الكثير ورواه قلت متى رأيت الصوفي مكبا على الحديث فثق به ومتى رأيته نائيا عن الحديث فلا تفرح به لا سيما إذا أنضاف إلى جهله بالحديث عكوف على ترهات الصوفية ورموز الباطنية نسأل الله السلامة .(12/213).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين