الموقف من أحاديث الطب النبوي

أحد الإخوة الفضلاء أرسل إلي هذا الرابط يقول:

ما تعليقك على هذا المقطع ؟!

فكتبتُ في جوابه: أصلح الله الدكتور حذيفة.

الكلام طويل الذيل. كثير الثغرات.

فيه تساهل غير محمود، بلغ بالأخ الفاضل أن ينسف أحاديث الطب النبوي كلها، حتى ما صحّ به الخبر منها.

تساهل في الشطب والإلغاء، وكأنه يتحدث عن تطبُّب طبيب العرب الحارث بن كَلَدة الثقفي، أو عن تطبُّب عجائز الأرياف في القرن التاسع عشر، وليس عن تطبُّب خاتم النبيين وسيد المرسلين، الذي ما خرج من فيه إلا الحق، أشفقِ الناس على أمته في دينها ودنياها. صلى الله عليه وسلم.

ومن المستنكر جدا أن يقدِّم الدكتور حذيفة بين يدي تهوين شأن الأحاديث النبوية في الطب، بحكاية امرأة ذهبت إلى مشعوذ لبَّس عليها واستغلّ سذاجتها واستثمر في علتها، ليأكل مالها بالباطل.

ليدخل بعد ذلك مباشرة في التشكيك في الطب النبوي الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، في ربط عجيب بين الحق والباطل.

ثم يرسخ ذلك الربط بختم حديثه بالتحذير من التطبب عند المشعوذين والدجالين

وهو ربط ظالم خاطئ غير موفَّق، يحمل إلى المتلقي رسالة مفادها أن الطب النبوي ضرب من الشعوذة والاحتيال، أو أن الشعوذة شكل من أشكال الطب النبوي.

حتى ولو لم يُرد المتحدث ذلك.

وفي هذا تطاول على مقام النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُرده الأخ المتحدث، ولكنه التساهل في الحديث عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الطب، وكأنه حديث زيد من الناس.

يجب على الباحث المسلم عند حديثه عن أي شأن من شؤون النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوخى غاية الحذر، حتى لا يصدر منه ما ينافي ما أُمِرنا به من التعزير والتوقير.

ما يذكره العلماء في شرح حديث أنتم أعلم بأمور دنياكم. يُذكر مقرونا بشرح الحديث، لتوضيحه.

ولا يصح أن يجرَّد منه بحث مقصوده الدعوة إلى عدم الاكتراث بتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في الطب والتداوي، ولا في سائر أمور الدنيا.

خصوصا في هذا الوقت الذي تستعر فيه هجمة الزنادقة على السنة.

وأقتطفُ هنا عبارات نيرات مما قاله القاضي عياض رحمه الله. في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) صلى الله عليه وسلم، حول هذا الموضوع.

قال: فقد يَعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجهه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن. بخلاف أمور الشرع.

ثم ذكر القاضي عياض من أمثلة ذلك قصة تأبير النخل، وقصة الخرص، وقصة المنزل يوم بدر، وقصة عرض الصلح الذي لم يتم على ثلث ثمار المدينة يوم الاحزاب.

ثم ختم عياض رحمه الله تعالى بهذه العبارة النفيسة، فقال: (ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر، وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها، لا في الكثير المؤذن بالعلة والغفلة.

وقد تواتر بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم من المعرفة بأمور الدنيا ودقائق مصالحها وسياسة فِرق أهلها مما هو معجز في البشر.) انتهى كلامه.

فأين هذا من دعوة الدكتور حذيفة إلى نسف كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطب والتداوي، إلا ما زكّاه وشهد له الطب الحديث؟!!

أين هذا التحري والحذر والأدب في العبارة، والتحاشي عن ذكر لفظ "الخطأ".. في عبارة القاضي عياض، من تساهل الأخ المتحدث بنسبة الخطأ إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية، وكأنها عنده أيسر من شربة ماء.

ثم هاهنا لفتة أخرى للقاضي عياض رحمه الله.

وهي أن ذلك القليل النادر إنما يُتصور فيما قاله صلى الله عليه وسلم من قبيل الظن والأمر والنهي الإرشادي في أمور الدنيا.

وأما ما قاله من قبيل الخبر من ذلك فلا يمكن إلا أن يكون صدقا. لأنه يستحيل وقوع الخبر منه صلى الله عليه وسلم كذبا.

قال رحمه الله: وأما *أقواله* الدنيوية من إخباره عن أحواله وأحوال غيره، وما يفعله أو فَعَله، فقد قدّمنا أن الخُلف فيها ممتنع عليه في كل حال وعلى أي وجه، من عمد أو سهو، أو صحة أو مرض، أو رضا أو غضب، وأنه معصوم منه صلى الله عليه وسلم.

هذا فيما طريقه الخبر المحض مما يدخله الصدق والكذب. انتهى كلامه رحمه الله.

أقول: ومقتضى هذه اللفتة العياضية أن ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أحاديث الطب بصيغة الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب لذاته، فإنه لا يمكن إلا أن يكون منه صلى الله عليه وسلم صدقا وحقا بالنظر إلى قائله، لاستحالة صدور الخبر الكاذب عنه صلى الله عليه وسلم.

وعليه، فعندما نقرأ في كتاب الطب من صحيح البخاري مثلا، حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشفاء في ثلاثة، في شَرطة مِحجم، أو شَربة عسل، أو كَيَّة بنار. وأنا أنهى أمتي عن الكي).

فلا يصح دِيانة واعتقادا أن نقول: فلنَعرِضْ هذا الحديث على الطب الحديث، فإن أقرَّه وإلا فهو من تجاربه الطبية بمعطيات زمانه صلى الله عليه وسلم، ثم لا نتحرج من ردها وتخطئتها على رأي الدكتور حذيفة. والعياذ بالله.

إن هذا عندئذ يُعَدُّ من قَبيل تكذيب خبره عياذا بالله، وليس من قبيل تخلف ظنه صلى الله عليه وسلم.

ثم كيف يقيس الدكتور حذيفة قولا للنبي صلى الله عليه وسلم، لم يأت عليه استدراك منه صلى الله عليه وسلم، كأقواله صلى الله عليه وسلم في العلاج والتداوي...

بقولٍ نبوي جرى عليه استدراك منه صلى الله عليه وسلم عليه، كحديث التأبير؟!

وهل يصح مثلا أن نقيس حديث الذي استطلق بطن أخيه، الذي أصرّ النبي صلى الله عليه وسلم على أن يسقيه أخوه عسلا، ليتوقف استطلاقه، مع أن العسل زاده استطلاقا في المرة الأولى والثانية، كل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: اسقه عسلا.

حتى قال في الثالثة: صدق الله وكذب بطن أخيك. متفق عليه.

هل يصح أن نقيس هذا بحديث التأبير الذي ثبت استدراكه عليه، صلى الله عليه وسلم.؟

فما لم يُعلم من طبه صلى الله عليه وسلم أنه استدرك عليه، فلا يصح تزهيد الناس فيه ونهي الناس عنه قياسا على قصة التأبير، فإنه قياس مع الفارق.

ثم إن ما نقله الدكتور حذيفة عن ابن خلدون له تتمة لطيفة نفيسة ختم بها ابن خلدون ذلك الفصل، وكان حريا بالدكتور أن يذكرها.

فإن ابن خلدون قال بعد الذي نقله عنه د حذيفة:

(اللهم إلا إن استُعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، *فيكون له أثر عظيم في النفع* وليس ذلك من الطب المزاجي، وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية، كما وقع في مداواة المبطون بالعسل ونحوه. والله الهادي إلى الصواب، لا رب سواه). انتهى كلامه.

وأخيرا: فجميل من الدكتور حذيفة أنه أشار إلى أن الذي قرره في التسجيل هو أحد رأيين للعلماء.

وذلك حين قال: لن نطيل بذكر أقوال العلماء الذين يؤيدون هذا *الرأي* الذي نذكره....

إذًا هو رأي، وكلام الدكتور هذا يستلزم أن هناك رأياً مخالفاً قال به علماء آخرون يرون عموم العصمة حتى فيما قاله صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية.

ويتأولون كل ما جاء ظاهره على خلاف ذلك.

ولهم على ذلك أدلة، من مثل قوله تعالى: (وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ ۝ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیࣱ یُوحَىٰ) [سورة النجم 3 - 4]

والحديث الذي رواه أبو داود في سننه بسند صحيح، وأحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه. فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟. فأمسكت عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق.

ولست هنا بصدد استعراض الإيرادات على أصحاب هذا الرأي، وأجوبتهم عليها

إنما الذي يهمني أن الأمر فيه رأيان، كما هو واضح.

والرأي اجتهاد يحتمل الصواب والخطأ.

وعليه - وأرجو التنبه لما أقول - فنحن مترددون بين أمرين:

الأول: أن نقول بصواب اجتهاد الدكتور حذيفة والعلماء الذين ذكر أقوالهم.

وتصويبهم هذا يستلزم جواز الخطأ في اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية.

الثاني: أن نقول بصواب كل قوله صلى الله عليه وسلم واجتهاده في الأمور الدنيوية مثل الأمور الدينية.

وهذا التصويب له صلى الله عليه وسلم، يستلزم خطأ رأي الدكتور حذيفة ومن ذكر رأيهم من العلماء.

ولا شك عندي أن تخطئتهم وتصويب النبي صلى الله عليه وسلم، أولى ألف مرة من تصويبهم وتخطئته صلى الله عليه وسلم وبارك وعظّم.

وهذا بحمد الله واضح جدا.

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين