المؤلِّفون الذين كوّنوا عقلي(3)

الإمام ابن تيمية

هو الإمام الحافظ المفسر المجتهد شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية المتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.

قد نشرتُ مقالات أبرزتُ فيها مناحي فضله، ولا يحتمل هذا المحل إعادة شيء منها، بيد أني أود أن أشدد أن العالم لا تنقصه العقول المهنية، ولكن العقول المفكرة فيه معدومة أو نزرة يسيرة، فلو قيل لي: سمِّ لنا عقلين مفكِّرين فذّين عبقريين بعد القرون الثلاثة الأولى لا ثالث لهما، قلت: أحدهما أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا المتوفى سنة سبع وعشرين وأربعمائة، والثاني بطل هذا المقال، بفارق أن الأول لم يهتد بنور الوحي، وأن الثاني كان شخصه كله (فكره وقلبه وعمله) مستنيرا بالوحي وقافا عند حدوده لا يقيد عنه قيد شعرة، ولو قيل لي: سمِّ رجلا واحدا قلت: هو ابن تيمية نادرة الدهر وأعجوبة الزمان، لا أعدل به أحدا من العرب والعجم، والشرق والغرب، ولو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما عرفت من خلال مطالعاتي مثل ابن تيمية سعةَ علم، ودقة نظر، وقوة حجة، وتألها وتعبدا وتزهدا، وكبر نفس وإباء، وإيمانا ويقينا، واتباع سنة، وإجلالا للسلف.

فإن قلتَ: ألم يخلفه ابن القيم مماثلا له؟ قلت: لا، فابن القيم ذو عقل مهني، وصاحبنا ذو عقل مفكر عبقري، وشتان ما بينهما.

فإن قلتَ: هذا غلو، قلتُ: لا، فلم أنفرد بشيء مما قلتُ، ألم يثن عليه ابن دقيق العيد، وأبو الحجاج المزي، وشمس الدين الذهبي، وابن حجر، والسيوطي، وولي الله الدهلوي، وشبلي النعماني، والسيد سليمان الندوي، وخلق كبير بمثل ما أثنيت به عليه، بل وأكثر؟ وإن قلتَ: إنك تتعصب لابن تيمية، قلتُ: لا، هو عربي وأنا أعجمي، هو حراني دمشقي وأنا هندي بريطاني، هو حنبلي وأنا حنفي، لا يجمع بيني وبينه عرق ولا دم، ولا لون ولا لسان، ولا مذهب ولا رأي، ولا زمان ولا مكان، فهيهات هيهات أن أتعصب له.

له علي فضل لا يجزيه عليه إلا رب العالمين، انتفعت بمؤلفاته صغيرها وكبيرها انتفاعا، وهي كلها في الذروة العليا من الصحة والصدق، والبحث والتحقيق، ومخاطبة العقل والفكر، يكتب المؤلفون لغيرهم، وكان ابن تيمية يكتب لنفسه، وأول ما قرأتُ من كتبه هو "الرد على المنطقينن"، طالعته وأنا طالب في دار العلوم لندوة العلماء، فسقط المنطق اليوناني من عيني وانهار انهيارا، ولن أحدثكم في هذا المقال إلا عن هذا السفر الجليل الذي لم يؤلف في الإسلام مثله.

الرد على المنطقيين

يقول في مقدمته: "فإني كنت دائما أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد، ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأيت من صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه، وكتبت في ذلك شيئا ثم لما كنت بالإسكندرية، اجتمع بي من رأيته يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرت له بعض ما يستحقه من التجهيل والتضليل. واقتضى ذلك أني كتبت في قعدة بين الظهر من الكلام على المنطق ما علقته تلك الساعة، ثم تعقبته بعد ذلك في مجالس إلى أن تم، ولم يكن ذلك من همتي فإن همتي إنما كانت فيما كتبته عليهم في الإلهيات، وتبين لي أن كثيرا مما ذكروه في أصولهم في الإلهيات وفي المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات ... فأراد بعض الناس أن يكتب ما علقته إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق، فأذنت في ذلك لأنه يفتح باب معرفة الحق، وإن كان ما فتح من باب الرد عليهم يحتمل أضعاف ما علقته تلك الساعة".

والكتاب منقسم إلى أربع مقامات، وكلامه فيها طويل مقنع نافع غاية النفع، أعرض هنا ملتقطات منه:

المقام الأول: في قولهم إن التصورات غير البديهية لا تنال إلا بالحد والكلام على هذا من وجوه:

أحدها: أن يقال: لا ريب أن النافي عليه الدليل إذا لم يكن نفيه بديهيا كما أن على المثبت الدليل، فالقضية سواء كانت سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية فلا بد لها من دليل، وأما السلب بلا علم فهو قول بلا علم، فقول القائل: إنه لا تحصل هذه التصورات إلا بالحد قضية سالبة وليست بديهية، فمن أين لهم ذلك وإذا كان هذا قولا بلا علم كان في أول ما أسسوه القول بلا علم، فكيف يكون القول بلا علم أساسا لميزان العلم، ولما يزعمون أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره.

الثاني: ... إذا كان الحد قول الحاد فالحاد إما أن يكون قد عرف المحدود بحد، وإما أن يكون عرفه بغير حد، فإن كان الأول فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول، وهو مستلزم للدور القبلى أو التسلسل في الأسباب والعلل، وهما ممتنعان باتفاق العقلاء، وإن كان عرفه بغير حد بطل سلبهم وهو قولهم إنه لا يعرف إلا بالحد.

الثالث: إن الأمم جميعهم من أهل العلم والمقالات وأهل العمل والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها ويحققون ما يعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحد منطقي، ولا نجد أحدا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود، لا أئمة الفقه ولا النحو ولا الطب ولا الحساب ولا أهل الصناعات، مع أنهم يتصورون مفردات علمهم، فعلم استغناء التصور عن هذه الحدود.

الرابع: أنه إلى الساعة لا يعلم للناس حد مستقيم على أصلهم، بل أظهر الأشياء الإنسان، وحده بـ "الحيوان الناطق" عليه الاعتراضات المشهورة، وكذلك حد الشمس وأمثال ذلك، حتى إن النحاة لما دخل متأخروهم في الحدود ذكروا لـلاسم بضعة وعشرين حدا وكلها معترض عليها على أصلهم، بل إنهم ذكروا للاسم سبعين حدا لم يصح منها شيء، كما ذكر ذلك ابن الأنباري المتأخر، والأصوليون ذكروا للقياس بضعة وعشرين حدا، وكلها معترض على أصلهم، وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة والاصوليين والمتكلمة معترضة على أصلهم، وإن قيل بسلامة بعضها كان قليلا بل منتفيا، فلو كان تصور الأشياء موقوفا على الحدود لم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئا من هذه الأمور، والتصديق موقوف على التصور، فإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق فلا يكون عند بني آدم علم في عامة علومهم، وهذا من أعظم السفسطة.

ثم ذكر وجوها أخرى.

المقام الثاني: المقام الايجابي في الحدود والتصورات، وهو أنه هل يمكن تصور الأشياء بالحدود. فيقال: المحققون من النظار يعلمون أن الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره، كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود وتعريف حقيقته، وإنما يدعى هذا أهل المنطق اليوناني أتباع أرسطو ومن سلك سبيلهم وحذا حذوهم تقليدا لهم من الإسلاميين وغيرهم، فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلى خلاف هذا.

وإنما دخل هذا في كلام من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة وأوائل المائة السادسة، فأما أبو حامد فقد وضع مقدمة منطقية في أول "المستصفى" وزعم أن من لم يحط بها علما فلا ثقة له بشي من علومه، وصنف في ذلك "محك النظر" و"معيار العلم"، ... وأعجب من ذلك أنه وضع كتابا سماه "القسطاس المستقيم"، ونسبه إلى أنه تعليم الأنبياء، وإنما تعلمه من ابن سينا، وهو تعلمه من كتب أرسطو، وهؤلاء الذين تكلموا في الحدود بعد أبى حامد هم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني.

وأما سائر طوائف النظار من جميع الطوائف المعتزلة والأشعرية والكرامية والشيعة وغيرهم ممن صنف في هذا الشأن من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم فعندهم إنما تفيد الحدود التمييز بين المحدود وغيره، بل أكثرهم لا يسوغون الحد إلا بما يميز المحدود عن غيره، ولا يجوز أن يذكر في الحد ما يعم المحدود وغيره سواء سمي جنسا أو عرضا عاما، وإنما يحدون بما يلازم المحدود طردا وعكسا، ولا فرق عندهم بين ما يسمى فصلا وخاصة ونحو ذلك مما يتميز به المحدود من غيره.

المقام الثالث: المقام السلبي في الأقيسة والتصديقات في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس. ... حصر العلم على القياس قول بغير علم. قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس الذي ذكروا صورته ومادته قضية سلبية نافية ليست معلومة بالبديهة، ولم يذكروا على هذا السلب دليلا أصلا، فصاروا مدعين مالم يبينوه، بل قائلين بغير علم، إذ العلم بهذا السلب متعذر على أصلهم، فمن اين لهم أنه لا يمكن أحدا من بني آدم أن يعلم شيئا من التصديقات التي ليست عندهم بديهية إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وصفوا مادته وصورته؟.

المقام الرابع: في قولهم إن القياس يفيد العلم بالتصديقات ... وهو أدق المقامات.

إن كون القياس المؤلف من مقدمتين يفيد النتيجة هو أمر صحيح في نفسه.

لكن الذي بينه نظار المسلمين في كلامهم على هذا المنطق اليوناني المنسوب إلى أرسطو صاحب التعاليم أن ما ذكروه من صور القياس ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية، بل كل ما يمكن علمه بقياسهم المنطقي يمكن علمه بدون قياسهم المنطقي وما لا يمكن علمه بدون قياسهم لا يمكن علمه بقياسهم، فلم يكن في قياسهم، لا تحصيل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه، ولا حاجة به إلى ما يمكن العلم به بدونه، فصار عديم التأثير في العلم وجودا وعدما، ولكن فيه تطويل كثير متعب، فهو مع أنه لا ينفع في العلم، فيه إتعاب الأذهان وتصنييع الزمان وكثرة الهذيان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين