العفة في اليهودية والنصرانية


عبد السلام البسيوني


     لا أشك لحظة كمسلم أن أنبياء الله يوسف يعقوب وداود وسليمان وموسى وعيسى – وأمه رضي الله عنها – أنهم من الأطهار، بل من قمم الطهر في التاريخ الإنساني، أخلاقًا وسلوكًا واعتقادًا، وأنهم يستحيل عليهم – نظرًا لمقام النبوة والاصطفاء – أن يقعوا في فاحشة، أو يقبلوها، فضلاً عن يوافقوا عليها أو يبشروا بها، أو يفرحوا بوقوعها.. وحين تحدث القرآن الكريم عنهم تحدث بصيغة الإكبار لعفتهم وطهرهم وصفاء قلوبهم، وحسبك ما ذكره كتاب الله تعالى عن طهارة يوسف (الكريم ابن الكريم ابن الكريم) وتأبيه على الفاحشة رغم أنها هيئت له أكمل ما تكون التهيئة، وكانت ستقابل بالشكران لو وقعت، لكنه فضل السجن على السقوط (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) (قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) وحسبك شهادة الله تبارك وتعالى لداود الذي جعله مقياسًا للحكم بالحق (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) وحسبك شهادة الله تعالى في غير موضع في كتاب الله تعالى (فتبسم ضاحكًا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) وحسبك تزكية لموسى عليه السلام قصته مع المرأتين وأبيهما – عليهم السلام – ومدح الكتاب الكريم للبتول مريم وابنها المسح عليهما السلام..
لذا فإن أصول العفة في اليهودية والمسيحية مسألة قطعية لا تقبل جدلاً، ولا يرقى لها شك، ومن اتهم نبيًّا من هؤلاء في عفته أو عرضه لم يكن مسلمًا، وإن زعم ذلك، فتوقيرهم عليهم السلام أجمعين جزء من عقيدتنا، وركن من أركان الإيمان الستة كما هو معلوم من الدين بالضرورة.
والملاحظ أن المتدينين من النصارى يحجبون المرأة المترهبنة بينهم حجاب مريم عليها السلام، فتغطي رأسها كله بشكل وافر، وتطيل ثوبها، وتوسع أردانها، وكثيرًا ما تكون ثيابها سودًا كما نرى من أزياء المترهبات حول العالم كله!
     لذا فإن ما طرأ على الممارسات اليومية في الأخلاق والأزياء والعلاقات في العالم المسيحي واليهودي لا يمكن أن ينسب للأنبياء الأطهار، ولا لأديانهم التوحيدية التي أنزلها الإله نفسه الذي أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ إنما جاءت نتيجة البعد عن سلوك هؤلاء الأبرار، كما أن في المسلمين أقوامًا مستبيحين لكشف العورات، والخمر والعلاقات المحرمة، ولا يمكن نسبة سلوكهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، وإنما جاءت من مروقهم عن منهجه، وتنكبهم سنته، وإعراضهم عن الاهتداء بهديه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا..
     وأعتقد باستقراء التاريخ أن الاستباحة جاءت من أفكار رومانية ويونانية ودهرية، ثم غلفت بأغلفة دينية لتمرر بين العامة، وقد اشتد ذلك بعد الثورة الصناعية، والحملة الفرنسية، ثم في القرن العشرين الذي زاد فيه التمرد على الأخلاق بشكل عارم، خصوصًا (بعد الحرب العالمية الأولى حيث بدأت الحرية الجنسية تتمادى وتتفاقم في المجتمع الغربي، ولكن كانت فكرة العفة قبل الزواج موجودة في الفكر الغربي العام. وبنهاية الحرب العالمية الثانية، تراجعت أهمية العفة بسرعة، وخاصةً بعد اختراع القرص الطبي الشفوي المانع للحمل، كما أن انتشار وجود المضاد الحيوية صد خطورة حرية السلوك الجنسي، وبذلك زالت متطلبات العفة من أغلبية المجتمعات الغربية).          
      كتب القس ألكسندروس أسعد عن العفة والجنس في المسيحية  (باختصار مني):    
العفة تعلمنا التواضع وقبول نقائص الآخر. هناك في الوصية السابعة تقول: (لا تزن)، لا تزن تعني أساسًا لا تكسر الزواج. لأن الزواج هو شيء عال ورفيع. وهناك نظرتان أو موقفان: الموقف الأول: الحب الأفلاطوني، وهذا الموقف يرى أن الحب الخالص هو الحب اللاجسدي والخالي من الرغبات الجنسية والشهوة. ويرى أن الجنس هو شيء نجس يعكر صفاء النفس ويعيق انطلاقة الروح. وهي نظرة منحرفة تقسم الإنسان إلى النفس والجسد وإلى عالمين متضادين الروح والمادة في صراع مستمر بين تطلعات الروح ومتطلبات الجسد. هذه الأفكار تسربت إلى شرائح من المجتمع المسيحي، وتأثر الناس بها في عصور مختلفة ومن ضمنهم رجال الكنيسة. فاعتقدوا بضرورة الهرب من العالم والاختلاء في الجبال لتقديم العبادة والتقرب إلى الله بعيدًا عن العالم الذي هو مصدر الشر والرذيلة. لكن هذه ليست نظرة مسيحية، لأن النجاسة ليست في الأشياء بل في طريقة التعامل وفي الفعل البشري المنحرف. فسوء استخدام الإنسان لحريته هو الحد الفاصل بين الطاهر والنجس.   الموقف الثاني: الانحدار الإباحي، هذا النوع من الحب هو عكس الأول، فإنه ينصهر في حرارة الجسد ويذوب تحت نيران الجنس، فبعد أن يستحوذ عليه الجنس يمحو آثاره من الوجود،ويمسح معالمه من الحياة، فيصبح مجرد طاقة غريزية أو مجرد فعل جسدي لا ينشد إلى الآخر سوى للذة جسدية والمتعة الحسية. وخلال القرن العشرين انتشرت تيارات تنادي بالإباحية والتحرر الجنسي وإطلاق العنان للرغبات المكبوتة بلا أي رادع أو وازع أخلاقي. كاد على أثرها أن يفقد الجنس قدسيته، فتحول إلى مجرد سلعة استهلاكية بحاجة إلى صرف مقابل الحصول على اللذة والمتعة. لكن تبين أن هذا المفهوم هو إطار بلا محتوي وشكل بلا مضمون، فهي ردود أفعال غريزية خالية من القيم. إذ لا يرى في الآخر غير أداة للاستعمال ومصدر للمتعة. لكن في هذا انتهاك صارخ لقدسية الإنسان وتدنيس لهيكله الطاهر الذي هو  جسد الإنسان.
وهناك قصص عن عفيفات عانين في سبيل العفة منها ما يروونه عن فتاة مسيحية عاشت في كورنثوس، ذات جمال جذاب، كانت قد نذرت نفسها لتعيش عذراء كل حياتها، ولما حلَّ اضطهاد – في تلك النواحي – سلموها للحاكم الوثني بدعوى أنها لعنت الأوثان وسدنتها. وكان الحاكم رجلاً شهوانيًّا فحاول بكل حيلة أن يُسقطها في غوايته، ولكنه إذ باء بالفشل، وضعها في مكان للدعارة – داخل السجن – وأوصى توضع بين البغايا، على أن يدفع للحاكم أجرتها ثلاثة عملات في اليوم!
فألهم الله شابًّا أن ينقذها ويموت موت الشهداء! فذهب إلى رئيس السجن في عتمة الليل ودفع له خمس عملات على أن يتركه معها الليل كله !
    وحالما دخل إلى غرفتها المخصصة لحبسها ناداها: قومي يا أختي فقد جاءك الخلاص،
وخلع لها ملابسه – القميص والثوب والعباءة – فاستبدلت ثيابها وتزيت بزي الرجال، وكانت وصية الشاب الأخيرة: اطرحي هذه العباءة على كل جسدك، واخرجي سالمة حالاً من هذا المكان ! وهكذا خرجت من المكان سالمة طاهرة دون أن تُمس عفتها .
    ولما أصبح الصباح عُرف الأمر كله لدى كل الناس وانكشف عمل الشاب فطُرح للوحوش، ونال الشهادة!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين