المؤلِّفون الذين كوّنوا عقلي (2)

الإمام ابن الجوزي

هو الشيخ الإمام العلامة الحافظ المفسر شيخ الإسلام جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي الواعظ صاحب التصانيف المتوفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة.

وترجمته معروفة، وله مؤلفات عظيمة القدر، منها: "صيد الخاطر"، و"تلبيس إبليس"، لم أر مثلهما في موضوعهما، وهما أصح كتبه وأنفعها.

صيد الخاطر

إنه كتاب أحببته من أعماق نفسي، وقرأته مرة بعد أخرى، ودرَّست فصولا منه لتلاميذي، وكأنه أحدث ثورة في فكري، وغيَّر مجرى حياتي، وصحح فهمي لهذا الدين، وقوَّمني على أصوله قبل فروعه، ولو أن ابن الجوزي لم يؤلف إلا هذا الكتاب لكفى، وما هو إلا ما خطر بباله من معالم تأملاته وخواطره التي هي عصارة أفكاره وخلاصة تجاربه، قال في مقدمته: "لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "قيدوا العلم بالكتابة"، وكم خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته فيذهب، فأتأسف عليه، ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر سنح لي من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب فانثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذا الكتاب قيدا لصيد الخاطر" ص 9.

وفيما يلي نماذج من هذه الخواطر:

جواذب الطبع: "جواذب الطبع إلى الدنيا كثيرة، ثم هي من داخل، وذكر الآخرة أمر خارج عن الطبع، ثم هي من خارج، وربما ظن من لا علم له أن جواذب الآخرة أقوى، لما يسمع من الوعيد في القرآن، وليس كذلك، لأن مثل الطبع في ميله إلى الدنيا كالماء الجاري، فإنه يطلب الهبوط، وإنما رفعه إلى فوق يحتاج إلى التكلف، ولهذا أجاب معاون الشرع بالترغيب يقوي جند العقل، فأما الطبع فجواذبه كثيرة، وليس العجب أن يَغلب، إنما العجب أن يُغلب". ص 10.

أعظم المعاقبة: "أعظم المعاقبة أن لا يحس المعاقب بالعقوبة، وأشد من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة، كالفرح بالمال الحرام، والتمكن من الذنوب، ومن هذه حاله لا يفوز بطاعة. وإني تدبرت أحوال أكثر العلماء والمتزهدين، فرأيتهم في عقوبات لا يحسون بها، ومعظمها من قبل طلبهم للرئاسة، فالعالم منهم يغضب إن رد عليه خطؤه، والواعظ متصنع بوعظه، والمتزهد منافق أو مرائي، فأول عقوباتهم إعراضهم عن الحق، شغلا بالخلق، ومن خفي عقوباتهم سلب حلاوة المناجاة ولذة التعبد". ص 11.

الجزاء بالمرصاد: "من تأمل أفعال الباري سبحانه رآها على قانون العدل، وشاهد الجزاء مرصادا للمجازاة، فلا ينبغي أن يغتر مسامح، فالجزاء قد يتأخر". ص 17.

الغفلة: "نظرت في الأدلة على الحق سبحانه وتعالى فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل، فيظهره الله سبحانه عليه ولو بعد حين، وينطق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق فيكون جوابا لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع من قدره وقدرته حجاب ولا استتار، ولا يضاع لديه عمل، وكذلك يخفي الإنسان الطاعة فتظهر عليه ويتحدث الناس بها وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنبا ولا يذكرونه إلا بالمحاسن، ليعلم أن هناك ربا لا يضيع عمل عامل". ص 37.

ضرر المبالغة في التنزيه: "من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين، والنفاة للصفات والإضافات، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالغوا في الإثبات ليتقرر في أنفس العوام وجود الخالق، فإن النفوس تأنس بالإثبات، فإذا سمع العامي ما يوجب النفي طرد عن قلبه الإثبات فكان أعظم ضرر عليه، وكان هذا المنزه من العلماء على زعمه مقاومًا لإثبات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالمحو، وشارعًا في إبطال ما يفتون به". ص 70.

حفظ الفروع وتضييع الأصول: "رأيت كثيرا من الناس يتحرزون من رشاشة نجاسة ولا يتحاشون من غيبة، ويكثرون من الصدقة ولا يبالون بمعاملات الربا، ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت، في أشياء يطول عددها من حفظ فروع وتضييع أصول". ص 110.

صلاح القلب: "رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين، فأما مجرد العلم بالحلال والحرام فليس له كبير عمل في رقة القلب، وإنما ترق القلوب بذكر رقائق الأحاديث وأخبار السلف الصالحين، لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها المراد بها". ص 144.

الجادة السليمة: "الجادة السليمة والطريق القويمة الاقتداء بصاحب الشرع والبدار إلى الاستنان به، فهو الكامل الذي لا نقص فيه، فإن خلقا كثيرا انحرفوا إلى جادة الزهد، وحملوا أنفسهم فوق الجهد، فأفاقوا في أواخر العمر، والبدن قد نهك، وفاتت أمور مهمة من العلم وغيره، وإن أقواما انحرفوا إلى صورة العلم فبالغوا في طلبه، فأفاقوا في أواخر قدم، وقد فاتهم العمل به، فطريق المصطفى صلى الله عليه وسلم العلم والعمل والتلطف بالبدن" ص 148.

علو الهمة: "كانت همم القدماء من العلماء عَلِيَّةً، تَدلُّ عليها تصانيفُهم التي هي زبدةُ أعمارِهم إلا أنَّ أكثرَ تصانيفهم دثرت؛ لأنَّ هِمَم الطلابِ ضعفت، فصاروا يطلبون المختصرات، ولا ينشطون للمطولات. ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها، فدثرت الكتب، ولم تنسخ. فسبيلُ طالب الكمال في طلبِ العلم، الاطلاع على الكتبِ، التي قد تخلَّفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة، فإنَّه يرى من علومِ القومِ، وعلوِّ هممِهِم، ما يشحذ خاطِرَه، ويُحَرِّكُ عَزِيمتَه للجدِّ، وما يخلو كتاب من فائدةٍ. وأعوذُ باللهِ مِنْ سِيَرِ هؤلاءِ الذي نُعاشرهم. لا نرى فيهم ذا همَّةٍ عاليةٍ فيَقْتَدِي بها المقتدي، ولا صاحبَ ورعٍ فيستفيدَ منه الزاهد. فاللهَ اللهَ عليكم بملاحظة سِيَرِ السلفِ، ومطالعةِ تصانيفِهم، وأخبارِهم. فالاستكثارُ من مطالعَةِ كتبِهِم رؤية لهم؛ كما قال:

فَاتَنِي أنْ أرَى الدِّيارَ بِطَرْفِي=فَلَعَلِّي أَرَى الدِّيَارَ بِسَمْعِي

وإني أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعةِ الكُتُبِ، وإذا رأيتُ كتابًا لم أرَه؛ فكأني وقعت على كنـزٍ. ولقد نظرتُ في ثَبْت الكتب الموقوفة في المدرسة النّظاميَّة، فإذا به يحتوي نحو ستة آلاف مجلد. وفي ثَبْت كتب أبي حنيفةَ، وكتب الحُمَيْدِي، وكتب شيخنا عبدالوهاب، وابن ناصر، وكتب أبي محمد بن الخشاب، وكانت أحمالاً، وغير ذلك من كلِّ كتابٍ أقْدِرُ عليه. ولو قلتُ: إنِّي طالعت عشرينَ ألفَ مجلد كانَ أكثر، وأنا بعد في الطلب. فاستفدتُ بالنَّظرِ فيها من ملاحظةِ سِيَرِ القومِ، وقَدْرِ هممِهم، وحفظِهم، وعبادَتِهم، وغرائبِ علومهِم، مالا يعرفه من لم يطالع، فصرتُ استزري ما النَّاس فيه، واحتقرُ هِمَم الطلابِ. والحمد لله". ص 291-292.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين