{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

قبل أكثر من شهر وقفت على هذا التسجيل المرئي لهذا المتحدث الذي يبدي حماسة وثقة في تقديم معلومات لا وجود لها في الواقع.

فكتبت تعليقا عليه:

خُوار ثور يستعجل العلف الفارسي.

مع الاعتذار لكل الثيران.

كذاب وقح.

شرف أهل البيت - وأنا بفضل الله منهم - أشهر وأكبر من أن يحتاج إلى كذب هذا المرتزق بدينه.

لا وجود لهذه الكذبة الفاقعة في تفسير ابن كثير، ولا الرازي، ولا الشوكاني، ولا الآلوسي الذين ذكرهم هذا المفتري، ولا في غيرها من كتب التفسير قديمها ولا حديثها، ما كان منها تفسيرا بالمأثور، أو تفسير بالرأي والنظر ودلالة اللغة...

وإنما هي رواية مهجورة وردت في غمرة روايات عدة هي آخرها، ساقها السيوطي في الدرّ المنثور. فقال: وأخرج ابن النجار عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه؟ قال: سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبتَ علي. فتاب عليه.

وحسبك من ضعفها إعراض عامة المفسرين عنها، وأرى أنها من ثمرات ما عرف عن السيوطي رحمه الله من حُب الجمع والاستكثار على حساب التحري والنقد والتنقية.

والله أعلم.

ثم قبل أيام أرسل إلي هذا التسجيل أحد الإخوة الأكاديميين يتساءل عما إذا كان هذا الكلام المنسوب إلى أئمة المفسرين صحيحا؟ وإن صح فهل هو من الإسرائيليات؟ أم ماذا؟

فأرسلت لهذا الأخ تعقيبي السابق.

ثم بدا لي أن أنقل نصوص المفسرين الذين افترى عليهم هذا الشيخ الكذاب، أنقلها بحذافيرها، لأقطع الشك باليقين لمن قد يتردد أو يتشكك في تكذيب رجل له هذه الهيئة الخادعة.

وإليكم أقوال المفسرين الذين ذكرهم هذا المفتري، في تفسير الكلمات التي تلقاها آدم، عند تفسيرهم لقوله تعالى في سورة البقرة: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]

أولا: تفسير ابن كثير: قيل: إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف : 23] روي هذا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القُرَظي، وخالد بن مَعْدان، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن رجل من بني تميم، قال: أتيت ابن عباس، فسألته: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: عُلم آدم شَأنَ الحج.

وقال سفيان الثوري، عن عبد العزيز بن رُفَيع، أخبرني من سمع عبيد بن عُمَير، وفي رواية: أخبرني مجاهد، عن عبيد بن عمير، أنه قال: قال آدم: يا رب، خطيئتي التي أخطأت شيء كتبتُه علي قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته علي فاغفر لي. قال: فذلك قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}

وقال السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: فتلقى آدم من ربه كلمات، قال: قال آدم عليه السلام: يا رب، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. ونفخت في من روحك؟ قيل له: بلى. وعَطستُ فقلتَ: يرحمك الله، وسبقتْ رحمتُك غَضبَك؟ قيل له: بلى، وكتبت عليّ أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى. قال: أفرأيت إن تبتُ هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم.

وهكذا رواه العَوفي، وسعيد بن جبير، وسعيد بن مَعْبَد، عن ابن عباس، بنحوه. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وهكذا فسره السدي وعطية العَوْفي.

وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا شبيهًا بهذا فقال: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب، حدثنا علي بن عاصم، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال آدم، عليه السلام: أرأيت يا رب إن تبتُ ورجعتُ، أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم. فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: يا رب، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ قال الله: إذن أرجعك إلى الجنة. فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} قال: الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي، إنك أنت التواب الرحيم. انتهى بنصه من تفسير ابن كثير.

ثانيا: تفسير الرازي: اختلفوا في أن تلك الكلمات ما هي؟ فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن آدم عليه السلام قال : يا رب ألم تخلقني بيدك بلا واسطة؟ قال : بلى. قال : يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال : بلى. قال : ألم تسكني جنتك؟ قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال : بلى. قال : يا رب إن تبت وأصلحت تردني إلى الجنة؟ قال : بلى فهو قوله : فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ وزاد السدي فيه : يا رب هل كنت كتبت علي ذنباً؟ قال : نعم.

وثانيها: قال النخعي: أتيت ابن عباس فقلت: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علم اللّه آدم وحواء أمر الحج فحجَّا، وهي الكلمات التي تقال في الحج، فلما فرغا من الحج أوحى اللّه تعالى إليهما بأني قبلت توبتكما.

وثالثها: قال مجاهد وقتادة في إحدى الروايتين عنهما هي قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف: 23].

ورابعها: قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهم: إنها قوله لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين. لا إله إلا أنت سبحانك / وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم.

وخامسها: قالت عائشة: لما أراد اللّه تعالى أن يتوب على آدم طاف بالبيت سبعاً، والبيت يومئذ ربوة حمراء، فلما صلى ركعتين استقبل البيت وقال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي. اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي وأرضى بما قسمت لي. فأوحى اللّه تعالى إلى آدم: يا آدم قد غفرت لك ذنبك ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بهذا الدعاء الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من بين عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها. انتهى بنصه من تفسير الرازي.

ثالثا: تفسير الشوكاني: وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (فتلقى آدم من ربه كلمات) قال أي رب ألم تخلقني بيدك قال بلى قال أي رب الم تنفخ في من روحك قال بلى قال أي رب ألم تسبق إلي رحمتك قبل غضبك قال بلى قال أي رب ألم تسكني جنتك قال بلى قال أي رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة قال نعم وأخرج الطبراني في الاوسط وابن عساكر بسند ضعيف عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال (لما أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاه الكعبة فصلى ركعتين) الحديث وقد روى نحوه بإسناد لا بأس به أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدعوات وابن عساكر من حديث بريدة مرفوعا وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في وقوله (فتلقى آدم من ربه كلمات) قال: قوله (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جرير عنه مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن محمد بن كعب القرظي في قوله (فتلقى آدم من ربه كلمات) مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله وأخرج عبد بن حميد عن الحسن والضحاك مثله وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قيل له ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه قال علم شأن الحج فهي الكلمات وأخرج عبد بن حميد عن عبدالله بن زيد في قوله (فتلقى آدم من ربه كلمات) قال لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وأخرج نحوه البيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن أنس وأخرج نحوه هنا وفي الزهد عن سعيد بن جبير وأخرج نحوه ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس وأخرج نحوه الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن علي مرفوعا. انتهى بنصه من تفسير الشوكاني.

رابعا: تفسير الآلوسي: والمروي في المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن هذه الكلمات هي {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} [الأعراف : 3 2] الآية، وعن ابن مسعود أنها: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وقيل: رأى مكتوباً على ساق العرش، محمد رسول الله فتشفع به، وإذا أطلقت الكلمة على عيسى عليه السلام، فلتطلق الكلمات على الروح الأعظم، والحبيب الأكرم صلى الله عليه وسلم، فما عيسى، بل وما موسى، بل وما . . وما . . إلا بعض من ظهور أنواره، وزهرة من رياض أنواره، وروي غير ذلك. انتهى بنصه من تفسير الآلوسي.

وإضافة إلى كل ما سبق، فإني أؤكد أنه لا وجود لما زعمه هذا المفتري في تفسير القرطبي ولا تفسير البغوي ولا تفسير ابن الجوزي ولا تفسير أبي حيان، ولا تفسير شيخ المفسرين الطبري، الذي يعتبر عمدة التفسير بالمأثور.

ولقد أحصيت في تفسر الطبري نحوا من عشرين أثرا رواها ابن جرير الطبري بأسانيده، في بيان الكلمات التي تلقاها آدم.

وليس في واحد من تلك الآثار ما افتراه هذا المتحدث على كتاب الله، وعلى المفسرين، ثم بنى عليه ما بنى من عقيدة الإمامة، وتجاهل الراشدين الثلاثة الذين سبقوا سيدنا عليا، رضي الله عنهم أجمعين.

فهو هراء وضلال شيعي بلسان أزهري، أساء فيه هذا المفتري إلى الأزهر الشريف وإلى كل أزهري، وأنا أحدهم.

فليت هذا الكاذب على كتاب الله وعلى العلماء وكتبهم، ينظر إلى نفسه بمنظار قول الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إذًا لمقت نفسه.

أو بمنظار قول الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} إذًا لأشفق على نفسه.

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين