هل أئمة كتب الحديث النبوي الستة عرب؟

انتشر مقطع مرئي لبرنامج على ( قناة صفا ) السلفية ...يدّعي فيها المذيع ( محمد صابر) أن الأئمة الستة ( وهم: البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود وابن ماجه) عرب ...وأن الاعتقاد المنتشر أنهم أعاجم خطأ منتشر مقصود !!

وقد سألني عدد من الإخوة عن رأي التاريخ بالكلام المذكور أعلاه .

أقول ابتداءً: قناة صفا هي قناة إثارة إعلامية ...لا تختلف عن العربية أو الجزيرة في شيء ...بل تزيد عليهما في الإثارة الدينية والطائفية والتكفيرية المستمرة عليها منذ سنوات .

من المؤسف تأسيس جمهور عاطفي على معلومات مضللة باستمرار في العقيدة والفقه والتاريخ والتديّن عموماً.

أولاً : ثلاثةٌ فقط من الأئمة الستة عرب بشكل متفق عليه بين كل المؤرخين ، وهم الإمام مسلم (ت 261هـ وهو من قبيلة قُشير) ، والإمام الترمذي (ت 279هـ وهو من قبيلة سليم) ، والإمام أبو دواود (ت 275هـ وهو من قبيلة الأزد) .

وهناك إمام واحد مختلف فيه : وهو النسائي( ت303 هـ) ، والغالب عدم ثبوت عروبته لعدم وجود نص واحد صريح لدى المؤرخين المتقدمين على نسبته للعرب أو لقبيلة عربية محددة .

وهناك إمامان : البخاري (ت 256هـ) وابن ماجه(273هـ) توافرت النصوص على أن أصلهما غير عربي ...وما يُروى عنهما غيرُ ذلك فلا يصح ؛ بل لم يثبت أن هناك من نصَّ على عروبتهما من المتقدمين .

ثانياً: يؤكد المذيع أن أجداد الأئمة الأربعة من الفاتحين العرب لبلاد الفرس ..وهذا كلامٌ من تأليفه؛ لأن أجداد هؤلاء الأئمة الستة ليس لهم ترجمة ولا سيرة في كل كتب التاريخ، فلا نعلم حقيقةً هل كانوا مع الفاتحين الأوائل أم انتقلوا للتجارة أم لطلب العلم أم لأيّ سببٍ ما.

ثالثاً: يستدل المذيع ـ في متابعة تلبيسه على المستمعين ـ بكتاب (عروبة العلماء في البلاد الأعجمية في المشرق الإسلامي ) للدكتور العراقي (ناجي معروف ) والمطبوع عام 1974م بعهدة وزارة الثقافة بالعراق ...وأنَّ المؤلف أثبتَ عروبة هؤلاء الأئمة الستة بالدليل القاطع والبرهان الساطع ( هكذا عبّر في هذا المقطع المرئي)! ...عدتُ للكتاب وهو من ثلاثة أجزاء ...وقرأته ...والعجيب أن المؤلف(ناجي معروف ) يذكر في الجزء الأول ص 55 عن الأئمة الستة في الحديث أنه وجد ثلاثةً منهم من أصول عربية ، وواحدٌ يرجّح أنه عربي (ذكر النسائيَّ ولم يذكر أي دليل على ترجيحه هذا!) ، واثنان عرب بالولاء ( أي: أصولهم غير عربية لكن أُلحقوا بعربٍ فنُسبوا لهم ولاءً) ...فأين هذا من الدليل القاطع والبرهان الساطع على عروبة الستة في الكتاب الذي أشار له؟!

رابعاً: يقول المذيع : إن الشعوبيين الشيعة هم من دسَّ في عقول أهل السنة والجماعة أن الأئمة الستة من الفرس !! ليستبشع المستمع أن يكون هؤلاء أو أحدهم من غير العرب!

وكأن كل المؤرخين السُّنة الذين أشاروا لأصول البخاري وابن ماجه الفارسية أمثال: ابن عساكر والذهبي وابن كثير والخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني والنووي وغيرهم العشرات قد خفي عليهم هذا الدسّ ؟! أم أن (الخلاف السني الشيعي المستعر اليوم) يُبيح للبعض الكذب وتدليس الكلام واتهام جمهرة علمائنا السنة الثقات بالدس والتدليس والغباء ؟!

خامساً: فأما ابن ماجه القزويني ...فكل المؤرخين ذكروا أنه من قزوين ...وأنه رَبَعي ولاءً ...وانظر مثلاً: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي (5/ 90) و التدوين في أخبار قزوين (2/ 49) للرافعي والبداية والنهاية (11/ 52) لابن كثير ، وتاريخ دمشق (56/ 271) لابن عساكر ..وكلهم يذكر أن جدَّه (ماجه) مولى ربيعة ! أي: أسلم على يدِ عربي من ربيعة فنُسب لها ولاءً ...فليس هو بعربي أصلاً .

سادساً: وأما البخاري فلم يذكر أي مؤرخ من المتقدمين أنه عربي أبداً ! وقد عدتُ لأكثر من 54 مرجعاً تاريخياً ومؤلَّفاً في الأنساب ، فلم يُشر أحدٌ لعروبة البخاري ...بل نصوا على أن أبا جدّه فارسي أسلم على يد الوالي يمان الجعفي ، فنُسب إليهم ولاءً !

كلام المذيع (وقبله مقطع مصور للدكتور طه حامد الدليمي، وقبلهما عدد من المنشورات في نفس السياق) تعود لبحثٍ كتبه المرحوم (الدكتور د. لبيد ابراهيم أحمد العبيدي) تحت عنوان :(حياة الأمام البخاري الاجتماعية) ونُشر في موقع الألوكة المجلس العلمي ونُشر في عدة منتديات أخرى ، وفيه يذكر الدكتور لبيد في نسب البخاري: (وقيل: هو عربي صليبة من الجعفيين وهو مارجحه كل من الدكتور مصطفى جواد و الدكتور ناجي معروف والدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور صالح أحمد العلي والدكتور حسين علي محفوظ ، في ندوة علمية عقدت بالمجمع العلمي العراقي ببغداد في ستينيات القرن الماضي وهو مانميل أليه ونأخذ به ) ولم يُشر إلى أي دليل تاريخي أو نصّ في التراجم لهذا الذي ذهب إليه هؤلاء المتأخرون ...بل وجدنا أحدهم ( وهو الدكتور ناجي معروف يؤكد في كتابه عروبة العلماء(1/55) أن البخاري فارسي نسباً عربي ولاءً ) !

ولم تكن لهم حجة سوى: إن بعض القبائل العربية انتقلت لتلك البلاد مع الفتوحات ، وأن بعض العلماء نُسب لبلدٍ أعجمي لأنه وُلد فيه ، وهذا كله كلام عام لا يتم فيه إثباتُ نسبٍ من غير تحقيق ولا تدقيق !

ونجد شخصاً سعودياً اسمه ( نايف بن عوض الوسمي) يصف نفسه في موقعه بتويتر بأنه(كاتب ومؤرخ وباحث في الأنساب والوثائق ) يذكر في مقالٍ له بعنوان (الإمام البخاري أعجميّ المولد عربيّ الأصول) في جريدة ( الجزيرة) السعودية  أن هناك خلافاً في نسب البخاري لكن يقول: "القول الثالث: وهو إجماع أكثر المصادر على أنه من بني جعفي من سعد العشيرة من مذحج من العرب القحطانية، وهذا هو القول الصحيح في نسب البخاري، مع أن هناك من قال إنه مولى لبني الجعفي، ففي رأي للنسابة العرب منهم القلقشندي، حيث قال: قد ينظم الرجل إلى غير قبيلته بالحلف أو المولاة فينسب إليهم مثلُ البخاري الجعفي مولاهم! هذا ما قد حصلت عليه بالدلائل الموضحة أعلاه بأنّ الإمام البخاري جعفي من قحطان عربيّ الأصل بخاريّ الديار والمسكن!" وهو هنا يجزم بأن القول بعروبة البخاري إجماع أكثر المصادر !! وهو تلبيس عجيب ( عدتُ لأكثر من 54 مرجعاً لا يوجد فيها مَنْ أكّد عروبة البخاري فمن أين أتى بالأكثرية هنا ؟! ) ...ثم يكمل تدليسه بالاستعانة بالقلقشندي ، دون فهمٍ في الفرق بين النسب صلباً والنسب موالاةً !! فكيف يُعبّر بأنه عربي الأصل ؟!

ووجدتُ مَنْ أشار للباحث مصطفى جواد في مخطوطته (أصول التاريخ والأدب ،مخطوطة المجمع العلمي ج22ص543 )وهو يقول فيها : " البخاري عربي الأصل وهو كالطبري لم يٌحدَّدْ نسبُه على عادة العديد من رجال العرب!" وهذا عجيبٌ من مؤرّخ متخصص !! فكيف يبني حكماً بعروبة البخاري من غير ثبوت انتسابه لقبيلة عربية ؟! أهذا الكلام المظنون المرسل أولى بالقبول أم كلام أولئك المؤرخين ـ وهم بالعشرات ـ الأقرب عهداً بالبخاري والذين أثبتوا فارسية جده ؟!

ثم تتفاجأ بترجمة البخاري في موقع ويكبيديا ، ليكتب من حرّر ترجمته قائلاً: " وقيل: أنه عربي أصله من الجعفيين ، فذكر عدد من العلماء أن جدّه الأكبر هو الأحنف الجعفي وأن "بَرْدِزبَه" صفة وليس اسم وتعني "الفلاح" وهو ما تعود العرب عليه في البلدان الأعجمية،وممن اعتمد هذا الرأي ابن عساكر، وابن حجر العسقلاني، وتاج الدين السبكي، وزين الدين العراقي،وابن تغري، ورجّحه عدد من المعاصرين، منهم مصطفى جواد، وناجي معروف، وعبد العزيز الدوري، وصالح أحمد العلي، وحسين علي محفوظ، وفاروق عمر فوزي ولبيد إبراهيم أحمد العبيدي " وسأتجاوز هؤلاء الباحثين المتأخرين لأنهم لم يذكروا نصاً واحداً لمؤرخ متقدم يُثبت عروبة البخاري ، لكن ستستغرب كيف يحشد البعض أسماءً كثيرة للتلبيس على القراء ..فيظن المرء أن هناك خلافاً فعلياً ثم ويتسرع بعضُ الباحثين وصغار طلبة العلم فينقل عن تلك المصادر دون أن يفتح أيّاً منها !!

وسأذكر سريعاً كلام هؤلاء العلماء(ابن عساكر،وابن حجر العسقلاني،وتاج الدين السبكي،وزين الدين العراقي، وابن تغري،) ...برقم المجلد والصفحات التي أشار إليها محرر الترجمة في ويكبيديا !! وهو يدّعي أنهم رجّحوا (عروبة البخاري) ...بينما هم على العكس تماماً !!

ـ فقال ابن عساكر في تاريخ دمشق (52/ 53) بسنده عن الخطيب البغدادي وصولاً للحافظ ابن عدي : " محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن مغيرة بن بردزية البخاري وبردزبة مجوسي مات عليها والمغيرة بن بردزية أسلم على يدي يمان البخاري والي بخارى.... والبخاري قيل له: جعفي؛ لأن أبا جده أسلم علي يدي أبي جد عبد الله المسندي يمان الجعفي؛ فنسب إليه لأنه مولاه من فوق " .

ـ قال ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب (9/ 41) : " محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة وقيل: بزرويه وقيل: ابن الأحنف، الجعفي مولاهم أبو عبد الله البخاري " فذكر الولاء في النسب ولم يذكر عروبة الأصل !

ـ وقال تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (2/ 212) : " محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه .... هذا ما كنا نسمعه من الشيخ الإمام الوالد رحمه الله وقيل: بدل بردزبه الأحنف وقيل: غير ذلك . هو إمام المسلمين وقدوة الموحدين وشيخ المؤمنين والمعول عليه فى أحاديث سيد المرسلين وحافظ نظام الدين أبو عبد الله الجعفى مولاهم البخاري صاحب الجامع الصحيح .." فذكر نسبه الفارسي ثم أكّد أن جده مولى للجعفيين ، فأين ذكر العروبة هنا ؟!

ـ وأما زين الدين العراقي فقال في طرح التثريب في شرح التقريب (1/ 100): " (مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ بردزبه وَقِيلَ: بذدذبه وَقِيلَ: ابْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَحْنَفِ، الْجُعْفِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ ، الْحَافِظُ الْعَلَمُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ مُؤَلِّفُ الصَّحِيحِ وَالتَّارِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ" فأين أثبت أو رجّح عروبة البخاري هنا؟!..وهو يذكر ولاء جد البخاري للجعفيين ؟!

ـ وأما ابن تغري فقال في النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة (3/ 25): " وفيها توفّى الإمام الحافظ الحجة أبو عبد الله محمد بن اسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف بن بردزبه البخارىّ الجعفىّ مولاهم؛ وكان المغيرة مجوسيّا فأسلم على يد يمان البخارىّ الجعفىّ. والبخارىّ هذا هو صاحب الصحيح" فأثبت ابن تغري فارسية الجد ..فكيف يقال: إنه رجّح عروبة نسب البخاري ؟!

وهكذا هي البحوث المسلوقة الفاشلة ...تُكثر من إيراد النصوص في غير موضعها ...وتلبّس على القارئ بكثرة المراجع غير الدقيقة ...وعموم الناس تقرأ وتنسخ دون مراجعة !!!

وختاماً: من محاسن الإسلام أنه رفع من قيمة الإنسان ....وجعل العبرة لعمل الإنسان وتقواه ...وكانت حضارة الإسلام تنتشر بفعل اندماجها مع القوميات والشعوب المختلفة ...فالتركيز على العرب أو نقيضهم تزكية للعنصرية البغيضة التي ترتفع في أزمنة الانحطاط ...وانظر لحال دولنا اليوم : نعرات العروبة أدّت لتأجيج نعرات الكوردية والتركية والفرعونية والأمازيغية والفارسية وغيرها ...!

أين هؤلاء العنصريون من عالمية الإسلام وسماحة الإسلام ...؟!

ولو افترضنا عروبة هذا أو أعجمية ذاك ....فارسية هذا أو تركية ذاك ....عروبة هذا أو كوردية ذاك ....ثم ماذا ؟...أين نحن من عملهم وعلمهم وتقواهم وبناء الحضارة ؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين