المؤلِّفون الذين كوّنوا عقلي (1)

المؤلفون الذين كوَّنوا عقلي وصاغوا فكري عددهم كبير، وأفضلهم بعد القرون المشهود لها بالخير خمسة: الأئمة الأعلام ابن حزم، وابن الجوزي، وابن تيمية، والذهبي، وحميد الدين الفراهي، هم أساتذتي، أنست بعقولهم، واستفدت من آرائهم، متسللين إلى قلبي، ومتسربين إلى نفسي، ومؤثرين في شخصيتي، فأحببتهم، وعظَّمتمهم، مع احتفاظي باستقلالي، فلم أقلدهم ولا اتبعت خطواتهم، ملتزما إطاعة الله وإطاعة رسوله دينا لي، أحيا عليه وأموت عليه إن شاء الله تعالى.

وسأتحدث عنهم في حلقات متتابعة.

الإمام ابن حزم

هو الإمام الأوحد البحر ذو الفنون والمعارف أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي الفقيه المجتهد الحافظ المتكلم الأديب الوزير الظاهري المتوفى سنة ست وخمسين وأربعمائة، له مصنفات جليلة، وأثنى عليه الكبار، قال أبو عبد الله الحميدي: "كان ابن حزم حافظًا للحديث وفقهه، مستنبطا للأحكام من الكتاب والسنة، متفننا في علوم جمة، عاملا بعلمه، ما رأينا مثله فيما اجتمع لديه من الذكاء، وسرعة الحفظ، وكرم النفس، والتدين، وكان له في الأدب والشعر نفس واسع، وباع طويل، وما رأينا من يقول الشعر على البديه أسرع منه".

قرأت فصولا من كتابه "المحلى" وأنا طالب في دار العلوم لندوة العلماء، فبهرني بسعة علمه، ودقة نظره، وقوة حجته، قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: "ما رأيت في كتب الإسلام مثل "المحلى" وكتاب "المغني" للشيخ موفق الدين".

وصف الكتاب:

إنه كتاب يملأ القلوب حبا للقرآن والسنة، ويقنع العقول بضرورة الرجوع إليهما، متظاهرا بحجج بالغة على المذاهب الفقهية المتوارثة، كاشفا عن ضعف القياس والرأي، ورافعا اللثام عن مدى تناقض أهلهما في أقوالهم ومذاهبهم، يقول في مقدمته تعريفا به: "نقتصر فيه على قواعد البراهين بغير إكثار، ليكون مأخذه سهلا على الطالب والمبتدئ، ودرجًا إلى التبحر في الحجاج ومعرفة الخلاف، وتصحيح الدلائل المؤدية إلى معرفة الحق مما تنازع الناس فيه، والإشراف على أحكام القرآن، والوقوف على جمهرة السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمييزها مما لم يصح، والوقوف على الثقات من رواة الأخبار وتمييزهم من غيرهم، والتنبيه على فساد العقل وتناقضه وتناقض القائلين به".

وقال: "وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لم نحتج إلا بخبر صحيح من رواية الثقات مسند، ولا خالفنا إلا خبرا ضعيفا فبينَّا ضعفه، أو منسوخا فأوضحنا نسخه، وما توفيقنا إلا بالله تعالى".

مصادر الدين:

وقال: "دين الإسلام اللازم لكل أحد لا يؤخذ إلا من القرآن أو مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما برواية جميع علماء الأمة عنه عليه السلاة والسلام، وهو الإجماع، وإما بنقل جماعة عنه عليه الصلاة والسلام، وهو نقل الكافة، وإما برواية الثقات واحدا عن واحد حتى يبلغ إليه عليه الصلاة والسلام، ولا مزيد".

ذم القياس:

وقال: "ولا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي، لأن أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى كتابه وإلى رسوله قد صح، فمن رد إلى قياس وإلى تعليل يدعيه أو إلى رأي فقد خالف أمر الله تعالى المعلق بالإيمان وردَّ إلى غير من أمر الله تعالى بالرد إليه، وفي هذا ما فيه".

وقال: "لأنه لا يختلف أهل القياس والرأي أنه لا يجوز استعمالهما مادام يوجد نص، وقد شهد الله تعالى بأن النص لم يفرط فيه شيئا، وأن رسوله عليه الصلاة والسلام قد بيَّن للناس كل ما نزل إليهم، وأن الدين قد كمل فصح أن النص قد استوفى جميع الدين، فإذا كان ذلك كذلك فلا حاجة بأحد إلى قياس ولا إلى رأيه ولا إلى رأي غيره".

وقال: "وقد عارضناهم في كل قياس قاسوه بقياس مثله وأوضح منه على أصولهم لنريهم فساد القياس جملة".

ذم التقليد:

وقال: "ولا يحل لأحد أن يقلد أحدًا، لا حيًّا ولا ميتًا، وعلى كل أحد من الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله عز وجل في هذا الدين، ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل عن أعلم أهل موضعه بالدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دل عليه سأله، فإذا أفتاه قال له: هكذا قال الله عز وجل ورسوله؟ فإن قال له نعم أخذ بذلك وعمل به أبدا، وإن قال له: هذا رأيي أو هذا قياسي أو هذا قول فلان وذكر له صاحبا أو تابعا أو فقيها قديما أو حديثا، أو سكت، أو انتهره، أو قال له: لا أدري، فلا يحل له أن يأخذ بقوله، ولكنه يسأل غيره".

وقال: "ومن ادعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد ادعى الباطل وقال قولا لم يأت به قط نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل لأنه قول بلا دليل، بل البرهان قد جاء بإبطاله".

وجوب الاجتهاد:

وقال: "والاجتهاد إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله عز وجل الذي أوجبه على عباده".

وقال: "إذا سأل عن أعلم أهل بلده بالدين: هذا صاحب حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا صاحب رأي وقياس، فليسأل صاحب الحديث، ولا يحل له أن يسأل صاحب الرأي أصلاً".

وقال: "والمجتهد المخطئ أفضل عند الله تعالى من المقلد المصيب".

وقال: "والحق من الأقوال في واحد منها، وسائرها خطأ. وقال: ومن ادعى أن الأقوال كلها حق وأن كل مجتهد مصيب فقد قال قولا لم يأت به قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا معقول، وما كان هكذا فهو باطل، ويبطله أيضًا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، فنص عليه الصلاة والسلام أن المجتهد قد يخطئ".

مثال من مسائل المحلى:

جواز قراءة القرآن لكل واحد مطلقا: قال: "وقراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى جائز كل ذلك بوضوء وبغير وضوء للجنب والحائض، وبرهان ذلك أن قراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى أفعال خير مندوب إليها مأجور فاعلها، فمن ادعى المنع منها في بعض الأحوال كلِّف أن يأتي بالبرهان".

وقال بعد أن نقل أقوال الفقهاء: "فأما منع الجنب من قراءة شيء من القرآن فاحتجوا بما رواه عبد الله بن سلمة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة، وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه ليس فيه نهي عن أن يقرأ الجنب القرآن، وإنما هو فعل منه عليه السلام لا يلزم، ولا بيَّن عليه السلام أنه يمتنع من قراءة القرآن من أجل الجنابة، وقد يتفق له عليه السلام ترك القراءة في تلك الحال ليس من أجل الجنابة، وهو عليه السلام لم يصم قط شهرًا كاملا غير رمضان قط، ولم يزد قط في قيامه على ثلاث عشرة ركعة، ولا أكل قط على خوان، ولا أكل متكئا، أفيحرم أن يصام شهر كامل غير رمضان، أو يتهجد المرء بأكثر من ثلاث عشرة ركعة، أو يأكل على خوان، أو أن يأكل متكئا؟ وهذا لا يقولونه، ومثل هذا كثير جدا".

ثم قال: "وأما من قال: يقرأ الجنب الآية ونحوها أو قال: لا يتم الآية أو أباح للحائض ومنع الجنب قأقوال فاسدة، لأنها دعاوي لا يعضدها دليل، لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من رأي سديد، لأن بعض الآية والآية قرآن بلا شك، ولا فرق بين أن يباح له آية أو أن يباح له أخرى، أو بين أن يمنع من آية أو يمنع من أخرى".

ثم أيَّد قوله بأقوال الأئمة الفقهاء، عن ربيعة: لا بأس أن يقرأ الجنب القرآن، وعن حماد قال: سألت سعيد بن المسيب عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ فقال: وكيف لا يقرأه وهو في جوفه. وعن نصر الباهلي قال: كان ابن عباس يقرأ البقرة وهو جنب، وعن حماد بن أبي سليمان قال: سألت سعيد بن جبير عن الجنب يقرأ؟ فلم ير به بأسا، وقال: أليس في جوفه القرآن؟ ثم قال: "وهو قول داود وجميع أصحابنا".

ومن شعره:

أشهد الله والملائك أني لا أرى الرأي والمقاييس دينا

حاش لله أن أقول سوى ما جاء في النص والهدى مستبينا

ومن شعره أيضًا:

أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن عيبي أن مطلعي الغرب

ولو أنني من جانب الشرق طالع لجدَّ على ما ضاع من ذكري النهب

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين