شهر القرآن بين الإكثار من الختمات.. وبين تدبر الآيات..

 د. خالد هنداوي


رأيت من واقع تجربتي منذ حفظت القرآن الكريم في سن مبكرة أن تركيز الاهتمام بنسبة أكبر هو ما يوجه إلى قراءة القرآن ومن ثم حفظه فقط، ولاحظت أن النسبة أقل بكثير من حيث الاهتمام بفهم كتاب الله وتسليط الضوء على معانيه وتوجيهاته القيمة الداعية إلى الهدى والفلاح في الحياة والتي إنما يأتي تدبره وتأمله والحضور معه من خلالها، ولذلك كان شيخ المفسرين ابن جرير الطبري يقول: عجبت لمن يقرأ القرآن ولا يعرف معانيه كيف يلتذُّ فيه؟


وحقاً ما قال فإن دستور الخالق سبحانه للخلق وقانون السماء للأرض إنما أنزل في الحقيقة من أجل هذا الهدف السامي، ثم تأملت كثرة التلاوة في شهر رمضان، وهذا أمر مفروض ومحمود جداً دوماً لأنه جاءت به النصوص المشهورة من القرآن والسنة بما لم يعد خافياً على المسلم، وكذلك فقد دلت الوقائع على ذلك عند السلف الصالح من كثرة التلاوة في رمضان في الصلاة وفي غيرها كما نقل الأستاذ فيصل البعداني في كتابه القيم (هكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان) ص 67 عن ابن رجب في (لطائف المعارف) ص 183: أن الإمام الزهري كان إذا دخل رمضان قال: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام، وكان الإمام مالك بن أنس يؤخر قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم تفرغاً للقرآن وإقبالاً على تلاوته من المصحف، ثم أجاب الأستاذ فيصل أن هذا وإن كان ثابتاً لدى السلف لختمهم القرآن في ليال ومدة قصيرة إلا أن هؤلاء الأئمة ومن سلك نهجهم فعلوا ذلك وهم متفقِّهون بآيات الله في سائر العام بخلاف الأكثرين منا الذين لا يعرفون تلاوة القرآن إلا في رمضان أقول: ونحن نرى الأخطاء الكثيرة في تلاوة الجم الكبير منهم وعدم أو ضعف مراعاة أحكام الترتيل مع أنه حتم لازم فالقياس مع الفارق، أي إن المسارعة للإكثار من الختمات في رمضان دون الترسل والتمهيل في التلاوة والفهم والتدبر ليس من منهج السلف، وإن التشجيع فقط على مجرد التلاوة وتكثير الختمات فقط لم يكن من سير الأولين، بل إننا إذا ذهبنا إلى قوله تعالى في سورة البقرة عن شهر الصيام "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن...." رأينا أن الله يبين أن شرف هذا الشهر وفضله إنما جاء بسبب تنزل هذا الكتاب الهادي فيه، وذلك ببيان الله تعالى لتميز هذا القرآن أنه "هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" فالحق يوضح لنا بما لا لبس فيه أن نقرأ القرآن قراءة تأمل وتدبر، وأنه الكتاب الذي من فهمه وعمل بأوامره ونواهيه اهتدى، لأنه يشتمل على بيِّنات واضحات كاشفات بالحجة والبرهان، وكذلك بالفرقان الذي يحتاجه الناس ليفرقوا بين الحق والباطل أخذا من إرشاداته فأي هدى أعظم من هذا الهدى كما يقول العلامة عبدالرحمن حبنكه الميداني في كتابه (الصيام ورمضان) ص 63 أقول: وليس عبثاً أن يورد الله أنه أنزل القرآن في رمضان للهداية لا لمجرد القراءة والتلاوة فقط، وذلك من أجل أن يستغل المسلمون بل وغيرهم فرصة رمضان للإفادة من هذا الدستور الإلهي للعالم بالتعرف على مفاهيمه ومراميه وأقول كذلك تعليقاً على لفظ الناس: (هدى للناس) أي ولو غير المسلمين: إنني كنت منذ أشهر قليلة في الصين والتقيت مع بعض الإخوة الصينيين المسلمين بعد صلاة الجمعة في المسجد، وإذا بهم يعرِّفونني على شاب أسلم جديداً وهو طالب في الجامعة بتخصص البيولوجي حيث صرح لي أنه لم يدعه أحد إلى الإسلام ولكنه يسمع به وبالقرآن وأنه وجد نسخة مترجمة لكتاب الله، ومن خلال تفهمه للعديد من الآيات ومقاصد القرآن في الحياة: قال لقد أسلمت حيث أيقنت أن هذا يستحيل أن يكون من كلام وتنظيم البشر، أسلم بفهمه للآيات ولو اكتفى بتعلم القراءة دون معنى وفهم فأنى له أن يسلم، وهذا مثال لا على سبيل الحصر، فالقرآن كتاب هداية أولاً وأخيراً ولا يمكن أن يكتفى بالقراءة فقط، بل لماذا لا نشجع في شهر القرآن خاصة على فهم معاني مختارة لتوجيه الناس وتوعيتهم ونحن نعرف من تاريخ حواضر الإسلام ومراكز التعليم والتحفيظ التي كان منها جامع بني أمية في دمشق والأزهر في القاهرة والقرويين في المغرب على سبيل المثال كيف كانت حلق القرآن للتعليم والتفهيم وإثارة الخشوع والحضور بالعقل والقلب والجوارح عند المتعلمين، وهذا هو سر حديثه صلى الله عليه وسلم الذي رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، أي ببيان أنه المرشد إلى الطريق الأفضل من أي منهج بشري في الحياة والواقع "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم...." [الإسراء: 9].


وها نحن نقرأ من بداية سورة البقرة: "ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين" فإنما أنزل القرآن للتدبر. وفي سورة ص آية 29: "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب". وهنا يقول سيد قطب في تفسيره الظلال 5/3019: إن الحق الذي جاء به القرآن ليتدبره الناس ويتذكر أصحاب العقول الحقائق الأصيلة التي قام عليها الإسلام وهي طرف من نواميس خلق الكون وإن كتاب الله بيان لهذا الحق الذي يقوم عليه الناموس، فبالحق تظهر حقيقة العدل في الحكم الذي يكون صامداً بالعمل والإخلاص لتزول القوى الهزيلة أمامه وهذا مما ينبغي أن يتدبره المتدبرون من القرآن.

 


أقول: وإن هذا يقودنا إلى ضرورة إتقان هذا المعنى مع إتقان القراءة حتى نكون كأننا مصاحف نسير على الأرض في واقع تعاملنا مع ربنا ومع أنفسنا ومع الناس بكل تفاعل، وعندها نكون قد أبصرنا بأعيننا بالتلاوة وعملنا ببصائرنا كما يقول الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي في كتابه (مفاتيح للتعامل مع القرآن) ص 35 إن الأبصار للأجساد، وإن البصائر للقلوب، وإذا ما تعطلت أبصار الأبدان فقد يعيش الإنسان من دونها، ولكن إذا تعطلت بصائر القلوب فإنها تموت "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" الحج 46، "هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون" الجاثية 20، وإن هذه البصائر هي التي تظهر آثارها على القلوب والجوارح والجلود فتصل إلى الثمرة القرآنية اليانعة التي هي الهدى الرباني "الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد" الزمر 23، فلابد من نظرية حركية لتدبر القرآن والحياة به كما عاشها الصحابة عملياً وتبعهم السلف بالفهم والتعلم بل والتبحر بالأخذ من كتاب الله، وهذا ما رشح أهل القرآن أن يكونوا به أشراف الأمة والمفضلين أحياء وأمواتاً، أما أحياء فيذكر لنا التاريخ أن الإمام الشافعي رحمه الله لما اتهم أنه رئيس حزب العلويين باليمن جيء به إلى هارون الرشيد رحمه الله في العراق مكبلاً بالحديد فلما مثل أمامه قال له: أسألك في بداية المحاكمة عن كتاب الله فقال هل تسألني عن مقدمه أو مؤخره أم عامه أو خاصه أم ناسخه أو منسوخه أم مطلقه أو مقيده.. وأخذ يسرد له علوم القرآن فلما رأى مبلغ تضلعه فيه قال:" فكوا القيد عنه، وهكذا بعلم وفهم القرآن، وأما أمواتاً فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن شهداء غزوة أحد الاثنين في قبر واحد ويسأل أيهم كان أكثر أخذاً للقرآن فإذا أشير إليه قدَّمه في اللحد على غيره، وهكذا بالأخذ والفهم والتناول والعمل لا مجرد القراءة فحسب.

 


وعوداً على بدء فإن ما نفهمه من السنة أيضا من كيفية تعامل النبي مع القرآن في رمضان لدليل على منهج السلف بطلب التعلم مع التلاوة، فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن جبريل كان يدارسه القرآن في رمضان ورواية يعارضه كما في فتح الباري 8/659، ولا شك أن هذه المدارسة تقتضي التلاوة والتفسير والتأويل والمعاني، وفي هذا استحباب وحث على تلك المدارسة مع القراءة والدليل لذلك أن الحافظ ابن حجر بين المقصود من التلاوة بأنه الفهم والحضور كما في الفتح 9/45 ومثله ما نقله ابن بطال في شرحه على البخاري 1/13 قال: ما كانت مدارسته للقرآن إلا لتزيده رغبة في الآخرة وزهداً في الدنيا ولذا يردف الأستاذ فيصل البعداني في كتابه السابق ص 67 أنا صرنا في زمان نرى حرص الكثيرين على ختم القرآن في رمضان عدة مرات وهذا وإن كان من الخير العميم لكن الإشكال في الإخلال الحاصل بأصل التلاوة وآدابها إذ يهذ بعض القراء في التراويح كهذِّ الشعر من غير تدبر وخشوع!!


ويروي السيوطي في كتابه الإتقان 2/468 عن أبي عبد الرحمن السلمي أن الذين كانوا يقرأون القرآن كعثمان بن عفان وابن مسعود وغيرهما إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها ويعملوا قال: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً، فقال السيوطي عقب ذلك: ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة كما حدث لعمر رضي الله عنه، ولذا قال الحسن البصري رحمه الله: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار، أقول ولهذا حذر ابن القيم من هجر القرآن وهو يذكر حال الناس معه: قال: وهجره بهجر سماعه وهجر العمل به وإن قرأه وبهجر تدبره والتحاكم إليه والاستشفاء به فهل لنا أن نتبع السلف في منهج التعامل مع القرآن في رمضان وغيره حتى يبقى مفتاح الصلة لنا بالله وزادُنا الذي لا ينفد لننهض بالبشرية من جديد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين