كتاب معاصر

ليس القرآن الكريم كتاب قصة أو تأريخ، وإنما هو كتاب هدى وتبصير، وموعظة وتذكير، وإنذار وتبشير، تخدم فيه القصص وأيام الأمم والشعوب الماضية غرضا من هذه الأغراض، ومن هنالك فُرِّقت أجزاء القصص تفريقا، أو كررت تكريرا حسب ما تستدعيه الحاجة أو يتطلبه المحل، ولم تُسْتوف قصة في سورة بعينها إلا قصة يوسف عليه السلام، فإنها أنزلت كاملة في سورة لم تقرن فيها إليها قصة أخرى، وذلك لهدف خاص سأعرض لبيانه في مقال.

تتخلل القصص في القرآن الكريم تنبيهات ولفتات من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أصحابه، أو الملأ من قريش، أو اليهود، أو النصارى، أو غيرهم، مجتمعين ومتفرقين، وهذه المداخلات القرآنية تتسق مع سياقها وسباقها اتساقا عجيبا لا يفطنه القارئ إلا بعد إنعام النظر فيها أو تأمل دقيق وتدبر عميق، وهذا ما يجعل القرآن كتابا معاصرا متصلا بمخاطبيه اتصالا وثيقا، لا كتابا غريبا عنهم، أثريا عتيقا.

ويتبع الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" المنهج نفسه، فكثيرا ما يأتي بفوائد نفيسة ضمن التراجم يجعل سِفْره سفرا مقترنا بزمانه ومكانه، فمثلا يقول في ترجمة الإمام أبي الحسن الأشعري: "رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي: سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات . قلت (القائل الذهبي): وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم". ومثل هذا كثير جدا في كتابه، وقد جمعت فوائده التي عَلِقَت بقلبي في دفتر خاص عندي.

وأسرد فيما يلي أمثلة من فصل القرآن بين أجزاء القصص بمواعظ مطابقة، أوترغيبات وترهيبات ضرورية:

1. في قصة موسى عليه السلام في سورة طه "قال فما بال القرون الأولى، قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى، منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى" (سورة طه 51-55)، دعا موسى عليه السلام فرعون إلى ربه، فسأله: من هو؟ فأجابه، وأراد فرعون صرفه عن دعوته، فقال: فما بال القرون الأولى، وكان موسى أعقل منه، فرد عليه بلطف متخلصا إلى إتمام حديثه عن ربه: "لا يضل ربي ولا ينسى"، وهنا وصل الله تعالى كلامه بكلامه، وقال: "الذي جعل لكم الأرض مهدا" إلى قوله "ومنها نخرجكم تارة أخرى"، فهذه الآيات الثلاث ليست من خطاب موسى عليه السلام، وإنما أكمل الله بها بيان ربوبيته لمخاطبي القرآن الكريم".

2. "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون، ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" (سورة الأعراف 155-160). دعا موسى عليه لقومه بدعوة، فأجابها الله تعالى مقيدا رحمته بالمتقين الذين يؤتون الزكاة وبآياته يؤمنون، وانتهى هنا ما قاله الله تعالى لموسى عليه السلام، ولو اقتصر القرآن الكريم على ذلك لاتخذته اليهود حيلة لعدم الإيمان بالنبي صلى الله عليه، فزاد الله تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي إلى قوله "هم المفلحون" تحذيرا لليهود أن ما وعد به موسى عليه السلام من كتابة رحمته للمؤمنين لن يتحقق بعد نزول القرآن إلا لمن آمن بالنبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، وأردفه: "قل يا أيها الناس" نداءًا على لسان النبي الأمي بأنه ليس مرسلا إلى العرب وحدهم، بل هو مرسل كذلك إلى اليهود والنصارى والعالمين أجمعين، ودعوةً لهم إلى الإيمان به وأمرا إياهم به أمرا محتوما.

3. "قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا، ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم" (سورة مريم 30-36) فقوله "ذلك عيسى بن مريم إلى قوله كن فيكون" اعتراض تخويفا للنصارى مما افتروه من الكذب، وتشديدا على أن الله لم يتخذ ولدا، وأن عيسى عليه السلام بريء من هذا الشرك، مقرا بعبوديته، وربوبية الله، وداعيا أتباعه إلى عبادة الله وحده.

4. "قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى، إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى". (سورة طه 72-76)، هذا خطاب السحرة لفرعون لما آمنوا لموسى عليه السلام فهددهم فرعون بالقتل شر قتلة، وهو خطاب قوي جدا ينم عن ثبات قلبهم ورباطة جأشهم، وإبمانهم الراسخ بأن الله خير وأبقى، فأتبعه الله ببيان عواقب المجرمين والمؤمنين حتى يكون تنبيها خاصا لقريش، فقوله "إنه من يأت ربه مجرما" إلى قوله "وذلك جزاء من تزكى" ليس من كلام السحرة، وإنما زيد تتمة لكلامهم وتذكيرا للمؤمنين والكافرين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أن عماد النجاة الإيمان بالله وعمل الصالحات.

وما هذه الأمثلة إلا نماذج، وكتاب الله حافل بنحو هذه التعقبات، دليلا على كونه كتابا معاصرا ذا صلة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الناس من لا ينتبه إلى معنوية هذه الجمل المعترضة، فيظنها مترابطة بما قبلها وبما بعدها ترابط الأجزاء بعضها ببعض، فيفسرها تفسيرا خاطئا، ويخلط تخليطا فاحشا.

وعلى هذا الدرب السني جرى العلماء قديما، فإذا حكوا قصة أو نقلوا كلمة علقوا عليها تعليقا مفيدا، قال الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/415: أنا الحسن بن أبي بكر، أنا أحمد بن إسحاق بن بنجاب الطيبي والحسن بن علي بن زياد، قالا: حدثنا أبو نعيم ضرار بن صرد، نا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: قال أبي: كان الناس فيما مضى من الزمان الأول إذا لقي الرجل من هو أعلم منه قال: اليوم يوم غنمي، فيتعلم منه، وإذا لقي من هو مثله قال: اليوم يوم مذاكرتي، فيذاكره،

وإذا لقي من هو دونه علَّمه، ولم يزْهُ عليه . قال (أي أبو حازم): حتى صار هذا الزمان، فصار الرجل يعيب من فوقه ابتغاء أن ينقطع منه، حتى لا يرى الناس أن له إليه حاجة ! وإذا لقي من هو مثله لم يذاكره، فهلك الناس عند ذلك.

وكان الفقهاء من المحدثين قد يلقون على أصحابهم خلال روايتهم للأحاديث والآثار فوائد في أوجز الألفاظ وأجمعها، يسميها أهل الحديث إدراجا، وهي تسمية خاطئة، كما سأبينها في مقال مفرد إن شاء الله تعالى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين