ثمرات المداومة على الطاعات

لا ينبغِي لعَاقلٍ أن يُنكِرَ علَى النَّاسِ زيادةَ أقبالِهِم علَى الطّاعاتِ في شهرِ رمضانَ؛ ففيهِ أُنزِلَ القرآنُ، واستوعبَت أيّامُهُ عبادةَ الصِّيامِ التِي لا يعلَمُ أجرَها إلَّا اللهُ جلَّ وعلَا، وفِي هذَا الشَّهرِ يُعَانُ العَبدُ علَى الطَّاعَةِ بمضاعفةِ الأجورِ، وفتحِ أبوابِ الجنَانِ، وغَلقِ أبوبِ النِّيرَانِ، وتصفيدِ الشَّياطِينِ.

لكنَّ المؤمِنَ الكَيِّسَ لَا يقطَعُ نفسَهُ عَن الطَّاعَاتِ فِي غَيرِ رمضَانَ، فالكونُ كلُّه محرابٌ للعبادَةِ، والاستمرارُ علَى الأعمَالِ الصَّالِحَةِ هُوَ ديدَنُ النَّبيِّينَ، ودأبُ المُؤمنِينَ المُتَّقِينَ، فقَد قالَ تعالَى حكايةً علَى لسانِ عيسَى عليهِ السَّلامُ: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم: 31]، وأمَر سيِّدَ البشرِ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بذَلِكَ، فقالَ: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]؛ أي: حتَّى يأتيَكَ المَوتُ.

ولمَّا وصفَ عبادَه المخلَصِينَ قالَ سبحانَهُ: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾[المعارج: 23]، أي: مُداومون عليهَا فِي أوقاتها بأركانِهَا وشروطِهَا ومكمِّلَاتِهَا، وفي الحَدِيث عَن عائشَةَ رضيَ اللهُ عنهَا مرفوعاً: (أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِن الأعمَالِ مَا تُطيقُونَ؛ فإنَّ اللهَ لا يَملُّ حَتَى تملُّوا، وإنَّ أحَبَّ الأعمَالِ إلَى اللهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ) [البخاري: 5861].

وللمُداوَمَةِ علَى الطَّاعَاتِ ثمراتٌ، أسوقُ لكَ ستّاً مِنهاَ:

الأولى: زيادَةُ الإيمَانِ؛ فالإيمَانُ يزِيدُ بالطَّاعَاتِ، وينقُصُ بالمعَاصِي، وكلُّ طاعَةٍ تَهدِي إلَى غَيرِهَا، وكلٌّ مَعصِيَةٍ تَجُرُّ غيرِها؛ ويؤكِّدُ ذلكَ حَدِيثُ ابنِ مَسعُودٍ رضيَ اللهٌ عنهُ مَرفُوعاً: (علَيْكُم بالصِّدْقِ، فإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا..) [مسلم: 2607]، وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَاعْلَمْ أَنَّ لَهَا عِنْدَهُ أَخَوَاتٍ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ يَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَاعْلَمْ أَنَّ لَهَا عِنْدَهُ أَخَوَاتٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ تَدُلُّ عَلَى أَخَوَاتِهَا، وَإِنَّ السَّيِّئَةَ تَدُلُّ عَلَى أَخَوَاتِهَا" [حلية الأولياء: 2/177].

الثانية: الأمنُ مِن الغَفلَةِ: وقَد ذمَّ اللهُ الغفلَةَ وأهلهَا، فقالَ: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 205]، وفي الحديثِ عَن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضيَ اللهٌ عنهُما أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ: (مَنْ قامَ بِعَشْرِ آياتٍ لمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ ، و مَنْ قامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ ، و مَنْ قامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِينَ) [أبو داود: 1398، وإسناده صحيح].

الثالثة: سَبَبٌ لمحبَّة اللهِ تعالَى؛ ففِي الحَدِيثِ القدسِيِّ عَن أبِي هُريرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ فيمَا يرويهِ عن ربِّهِ: (مَن عادَى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) [البخاري: 6502].

الرابعة: هِي سَبَبٌ للنَّجاةِ فِي الشَّدائِدِ في الدُّنيَا، ويشهدُ لذلكَ قولُهُ تعَالَى عَن يُونُسَ عليهِ السَّلَامُ: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 144]، أَي لولَا مَا تَقَدَّم لَهُ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ فِي الرَّخاءِ، فإنَّ العَمَلَ الصَّالِحَ يرفَعُ صَاحِبَهُ إذَا مَا عَثَرَ، فَإِذَا صُرِعَ وُجِدَ مُتَّكِئاً [تفسير الطبري: 21/108].

الخامسة: بقاءُ الأجرِ عندَ العَجزِ، فعَن أبِي مُوسَى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ: (إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَو سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) [البخاري: 2996]؛ قالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ رحمَهُ اللهُ: "هَذَا فِي حقِّ مَن كان يَعملُ طاعةً فمُنِع مِنهَا، وكانَت نيَّتُه لَولَا المَانعُ أن يَدُومَ عَلَيهَا" [فتح الباري: 6/136].

السادسة: حُسنُ الخَاتِمَةِ، فالأعمَالُ بخواتِيمِها، ومَن شبَّ علَى شَيءٍ شابَ عليهِ، ولذلكَ كانَت وصيَّةُ اللهُ تعَالَى لعبَادِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، أَيْ: حَافَظُوا عَلَى الْإِسْلَامِ فِي حَالِ صِحَّتِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ لِتَمُوتُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ قَدْ أَجْرَى عَادَتَهُ بِكَرَمِهِ أَنَّهُ مَنْ عَاشَ عَلَى شَيْءٍ مَاتَ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ بُعث عَلَيْهِ [تفسير ابن كثير: 2/87].

وصلَّى اللهُ على سيِّدنَا مُحمدٍ، وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين