القدوة ومعالمها

مَشَـى الطـاووسُ يومـاً باعْـوجاجٍ=فـقـلدَ شكـلَ مَشيتـهِ بنـوهُ

فقـالَ: عـلامَ تختـالونَ ؟ قالـوا =بـدأْتَ بـه ، ونحـنُ مقلـِـدوهُ

فخـالِفْ سـيركَ المعـوجَّ واعـدلْ =فـإنـا إن عـدلـْتَ معـدلـوه

أمـَا تـدري أبـانـا كـلُّ فـرع ٍ=يجـاري بالخـُطـى مـن أدبـوه؟!

وينشَــأُ ناشـئُ الفتيــانِ منـا=علـى ما كـان عـوَّدَه أبـــوه

نعم .فالإنسان صنيعة البيئة التي نشأ بها ، والوسط الذي يحيط به ، وهو بطبيعته مفطور علي تقليد غيره ممن يتوافقون مع ميولاته واهتماماته ، وتصوراته وغاياته ، فهم الذين يجد معهم نفسه ، ويستريح معهم ضميره ،ويتشكل معهم منهاج حياته ، ويري بعيونهم آماله وطموحاته ، ويجد نفسه مدفوعا الي تقليدهم ومحاكاتهم ، فيحذو حذوهم ، ويرتسم طريقهم ، فان علت اهتماماتهم وصحت تصوراتهم وعظمت غاياتهم علا معهم ، وان سفلت اهتماماتهم وساءت تصوراتهم وسفلت غاياتهم انحط معهم ...

ولعل أول مجتمع يساهم في بناء شخصية الإنسان وتوجيه بوصلته وتحديد وجهته في هذه الحياة هي أسرته ، وخاصة في المراحل العمرية الأولي من حياته ، حيث يكون الأبناء أشد التصاقا بالآباء ، ويكون الآباء في هذه الفترة هم المثل العليا لأبنائهم بما يشملونهم به من حب ورعاية ، وعلي قدر إدراك الآباء لذلك ، وعلي قدر فهمهم لدورهم ، وإدراكهم لرسالتهم ، علي قدر علوهم بأبنائهم...ولذا نحد كم يهتم الإسلام بالأسرة ، إذ أنها الحاضنة الرئيسة لمباديء الإسلام وقيمه ، والتي يقف الفرد من خلالها علي واحباته تجاه دينه ووطنه وأمته، فان صلحت صلح وصلحت الأمة ، وان فسدت فسد وفسدت الأمة.

ولكن التصاق الأبناء بالآباء قد لا يدوم طويلا ، إذ أنه يقل رويدا رويدا كلما تقدم الابن في العمر ، وكلما اتسعت مداركه ، وكلما كثرت تعاملاته مع المجتمع، وتفاعلاته مع الأحداث ، وعندئذ تتشكل لدي الأبناء قدوات أخري،، وعندئذ قد يعزز المجتمع ما غرسه الآباء في نفوس الأبناء ويجبر تقصيرهم ان كان المجتمع صالحا ، وقد يهدم ما بنوه في نفوس الأبناء ان كان المجتمع فاسدا ، ومن هنا ندرك أهمية نشر قيم الخير في المجتمع ، وأهمية حمله علي احترام مباديء ديننا وقيمه ، إذ أنه المربي الأعظم تأثيرا في نفوس أبنائنا بعد الأسرة ...

ومن هنا أيضا يبرز لنا أهمية وجود قدوات الخير في المجتمع ، الذين يجسدون المباديء والقيم ، وينقلونها من عالم الخيال إلي عالم الشهادة والواقع ، ومن حيز الأقوال إلي حيز الأفعال ، والذين يقيمون الحجة علي غيرهم أن ما يدعونهم إليه من خير قد أمرهم الله به ، وما ينهونهم عنه من شر قد نهاهم الله عنه ، هو في متناول البشر ، وفي وسعهم ، ولذا فهم لا يخالفون المجتمع الي ما ينهونه عنه ، وهم أول من يجتهد في تحصيل الخير الذي يدعون إليه ، وهؤلاء الصادقون لا فكاك من ان يلتف حولهم الناس ، ويتخلقوا بأخلاقهم ، ويتأدبوا بأدبهم ، ويؤمنوا بالدعوة التي بها يبشرون ، وينافحوا عن الفكرة التي إليهل يدعون ، ومن أجل ذلك بعث الله النبيين والمرسلين ، ليحملوا الناس علي منهج ربهم بفعالهم قبل أقوالهم ، وبأخلاقهم قبل سيوفهم !!!

ومن هنا أيضا يبرز لنا سبب عداوة أهل الباطل لهؤلاء ،ولماذا يعمدون إلي تشويههم بكل سبيل ، وصرف الناس عنهم بكل حيلة ، والحيلولة بينهم وبين الجماهير بكل ما أوتوا من قوة ، وصرف الناس عن معالي الأمور ، ةشغلهم بسفاسفها وتوافهها ، وتصدير سفلة القوم والتافهين منهم ليكونوا هم القدوات والزعامات ، ففي هذا المناخ الفاسد حياتهم وبقاؤهم ، وفي ظهور هؤلاء انكسارهم وزوالهم.

والإناء الفارغ لا يفيض علي من حوله ، ومواعظ واعظ لن تقبل ، حتي يعيها قلبه أولا ، ولن يكون المرء مصلحا إلا إذا كان صالحا ، ولن تنجح فكرة لا يؤمن بها صاحبها ، ولا يخلص في سبيلها ، ولا يتحمس لها ، ولا يستعد للتضحية والبذل من أجل تحقيقها ، ولذا فمقام القدوة يحتاج أول ما يحتاج إلي إصلاح النفس ، والمسارعة إلي استكمال جوانب نقصها ، والوقوف جيدا علي مباديء الدعوة وقيمها ، وحمل النفس علي امتثالها حتي يكون من وقف موقف القدوة خير ممثل لها ومعبر عنها ، ولذا فقبل ان يوقف الله خليله إبراهيم موقف القدوة ، وينزله منزلة الإمامة ، ابتلاه بكلمات ، فأمره بأوامر ، ونهاه عن نواه ، فلما أتمهن استحق إمامة الناس في الخير الي أن يرث الله آلأرض ومن عليها " وإذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ، قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين"

وكما رأينا فإبراهيم عليه السلام يطلب من الله الإمامة من بعده لذريته حتي يستمر مد الخير في آلأرض ، وهكذا الصالحون يطلبون من الله ان يوفقهم لبلوغ هذه المنزلة ويجتهدون في توريثها لمن بعدهم بتعهد من حولهم بالتربية حتي لا ينقطع الخير عنهم بعد مماتهم ، وحتي لا ينقطع الخير في آلأرض ، فهذه رسالتهم التي خلقهم الله من أحلها ، ولذا فمن دعائهم:" ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما"

ولهذا المقام العظيم معالمه ، التي لا تنفك عن صاحبه ، ومن فقدها فقده ، وفقد تأثيره وأضاع أثره ، وأول هذه المعالم إيمان الداعية برسالته ، وفهمه لدعوته ، ووضوح رؤيته ، وعلمه بطبيعة الطريق الذي يسلكه ، وإحاطته بمنعطفاته وآفاته ، فبدون ذلك سرعان ما سيسقط ، وسرعان ما سيذهب بريقه ، وينمحي أثره " فأما الزبد فيذهب جفاءا ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في آلأرض"

وثاني هذه المعالم مصداقيته ، ومطابقة فعله قوله ، فلا يأمر الناس بخير إلا ويسبقهم في امتثاله ، ولا ينهاهم عن منكر ويخالفهم إليه ، تلك المصداقية التي عبر عنها سيد المرسلين بقوله :" وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " ، وتلك التي منعته ان يستجيب لعمر رضي الله عنه عندما دعاه لخلع ثنيتي سهيل بن عمرو عندما وقع في الأسر وكان فصيحا بليغا شديدا علي رسول الله صلي الله عليه وسلم ودعوته ، فقال لعمر :" لا أمثل فيمثل الله بي" ، وتلك التي جعلته يقوم الليل حتي تورمت قدماه اتقول له عائشة رضي الله عنها :" أتفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟!" فيقول لها :" أفلا أكون عبدا شكورا" ، وتلك التي جعلته لا يقبل راحلة أبي بكر في الهجرة إلا بالثمن حرصا منه علي تحصيل الأجر ، وتلك التي جعلته يترك وطنه الذي هو أحب البلاد الي قلبه مهاجرا الي ربه مناصرا لدعوته محاهدا في سبيل تبليغ رسالته ، وتلك التي جعلته وله خمس الغنيمة يموت يوم يموت وليس في بيته مال ولا درهم يورثه حيث كان يرد ماله علي المسلمين، كان أصدق الناس ، فكان خير الناس، وأكرمهم علي رب الناس..

وثالث هذه المعالم تواضعه ، فهو يقبل النصيحة ممن هو دونه وعلي أي وجه ، ويدور مع الحق حيثما دار ، ولا يري موضعا ولا رأيا أنفع مما هو عليه إلا وانتقل إليه راضيا محتسبا ، ولا يثبت له خطأ ما هو عليه إلا ويسارع بالاعتراف بخطئه والتوبة منه ، وها هو النبي صلي الله عليه وسلم ينزل علي رأي الحباب بن المنذر في غزوة بدر ويغير موضعه الذي ارتآه الي الموضع الذي اقترحه الحباب حيث رآه الأصوب ، وعندما ارتأي رأيا في شأن من شؤون زراعة النخيل فظهر عدم صوابه قال لهم :" أنتم أعلم بأمور دنياكم !!!!!!

ورابع هذه المعالم المسؤولية ، وأعني بها تقديره للمقام الذي أقامه الله فيه ، مقام الأستاذية ، وهو مقام لو يعلمه عظيم ، فان أصلح فله أجره وأجر من اقتدي به الي يوم القيامة ، وإن أساء فعليه وزره ووزر من اقتدي به إلي يوم القيامة ، وهذا هو المقصود من قول سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم:" كلكم علي ثغر من ثغور الإسلام فليحذر ان يؤتي الإسلام من قبله " ، وقوله صلي الله عليه وسلم أيضا:" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلي يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة " ...ولقد وعي أحدهم الدرس فقال:' كنا نضحك ، فلما علمنا أنه صار يقتدي بنا أمسكنا عن الضحك " .

بمثل هذه المعالم تعظم القدوات ، ويعظم تأثيرها ، ويمتد أثرها ، ويحق نصرها ، فما أكثر الأدعياء ، وما أقل الصادقين الأصفياء ، فلنسارع جميعا الي استكمال فضائل النفس ، ولنطلب من الله علي ذلك العون ، حتي يكون كل منا صالحا في نفسه ، قوي الجسم ، متين الخلق ، مثقف الفكر ، قادرا علي الكسب ، سليم العقيدة ، صحيح العبادة ، مجاهدا لنفسه ، حريصا علي وقته ، منظما في شؤونه ، نافعا لغيره ، فيستحق بذلك ان ينزله الله منزلة الإمامة والأستاذية ، فينال بها خيري الدنيا والآخرة ، هيأ الله لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين