خواطر كورونية (2) فرصة للصيانة والترميم

لكل آلة من الآلات وللسيارات والطيارات أوقاتٌ للصيانة لا بُدّ منها بعد الاستهلاك الطويل الذي تَبلَى فيه أجزاؤها مع الحركة والدوران، وكل بناء بناه الإنسان يحتاج إلى الترميم بين آن وآن لأن الزمان يأكل أبّهتَه ويشقق الجدران والأركان.

ونحن -البشرَ- نعيش أعمارنا نعمل مثل الآلات، فنستهلك أبداننا وأذهاننا ونبدّد أوقاتنا وقواتنا في مطحنة الحياة التي لا يتوقف رَحاها عن الدوران. وكم من مرة تمنينا فيها فسحة من الزمن نخرج فيها من تلك المطحنة، من الدُّوامة الآسرة، لنجدد أنفسنا ونتعهد ذواتنا بالصيانة والترميم؟

فالآن وقد اتسع الوقت مع الحجر الإلزامي (الجزئي والكلي) في البيوت جاءت فرصة العمر وتحققت أعظم الأمنيات، الآن يملك كل واحد فينا وقتاً فائضاً كان يرجوه ويتمناه، ولعله ودّ أن يشتريه بالمال لو كان الوقت بضاعة تُباع في الأسواق!

* * *

كم كتاباً رجوت قراءته ولم تجد لقراءته فسحة من الوقت؟ كم محاضرة أحببت سماعها ثم لم تسمعها؟ كم دورة تمنيت المشاركة فيها ثم لم تفعل؟ كم ختمة فاتتك وقطعَتْها الشهورُ وأنت منشغل بالدنيا عنها؟ كم بَعُدَ عهدك بالاسترخاء والتأمل والتفكر والتدبر في شأن نفسك وشؤون أسرتك وأمتك والعالم الذي تعيش فيه؟ متى نظمت آخرَ مرة أوراقك وملفاتك، سواء ما كان منها ورقاً تراكَمَ في الأدراج أو ملفات ازدحمت بها أجهزتك الإلكترونية؟ ثم كم في بيتك من أعمال تنتظر فراغك: إصلاحات وتركيبات وترتيبات؟

ألفُ عمل كنت ترجو تنفيذه، ويمر الشهر بعد الشهر ويتصرّم العام بعد العام وهو حيث هو، لم تبدأ به ولم تقطع فيه خطوة. فاخْطُ الخطوة المنتظَرة اليوم. أخرج كتبك وابدأ بقراءتها، جهّز المحاضرات والدورات وبادر إلى سماعها، انشر مصحفك بين يديك وصِلْ ما انقطع من علاقتك به وبربك الكريم، امنح نفسك فرصة للاسترخاء والتأمل والتفكر والتدبر، أصلح وركّب ورتب ما ينتظر ذلك كلَّه في بيتك، استخرج أوراقك وصورك وملفاتك فرتّب ونظم ما يستحق منها الترتيب والتنظيم واحذف وتخلص من المهملات التي تجعل حياتك مزدحمة مضطربة بلا نظام.

* * *

الخلاصة: إن هذه الأيام التي يَضيق كثيرون فيها بالبقاء في البيوت هي فرصة ذهبية للصيانة والترميم، قليل منها لصيانة الجمادات التي نعيش معها ولا نستغني عنها وتخدمنا ما خدمناها، وأكثرها لصيانة الروح والعقل والحياة والعلاقات؛ لترميم وتجديد علاقة المرء بنفسه كما قلت هنا، ولترميمها وتجديدها بشريك الحياة (الزوج مع زوجته والزوجة مع زوجها) ومع الأولاد كما قلت في الجزء الأول من هذه الخواطر الكورونية. فاغتنموا الفرصة قبل أن تعود دُوّامة الحياة المعتادة إلى الدوران وتغرقوا في لُجة بحرها الزخّار من جديد.

عافانا الله جميعاً من البلاء والوباء وحفظنا من كل ضر ومكروه. وكل عام وأنتم جميعاً بخير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين