خواطر كورونية (1) الأسرة السعيدة

لهذه الجائحة العالمية وجهها القبيح الذي يعرفه كل الناس، ولكنّ لها أيضاً وجهَها الحسن وفوائدَها التي لا تُنكر، وعلى رأسها التآلفُ والتعارف والتوادُّ والتراحم بين أهل البيت الواحد.

صحيحٌ أنهم يعيشون معاً وينبغي أن يعرف كل واحد منهم سائر أهل البيت معرفة وثيقة، لكنْ ما كل ما ينبغي أن يكون يكون، ولا سيما في عصرٍ انشغل فيه كل واحد بخاصّة نفسه واختل التواصل بين الناس جميعاً، فلو سألتَ الأب عن أولاده، عن هواياتهم وميولهم وأفكارهم وأصحابهم وجميع شأنهم، كاد يعجز عن الإجابة عن سؤالين من كل ثلاثة. ولو سألت الزوج عن زوجته، عن همومها واهتماماتها وما تحب وما تكره، لرسب في الامتحان كثيرون.

فلما حبس الوباء الناسَ في البيوت واضطروا إلى قضاء الوقت الأطول متصاحبين تفتحت في الجُدُر المُصمَتة بينهم ثغراتٌ ونوافذُ نفذ منها كل واحد إلى عوالم الآخرين، فعرف الواحدُ أهلَ بيته كما لم يعرفهم من قبل، وزادت الألفة والمحبة والتفاهم والانسجام بين الجميع.

أعلم أن الأخبار تطير بالخلافات التي زادت في الأُسَر وأن الإحصاءات تشير إلى زيادة العنف في البيوت، ولكنها لا تُحمل على ظاهرها بإطلاق، فالإعلام يبرز السيّئ من الأخبار ويواري الحَسَن، لأنه يختار الشاذ الذي يثير اهتمام الناس ويتجاهل الشائع المألوف الذي لا يثير الاهتمام، فيصوّر عاصفة من غبار ويهمل تفتّحَ ملايين الأوراد والأزهار، ويخبرنا عن طيارة سقطت ومات ركابها ولا يخبرنا عن مئة ألف طيارة وصلت إلى غاياتها بسلام.

لا ريب أن الخلافات زادت في البيوت مع الحجر الإلزامي وزاد العنف الأسري، ولكنْ مَن قال إن الأخيار صاروا بالحَجْر من الأشرار؟ إن القويّ الذي يَفُشّ غليله وينفّس غضبه في الضعيف لم يكن إنساناً صالحاً قط، وإنما زادته الظروف الجديدة سوءاً فوق سوء. أما أصحاب الطبع النبيل والخلق الأصيل (وهم الأكثرون بحمد الله) فقد زادتهم هذه المحنة عطفاً ولطفاً وتقارباً وتفاهماً وألفة ومودة.

عاش الزوج مع زوجته في البيت ساعات النهار كلها فأدرك كم تَشقى لجعل البيت مكاناً صالحاً للحياة، فقدّرها كما لم يفعل من قبل. ولعله جاد عليها بالحنان ومَدّ لها يد العون (اقتداء بالحبيب المصطفى الذي كان في مهنة أهله) فعَظُم في عينها واحتل من قلبها أعلى الدرجات. واجتمع الآباء مع الأبناء أطول الأوقات فتقاربوا وتواددوا، وعرف الآباء من أخبار الأولاد ما جهلوه ونال الأولاد من فوائد الآباء ما حُرموه. ووجد الإخوةُ والأخوات فسحةً طويلة لتبادل الأخبار والأفكار والتشارك بالهوايات والاهتمامات، فازدادوا تقارباً وتوثقت علاقة بعضهم ببعض كما لم يحصل من قبل حين كان لكل منهم عالمه الذي يصرّم فيه أكثرَ وقته.

ربما كانت البيوت التي عصفت بها الخلافات خمسة آلاف فصارت عشرة آلاف، ولكن عشرات الملايين حلوا خلافاتهم وباتوا يعيشون في سعادة وهناء. وربما زاد العنف الأسري (الذي لا يُرضي الله) ولكن التفاهم والتراحم أيضاً زاد. ولئن كان الحجر الإلزامي في البيوت قد استخرج من بعض أصحاب الخلق السيّئ أسوأ ما في أنفسهم فقد ازداد به أصحابُ الخلق الكريم كرماً ونبلاً، وكان الذي كسبوه أكثر بكثير من الذي خسروه. وهذه من فوائد كورونا، ولها فوائد أخرى يأتي خبرها في المقالات الآتيات.

عافاكم الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين