لَيْلَةُ الْقَدْرِ...تساؤلاتٌ مطروحةٌ للنقاشِ.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آلهِ وصحبهِ ومن والاه، وبعد:

ففي زحمة الدخول في التفاصيل، ومعرفة دقائق الأمور قد تغيب الأساسيات، ومنها ما نرى أن مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات العلمية تعج في معرفة أدق الأمور المتعلقة بليلة القدر وعلاماتها وتحريها واستقراء أحاديثها شرحاً ودراسة وتحقيقاً للوصول إلى الصواب وفي كل ذلك خير عظيم وجهد مبارك لا يخفى على ذي لبٍّ، ولكن قد تغيب بعض الأساسيات على القارئ والمطلع الذي يريد أن يتلذذ بالمعاني الإيمانية لهذه الليلة المباركة. 

ومن هذه الأساسيات التي وددت أن أطرحها بشكل تساؤلات لاستنهاض الهمم في البحث عن جوابها...ومنها:

1-هذه الليلة وصفت بأنها خيرٌ من ألف شهر فقال الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]. والسبب في اختصاص هذه الأمة بالخيرية في هذه الليلة كما جاء عن مَالِكٍ أَنَّهُ سمع من يَثِقُ بِـهِ من أَهْلِ الْعِلْمِ يقول: " إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم أُري أَعْمَارَ الناس قَبْلَهُ أو ما شَاءَ الله من ذلك فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لاَ يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ الـذي بَلَغَ غَيْرُهُمْ في طُولِ الْعُمْرِ فَأَعْطَاهُ الله لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ من أَلْفِ شهر"(1)...ومما يُروى في نزول هذه الآيـة أيضاً عن مجـاهد: " أن النبيصلى الله عليه وآله وسلمذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، قال: فعجب المسلمون من ذلك، قال فـأنزل الله عزَّ وجل: (إنا أنزلناه في ليلة القدر ومـا أدراك ما ليـلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر)؛ التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر"(2). 

قال النووي: وقد خص الله تعالى هذه الأمة بها، فلم تكن لمن قبلهم على الصحيح المشهور(3).

ومن التفاصيل التي انهمك الناس فيها حساب السنوات والاشهر التي تعادلها وأنها بمثابة (83) سنة أو تزيد بثلاثة أشهر وَنَسَوا أو تناسَوا أن النص القرآني ذكر "خير" ولم يذكر أعظم أو أفضل أو أكثر...الخ.

والسؤال المهم: لمـاذا وصفت هذه الليلة بالخيرية ولم توصف بأنها أفضل أو أعظم أو أكثر... الخ من ألف شهر؟ وهناك فرق وأضح للمطلع بين المصطلحات سالفة الذكر.

مما ينبغي أن يعلم قبل الجواب على السؤال أن هذه الليلة خير من ألف شهر ليس فيها هذه الليلة.

قال العلماء: (وَقَوله تَعَالَى: {لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر}. فَإِن لَيْلَة الْقدر تُوجد فِي كل اثْنَي عشر شهرا فَيُؤَدِّي إِلَى تَفْضِيل الشَّيْء على نَفسه بِثَلَاث وَثَمَانِينَ مرّة فَكَانَ مُشكلا. فَبعد التَّأَمُّل عرف أَن المُرَاد ألف شهر لَيْسَ فِيهَا لَيْلَة الْقدر لَا ألف شهر على الْوَلَاء وَلِهَذَا لم يقل خير من أَرْبَعَة أشهر وَثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة لِأَنَّهَا تُوجد فِي كل سنة لَا محَالة فَيُؤَدِّي إِلَى مَا ذكرنَا)(4). 

ولا يمكن الوصول إلى جواب السؤال إلا بمعرفة منظومة الخيريات في الإسلام وأن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد أختصَّت بذلك دون غيرها من الأمم كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}[آل عمران: 110] ، وقال تعالى :{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[القصص: 84] وقال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ }[النمل: 89] ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (5)، وقوله: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(6)، وقوله في الآذان: «الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ »(7)، وقوله: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(8)، وقوله: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»(9)، وغير ذلك عشرات النصوص في الكتاب والسنة التي تثبت الخيرية للأمة ولأعمالها وحسناتها(10).

ولا يغيب عن ذهننا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أستخدم مصطلح "أفضل" في نصوص أخرى؛ فعن أبي الدَّرْدَاءِ قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ من دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قالوا بَلَى قال صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فإن فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ. وَيُرْوَى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلمأَنَّهُ قال هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ"(11)، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ، يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ"(12)، وغيرها من النصوص المتكاثرة . 

وكذلك استخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصطلح "أعظم"، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَنْ أَذِنَ بِجِنَازَةٍ فَانْصَرَفَ عَنْهَا إِلَى أَهْلِهِ كَانَ لَهُ قِيرَاطٌ، فَإِذَا شَيَّعَهَا كَانَ لَهُ قِيرَاطٌ، فَإِذَا صَلَّى عَلَيْهَا كَانَ لَهُ قِيرَاطٌ، فَإِذَا جَلَسَ حَتَّى يُقْضَى قَضَاؤُهَا كَانَ لَهُ قِيرَاطٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «الْقِيرَاطُ عِنْدَ اللهِ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ أَوْ أَعْظَمُ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ»(13)، والمتتبع للسنة النبوية سيجد غير ذلك من النصوص في هذا الباب، وكذلك في الكتاب العزيز قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهَ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [الحديد: 10].

أقول: إذا علمنا هذه المنظومة المتكاملة والفرق بين المصطلحات تم لنا الجواب؛ فالأفضلية هي مشاركة المتشابهين في الأصل والفاضل يفوق المفضول بأمر معين، والعظم يكون في المنازل عند الله ويستخدم في المحسوس وغيره، والأكثر فهما من جنس واحد أحدهما يزيد على الاخر.

ولكن ليلة القدر لا يشابهها بفضلها ورفعتها ومقامها ومنزلتها عند الله ليلة أخرى فناسب أن توصف بالخيرية وليس بغيرها من المصطلحات السابقة، فليس لهذه الليلة حد ولا سقف تحد به فهي ميدان ومضمار وأسع لا يعلم حدوده الا الله فناسب أن تقترن بها الخيرية دون غيرها والله أعلم بالصواب(14).

وإذا أتممنا جواب ذلك فكيف نجمع بين كونها (خير من ألف شهر) في سورة القدر، وبين كونها ( ليلة مباركة ) في سورة الدخان بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}؟ 

والجواب على ذلك أنه لا تضاد بين المباركة والخيرية فكلٌ له ميدانه، فالمباركة مأخوذة من الْبَرَكَةُ وهي: الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ، والخيرية تعني المضاعفة والزيادة وكثرة الفضل وكلاهما متحقق في هذه الليلة ولا تضاد بينهما(15).

2-النص القرآني أثبت الخيرية لليلة القدر عموماً، وهي عامة ولم تحدد بعمل معين، نعم ورد النص في السُنَّة بأفضلية تخصيصها بالقيام لقوله: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (16)، ولكن ينبغي الانتباه أن النبيصلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر أنها تكتب له كقيام ألف شهر ولكن رتب على ذلك مغفرة الذنب. فهل هناك فرق بين الاثنين؟

والجواب: نعم فأعمال الخير في هذه الليلة لا تنحصر بالصلاة والدعاء والذكر فقط نعم هي من أفضلها ولكن هذا لا يعني نفي باقي الاعمال الصالحة لتتناول جميعها بلا استثناء ولو حصرت بالصلاة دون غيرها لفات هذا الفضل الحائض والنفساء وغيرهم ممن لا يقدرون على القيام لعارض سماوي أو غيره.

3-الخيرية لليلة واحدة ولكن ما ترتب عليها ليس ألف ليلة وليس ألف يوم وإنما ألف شهر، فلماذا ذكر الشهر ولم تذكر الليالي أو الأيام؟

الجواب: ان سقف الخيرية لا يحد بحد، وما ذكر من الشهر للمبالغة في حصول الأجر والثواب وهو أمر غير متناه عند الله فالتعبير بألف شهر هذا مقصده وهذا مغزاه، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن شهر رمضان فضل لليلة القدر فيه فكرم الشهر لهذه الليلة، وهذا مانفهمه من قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ....}، فلذلك عبر بالشهر لهذه المشاكلة والله أعلم بالصواب. 

قال علماء التفسير: 

وَتَفْضِيلُهَا بِالْخَيْرِ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ. إِنَّمَا هُوَ بِتَضْعِيفِ فَضْلِ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَوَفْرَةِ ثَوَابِ الصَّدَقَاتِ وَالْبَرَكَةِ لِلْأُمَّةِ فِيهَا، لِأَنَّ تَفَاضُلَ الْأَيَّامِ لَا يَكُونُ بِمَقَادِيرِ أَزْمِنَتِهَا وَلَا بِمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ مَطَرٍ، وَلَا بِطُولِهَا أَوْ بِقِصَرِهَا، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْبَأُ بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الصَّلَاحِ لِلنَّاسِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ وَمَا يُعِينُ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَنَشْرِ الدِّينِ. وَقَدْ قَالَ فِي فَضْلِ النَّاسِ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] فَكَذَلِكَ فَضْلُ الْأَزْمَانِ إِنَّمَا يُقَاسُ بِمَا يَحْصُلُ فِيهَا لِأَنَّهَا ظُرُوفٌ لِلْأَعْمَالِ وَلَيْسَتْ لَهَا صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ يُمْكِنُ أَنْ تَتَفَاضَلَ بِهَا كَتَفَاضُلِ النَّاسِ فَفَضْلُهَا بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهَا مِنَ التَّفْضِيلِ كَتَفْضِيلِ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ لِلْقُرُبَاتِ وَعَدَدُ الْأَلْفِ يَظْهَرُ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي وَفْرَةِ التكثير كَقَوْلِه: «وَاحِد كَأَلْفٍ» وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ(17).

4-سبب خيرية هذه الليلة كما يُعلم وهو نزول القرآن فيها وليس لتنزله وبينهما فرق معلوم لدى أهل الاختصاص ...فلماذا يهتم الناس بتعظيم هذه الليلة وتحريها وفي ذلك من الخير العظيم ولا يهتمون لسبب تعظيمها وهو نزول القرآن الكريم فيها؟

والجواب: أن هذا مفهوم ينبغي تصحيحه والتنبيه عليه، فالأفضلية لهذه الليلة لنزول القرآن فيها فينبغي الاهتمام بالقرآن شريعة ومنهاجاً وتطبيقاً وسلوكاً ويكون الاحتفاء به بالشكر والعرفان لله تعالى بقيام هذه الليلة وتخصيصها بالطاعة فهي بمثابة الشكر لله تعالى على ما نزل على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم...والأهم من ذلك كله أننا أمة نعبد رب هذه الليلة ولا نعبد هذه الليلة فالعبادة في هذه الليلة المخصوصة لا لذاتها وإنما للوصول إلى رب هذه الليلة والله أعلم بالصواب.

5-العنوان البارز لهذه الليلة هو "السلام" وليس كما يزعم بعضهم بأنه الهدوء...فما هو الفرق بينهما؟ 

والجواب : العنوان البارز لهذه الليلة كما ورد في سورة القدر هو "السلام" وليس كما يقول بعض هو بأنه الهدوء، والسلام منظومة متكاملة في الإسلام وصورها عديدة ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم : وهو ينتهي من أعظم عبادة في الإسلام وهي الصلاة يختمها بالسلام فعلا وقولا ثم يتبعها بقوله : «اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» (18)، ولذلك عندما أرد ان يبتدئ في بناء دولته في المدينة المنورة كان أول بيان منه للبشرية عامة هو السلام فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِسَلَامٍ» (19)، فهذه الليلة هي عنوان للسلام فعلا وقولا وينبغي أن تكون شعارا للمسلم في الاطار العام لدعوته الا ما يضطر اليه من مقارعة الأعداء لنشر السلام والإسلام في بقاع المعمورة. فحق لهذه الليلة أن تسمى ليلة السلام العالمي والله أعلم بالصواب.

6-نهاية هذه الليلة حددت بغاية وهي مطلع الفجر قال الله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، ولم يقل إلى الفجر. فهل هناك فرق بين مطلع الفجر والى الفجر فما هو؟ 

والجواب عن ذلك: لا بد ان نستحضر قوله تعالى: {...ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ...} [البقرة: من الآية: 187]، فغاية الصوم تنتهي بدخول الليل وهو أذان المغرب ولكن غاية ليلة القدر لا تنتهي بدخول أذان الفجر وإنما صلاة الفجر من ضمن هذه الليلة وهذه من بركة هذه الليلة وخـيرها بانها تشمل اللــيل ونهار هذه الليلة إلى مطلع الفجر وليس إلى اذان الفجر وهذا ما نطق به الأفذاذ من أهل التفسير والتأويل.

قال الرازي: الْمَطْلَعُ الطُّلُوعُ يُقَالُ: طَلَعَ الْفَجْرُ طُلُوعًا وَمَطْلَعًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَدُومُ ذَلِكَ السَّلَامُ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ اللَّامِ فَهُوَ اسْمٌ لِوَقْتِ الطُّلُوعِ وَكَذَا مَكَانُ الطُّلُوعِ مَطْلَعٌ قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَمَّا أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا فَإِنَّهُمُ اخْتَارُوا فَتْحَ اللَّامِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَقَالُوا: الْكَسْرُ اسْمٌ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَلَا مَعْنَى لِاسْمِ مَوْضِعِ الطُّلُوعِ هاهنا بَلْ إِنْ حُمِلَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ مِنَ اسْمِ وَقْتِ الطُّلُوعِ صَحَّ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا، لِأَنَّ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمَفْعِلِ مَا قَدْ كُسِرَ كَقَوْلِهِمْ عَلَاءُ الْمَكْبِرِ والمعجز ...فَكَذَلِكَ كَسْرُ الْمَطْلِعِ جَاءَ شَاذًّا عَمًّا عَلَيْهِ بَابُهُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ(20)

وقال ابن عاشور: وَجِيءَ بِحَرْفِ حَتَّى لِإِدْخَالِ الْغَايَةِ لِبَيَانِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَمْتَدُّ بَعْدَ مَطْلَعِ الْفَجْرِ بِحَيْثُ إِنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ تُعْتَبَرُ وَاقِعَةً فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ نِهَايَتَهَا كَنِهَايَةِ الْفِطْرِ بِآخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَهَذَا تَوْسِعَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي امْتِدَادِ اللَّيْلَةِ إِلَى مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ...وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَطْلَعِ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ طُلُوعُ الْفَجْرِ، أَيْ ظُهُورُهُ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى زَمَانِ طُلُوعِ الْفَجْرِ(21).

وهذا يشبه ما يذكره الفقهاء في فضل يوم عرفة، فيمتد فضل اليوم إلى ليلة العيد فمن شهد عرفة ليلاً كتب له شهود ركن عرفة وصح حجه لهذا المعنى والمغزى(22).

وأضاف ابن عاشور في هذا الباب ملحظاً آخر في هذا الباب فقال:

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْغَايَةِ إِفَادَةُ أَنَّ جَمِيعَ أَحْيَانِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَعْمُورَةٌ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَالسَّلَامَةِ، فَالْغَايَةُ هُنَا مُؤَكِّدَةٌ لِمَدْلُولِ لَيْلَةِ [الْقدر: 1]؛ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهَا كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، أَيْ مَنْ قَامَ بَعْضَهَا، فَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا. يُرِيدُ شَهِدَهَا فِي جَمَاعَةٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ شَهِدَ، فَإِنَّ شُهُودَ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ(23).

7-الخيرية لهذه الليلة لنزول القرآن فيها ولكنه لم يذكر صريحاً في هذه السورة وإنما عوض عنه بالضمير المتصل " الهاء" قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ} [القدر: 1] ...فلماذا لم يقل: أنا أنزلنا القرآن...؟ وكذا لفظ الجلالة لم يذكر صريحا " الله" وإنما عوض عنه بالضمير المنفصل "إنا" في هذا الموضع؟

والاجابة عن ذلك أن التعبير بالضمير أقوى في هذا الموضع من التصريح به، وذلك لأن القرآن حاضر في ذهن المسلم ومخيلته وهو سبب الخيرية في هذه الليلة فعبر عنه بالضمير لأنه معلوم ومقطوع به، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]، وكذا التعظيم في الضمير المنفصل "إنا" فهو أقوى في الدلالة من التصريح بلفظ الجلالة الصريح كما يعلم عند أهل هذا الشأن والله أعلم بالصواب.

وفي الختام هذه بعض التساؤلات وهي من الأساسيات التي ينبغي الوقوف عليها في هذه الليلة؛ لأنها ليلةٌ يختصُّ فيها السالك بتجلٍّ خاصّ يعرف به قدرَه ورُتبتَه بالنسبة إلى محبوبه، وهو وقتُ ابتداء وصول السالك إلى عين الجمع ومقام البالغين(24).

وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على سيّدنا مُحمّدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.

(1) موطأ مـالك: ج1/ص321. قـال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث يروى مسندا من وجه من الوجوه ولا أعرفه في غير الموطأ مرسلاً ولا مسنداً وهذا أحد الأحاديث التي انفرد بها مالك ولكنها رغائب وفضائل وليست أحكاما ولا بنى عليها في كتابه ولا في موطئه حكما. ينظر: التمهيد لابن عبد البر: ج24/ص373.

(2) سنن البيهقي الكبرى: ج4/ص306، رقم: (8305)، وقال: وهذا مرسل.

(3) ينظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح: ج1/ص264.

(4) ينظر دستور العلماء = جامع العلوم في اصطلاحات الفنون (3/ 187).

(5) ينظر صحيح البخاري (3/ 171) (2651).

(6) ينظر صحيح البخاري (6/ 192) (5027).

(7) ينظر سنن الترمذي ت بشار (1/ 271).

(8) ينظر سنن الترمذي ت بشار (5/ 464) (3585).

(9) ينظر سنن الترمذي ت بشار (6/ 192) (3895).

(10) وهو ما جمعته بمؤلف خاص سميته: "خيريات نبوية" وهو في طريقه للنشر ان شاء الله.

(11) سنن الترمذي ج4/ص663، رقم: (2509)، وقال: هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وسنن أبي داود: ج4/ص280، رقم: (4919)، ومسند أحمد بن حنبل ج6/ص444، رقم: (27548)، وصحيح ابن حبان: ج11/ص489، رقم: (5092). قال المنذري: رواه البزار بإسناد جيد والبيهقي وغيرهما. ينظر الترغيب والترهيب: 3/347، ورمز السيوطي لصحته. ينظر التيسير بشرح الجامع الصغير: ج2/ص562.

(12) صحيح مسلم (4/ 2071) (2691)، مسند أحمد ط الرسالة (13/ 384) (8008)، موطأ مالك ت الأعظمي (2/ 293) (712/ 229).

(13) مسند أبي يعلى الموصلي (11/ 336) (6453).

(14) ينظر الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (2/ 55)، ولسان العرب (5/ 74)، مقاييس اللغة (4/ 508).

(15) ينظر مقاييس اللغة (1/ 230)

(16) صحيح البخاري (3/ 26) (1901).

(17) ينظر تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (32/ 231)، والتحرير والتنوير (30/ 459).

(18) صحيح مسلم (1/ 414) (591)، ومن لطائف هذا الحديث أن راوية عبد الله بن سلام رضي الله عنه.

(19) سنن الترمذي ت شاكر (4/ 652) (2485).

(20) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (32/ 236).

(21) التحرير والتنوير (30/ 466).

(22) ينظر فتح القدير 2 / 373 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 / 229 المطبعة الأميرية ببولاق الطبعة الثانية، حاشية الدسوقي 2 / 36 دار الفكر، مغني المحتاج 1 / 498 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 2 / 494 عالم الكتب، وينظر التفصيل في الموسوعة الفقهية الكويتية (23/ 116).

(23) التحرير والتنوير (30/ 466).

(24) التعريفات الفقهية (ص: 189).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين