العَفُوُّ .... عنوانٌ لليلةِ القدرِ دونَ غيرهِ 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آلهِ وصحبهِ ومن والاه وبعد:

فمع إطـلالة العشر الأواخر من شهر رمضان لعام 1441هجـرية، كلنا تَوَّاقٌ للإبحار في معنى الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمـذي والذي يروى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إن عَلِمْتُ أَيُّ لَيْـلَةٍ لَيْـلَةُ الْقَدْرِ ما أَقُولُ فيها؟ قال: قُـولِي: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي "(1). وذكره ابن مـاجة، والحاكم بلفظ: " قُلْتُ يَـا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟"(2)، وكذا جاء في بعض نسخ مسند أحمد والترمـذي بزيادة لفظ: "كريم"، فيكون الـدعاء: " إنك عفوٌّ كريم..."(3).

والسؤال المهم الذي يفصح عن نفسه ...ما الذي يتضمنه مصطلح " العفو" من معان ونفحات جعلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى يختاره من بين عدة مصطلحات تنيف على ست وأربعين مصطلحاً أو تزيد في هذا الباب في الكتاب والسنة فيما وقفت عليه.

أقول وبالله التوفيق ومنه العون والسداد:

للإجابة على هذا السؤال يقتـضي أولاً معـرفة تعريف "العفو" في اللغة والاصطلاح واستعراض النصوص التي ورد بها ثم التعريج على أقوال العلماء للوصول إلى المراد من ذلك.

ثم معـرفة مرتبة العفو ثانياً والتي من خلاها يتبين لنا التوصيف الدقيق والرفيع لهذا المصطلح الذي أهله ليكون عنواناً لهذه الليلة دون غيره.

ومن ثم تحديد الفرق بين العفو والمغفرة ثالثاً.

وبعد الإجابة والايضاح لكل ما سلف وجدنا أنفسنا أمام سؤال جديد يستحق التمعن والتفكر فيه؛ ومفاده: إذا كان الله تعالى يمن بـالعفو على عباده بلا طلب سابق من العبد فلمَ نطلب منه العفو في هذه الليلة؟

ولما كان العفو من الله والعباد فما وجه المشاكلة بين حبه للعفو وبين طلبنا للعفو منه؟

وهذه ما سيجده الباحث في طيات هذه الوريقات....

أولاً: العفو لغة واصطلاحاً. 

عفو: (الـعين والفاء والحرف المعتلّ أصلان يدلُّ أحدهما على تـركِ الشيء، والآخر على طَلَبِه. ثم يرجع إليه فروعٌ كثيرة لا تتفاوَتُ في المعنى. فالأوّل: العَفْو: عَفْو الله تعالى عن خَلْقه، وذلك تركُه إيّاهم فلا يعاقبُهم، فَضْلاً منه. 

قال الخليل: وكلُّ مَن استحقَّ عُقوبةً فتركْتَه فقد عفوتَ عنه. يقال: عفا عنه يعفُو عَفْواً. وهذا الذي قاله الخليل صحيح، وقد يكون أن يعفُوَ الإنسان عـن الشَّيء بمعنى الترك، ولا يكون ذلك عن استحقاق. ألا ترى أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام قال: "عفوت عنكم عن صَدَقة الخيل" فليس العفو هـاهنا عن استحقاق، ويكون معناه تركت أن أُوجِب عليكم الصّدقةَ في الخيل)(4).

والعَفُوُّ: هو فَعُول من العَفْو وهو التَّجاوزُ عن الـذَّنْب وتركُ العِقَاب عليه، وأصلُه المَحْوُ والطَّمْسُ وهو مـن أبْنيةِ المُبَالغة. يقال: عفا يَعْفُو عَفْواً فهو عافٍ وعَفُوٌّ، قيلَ: ومنه عَفا اللّهُ عنْكَ، أَي مَحـا مِن عَفَتِ الرِّياحُ الأَثَرَ، أَي دَرَسَتْه ومَحَتْ؛ ومنه الحديثُ: (سَلُوا اللهَ العَفْوَ والعـافِيَةَ والمُعافاةَ)، فالعَفوُ مَحْوُه الذنْبَ. والعَفْوُ أَيْضاً: الامِّحاءُ. يقالُ: عَفَا الأَثَرُ أَي امَّحَى، يتعدَّى ولا يتَعَدَّى)(5). 

وقـال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219]

قـال ابن عاشور: وَالْعَفْوُ: مَصْدَرُ عَفَا يَعْفُو إِذَا زَادَ وَنَمَى قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} [الْأَعْرَاف: 95]، وَهُوَ هُنَا: مَا زَادَ عَلَى حَاجَةِ الْمَرْءِ مِنَ الْمَالِ. أَيْ: فَضَلَ بَعْدَ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ بِمُعْتَادِ أَمْثَالِهِ(6).

وعليه فالعفو يكون بمعنى: الزيادة والنماء على الأصل.

وقـال البيهقي: (الْعَفُوِّ: إِنَّهُ الْوَاضِعُ عَنْ عِبَادِهِ تَبِعَاتِ خَطَايَاهُمْ وَآثَامِهِمْ فَلَا يَسْتَوْفِيهَا مِنْهُمْ وَذَلِكَ إِذَا تَـابُوا وَاسْتَغْفَرُوا أَوْ تَرَكُوا لِوَجْهِهِ أَعْظَمَ مَا فَعَلُوا لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ مَا فَعَلُوا بِمَا تَرَكُوا أَوْ بِشَفَاعَةِ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ أَوْ يَجْعَلُ ذَلِكَ كَرَامَةً لِذِي حُرْمَةٍ لَهُمْ بِهِ وَجَزَاءً لَهُ بِعَمَلِهِ.

قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: الْعَفُوُّ وَزْنُهُ فَعُولٌ مِنَ الْعَفْوِ وَهُوَ بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ وَالْعَفْوُ الصَّفْحُ عَنِ الذَّنْبِ وَقِيلَ: إِنَّ الْعَفْوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ إِذَا دَرَسَتْهُ فَكَأَنَّ الْعَـافِيَ عَنِ الذَّنْبِ يَمْحُوهُ بِصَفْحِهِ عَنْهُ وَمِنْهَا «الْغَافِرُ» قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3].

قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ عَلَى الْمُذْنِبِ وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِهِ فَيُشَهِّرُهُ وَيَفْضَحُهُ)(7).

ثانياً: مرتبة العفو

لا يمكن معرفة مرتبة "العفو" في الكتاب والسنة إلا بعد معرفة المراتب الاحدى والأربعين التي تحته وهي مرتبة من الأدنـى إلى الأعلى وكالآتي: (1-المغفرة،

2-التـكفير، 3-الدفع،4-الدرء، 5- الصقل، 6-الجلاء، 7-المحو، 8-الإذهاب ،

9-القصّـُ، 10-الطمس، 11-الإذابة، 12-13الانفكاك، والانـتقاض، 14- المباعدة،

15-النـفي، 16-الإلغاء، 17-الغسل، 18- التـطهير، والتزكية، 19- التَّنْقِيَةُ،

20-الإخلاص، 21-الخروج،22-الإنسلال، 23-الرجـوع،24- الانصـراف،

25-الإطـفاء، 26-الهدم، 27-الحط، 28-النـزول، 29-التحادر، 30-التناثر،

31-التساقط،32-الوقوع، 33-الخـرير، 34-التحات، 35-النفض، 36-التفرق،

37-الانتفال، 38-الغروب، 39- الارتحال،40-التمحيص، 41-التجاوز ثم 

42-العفو).

ولا يكتمل هذا المفهوم ويتضح إلا بعد معرفة أربعة مصطلحات أخرى أعلى منه وهي: 

(43-العكف، 44-التـوبة، 45-الجب، 46-الإبدال)، وهو ما فصلته في كتابي " التدافع بين الحسنات والسيئات"(8).

ثالثاً: الفرق بين العفو والمغفرة والغفران.

أقول: العفو أعلى من المغفرة ومن غيرها من المصطلحات المذكورة آنفاً؛ لان العفو يكون من دون طلب فَيَمُنُّ اللهُ بـالعفوِ على من يشاء برحمته وفـضله لمن شاء من عباده؛ 

قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّـذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25].

والفرق بين الـعفو والمغفرة: (قد فرق بينهما بأن العفو: ترك العقاب على الذنب، والمغفرة: تغطية الذنب بإيجاب المثوبة. ولـذلك كثرت المغفرة من صفات الله تعالى دون صفات العباد، فلا يقال: استغفر السلطان كما يقال: استغفر الله.

وقيل: العفو: إسقاط العذاب. والمغفرة: أن يستر عليه بعد ذلك جرمه صوناً له عن عذاب الخزي والفضيحة، فإن الخلاص من عذاب النار إنما يُطلب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة. فالعفو: إسقاط العذاب الجسماني. والمغفرة: إسقاط العذاب الروحاني، والتجاوز يعمهما.

وقـال الغزالي: في العفوّ مبالغة ليست في الغفور، فإن الغفران ينبئ عن الستر، والعفو ينبئ عن المحو، وهو أبلغ من الستر، لان السـتر للشيء قـد يحصل مع إبقاء أصله، بخلاف المحو فإنه إزالته جملة ورأساً)(9).

الفرق بين العفو والغفران: (إن الغفران يقتـضي إسـقاط العقاب وإسقاط العقاب: هو إيجاب الثواب فلا يستحق الغفران إلا المؤمن المستحق للثواب، ولهذا لا يستعمل إلا في الله، فيقال: غـفر الله لك، ولا يقال: غفر زيد لك إلا شاذا قليلا، والشاهد على شذوذه أنه لا يتصـرف في صفات العبد كما يتصرف في صفات الله تعالى، ألا ترى أنه يقال: استغفرت الله تعالى، ولا يقال استغفرت زيدا، والعـفو يقـتضي إسـقاط اللوم والذم ولا يقتضي إيجاب الثواب، ولهذا يستعمل في العبد، فيقال: عـفا زيد عن عمرو وإذا عفا عنه لم يجب عليه إثابته إلا أن العفو والغفران لما تقارب معنياهما تداخلا واستعملا في صفات الله جل اسمه على وجه واحد فيقال عفا الله عنه وغفر له بمعنى واحد وما تعدى بـه اللفظان يدل على ما قلنا وذلك أنك تقول عـفا عنه فيقتـضي ذلك إزالة شيء عنه وتقول غفر له فيقتضي ذلك أثبات شيء له)(10). 

ويتحصل من كل مـا سبق أن العفو بمفهومه اللغوي والاصطلاحي هو: (تركُه الله لعباده فلا يعاقبُهم، فَضْلاً منه، وهذا الفضل زيادة في الكرم من الله على عباده).

وهنا نجد أنفسنا أمام سؤالٍ جديد قد يشكل على البعض مفاده إذا كان الله تعالى يمن بالعفو على عباده بلا طلب فلماذا وجهنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ندعو به في هذه الليلة المباركة.

والاجابة على ذلـك: أننا نطلب من الله أن يدخلنا مع زمرة المعفوِّ عنهم في هذه الليلة؛ فـالعفوُ منه فضلاً وإحساناً وتكرماً، فنحن نطلب من الله جل جلاله أن يجعلنا من هؤلاء؛ لان العفو حاصل لعباد مخصوصين، ولكن من سيشمل بهذا العفو؟ فنطلب من الله أن نكون من هؤلاء المصطفين.

ونتوسل بـالله في ذلك أنه من صفاته جلال شأنه أنه يحب الذين يعفون عن غيرهم من المخلوقين فنجعل هذا الحب سلمنا لتوسلنا به أن يجعلنا من المعفوِ عنهم في هذه الليلة المباركة وهذا جواب للسؤال الاخير.

ويـترتب على ذلك مفهوم مهم لابد من استصحابه في هذه الليلة ألا وهو: العفو عن إساءة الخلق لنا لنكون محلاً لحب الله تعالى وهذا الحب يؤهلنا لنكون أهلاً لعفو الله عنا.

ولا سيما ونحن نعلمُ أن سبب رفع تحديد هذه الليلة تلاحي – أي تخاصم-رجلان من المسلمين؛ فعـن عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: «إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِـلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ»(11).

فاللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا 

وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على سيّدنا مُحمّدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.

 

(1) سنن الترمذي: ج5/ص534، رقم: (3513) وقال: قال هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ومسند أحمد ط الرسالة (42/ 236) (25384)، وسنن النسائي الكبرى ج4/ص407، رقم: (7712). 

(2) سنن ابن ماجه (2/ 1265) (3850)، والمستدرك على الصحيحين: ج1/ص712، رقم: (1942)، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. 

وينبغي التنبيه إلى الفرق بين العلم والموافقة لهذه الليلة؛ فالموافقة تحصلُ لكل أحد أقام هذه الليلة، ولكن العلم بها أعلى قدرا وأرفع مقاماً من موافقتها، وأمارات العلم بالشيء بحر واسع لا ساحل له عرفه العلماء والصالحون مسترشدين بالنصوص من الكتاب والسنة النبوية المطهرة.

(3) مسند أحمد ط الرسالة (42/ 236)، ينظر كلام المحقق في هذا الموضع، وكذا ينسب لنسخة في الترمذي، وقد روى هذا اللفظ " عفو كريم" في حـادثة أخرى بإسناد ضعيف في أبي يعلى والطبراني وغيرهما عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: جَاءَ شَابٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلمفَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أُصِيبُ بِهِ خَيْرًا؟ قَالَ لَهُ: «ادْنُهُ»، فَدَنَا حَتَّى كَادَتْ رُكْبَتُهُ تَمَسُّ رُكْبَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ: " قُلِ: اللَّهُمَّ اعْفُ عَنِّي فَإِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، وَأَنْتَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ ". مسند أبي يعلى الموصلي (2/ 300) (1023)، والمعجم الأوسط (7/ 367) (7746).

(4) مقاييس اللغة: 4/ص56.

(5) ينظر تاج العروس: (39 / 68)، والنهاية في غريب الأثر: (3 / 524).

(6) التحرير والتنوير (2/ 351).

(7) الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 149).

(8) طبع الطبعة الأولى بمطابع أنوار دجلة/ بغداد، سنة 2011م، بتقديم الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل. وهو الأن بمطابع مصر المحروسة بطبعة ثانية مزيدة ومنقحة.

(9) الفروق: (1 / 363).

(10) الفروق: ج1/ص378.

(11) صحيح البخاري (1/ 19) (49).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين