فضيلة الشيخ وصفي المسدي إلى الرفيق الأعلى

فضيلة الشيخ وصفي إلى الرفيق الأعلى

 

 بقلم تلميذه الوفي : حسام الدين السباعي

 
العالم الرباني معلم الأجيال:
رحمك الله أيها العالم الرباني , رحمك الله يأمُر بي الأجيال جيلا بعد جيل , رحمك الله يا أستاذ ومعلم الناس الخير , رحمك الله يا أبا أحمد رحمةً واسعة تليق بسعة فضل الله وكرمه , فقد نزلت بضيافة الله التي كنت تصفها وتعظِّمها وتجلها للناس في خطبك ودروسك ومجالسك , فندر أن عرفت حمص وسوريا والحجاز شيخاً متفائلاً متفانيا بمحبة الله وحسن ضيافته وكرمه مثلك , فكانت هذه الصفة ، هي الصفة الغالبة التي ألبسك الله تعالى إياها وتجسَّدت في أخلاقك , وما أجمل قصة المفـلفـل التي كنت تذكرها، ثم قصة البدوي الناقـر لصلاته , وقصة الأعرابي الطائف حول الكعبة , كل ذلك كان مثالاً لما في أعماقك من يقين وحسن ظن بربك , فحاشى لله عز وجل أن يخيب حسن ظنك بربك وقد صرت في ضيافته.
جامعة علمية شاملة:
 نحن اليوم إذ نعزِّي أنفسنا وعـلماء حمص وعـلماء سورية وعـلماء الأمة , نعزيهم بفقد أمة وليس بفقد رجل , نعزِّيهم بفقد جامعة ، نعم جامعة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، جامعة علوم وحكم ومعارف ، حوت الكنوز الكبيرة واللآلـئ الثمينة التي فاضت على هذه الأمة قرابة قرن من الزمان , فقد كان سيدي ومولاي الشيخ وصفي المسدي رحمه الله جامعة متكاملة حقيقة , فيها كل الأقسام والعلوم والمعارف , من علوم القرآن  والتفسير , والحديث والأصـول , والسيرة والتراجم ,  والفرائض والفقه وأصوله , واللغة والأدب ، والنَّحو والصرف والبلاغة , ولم تقتصر هذه الجامعة على العلوم الشرعية بل تجاوزت أقسامها وفروعها لتشمل العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والعلوم الإدارية , وفيها صناعة القادة وعلم فن الخطابة , وفيها الطب النفسي وعلم الفراسة , كل ذلك كان مجتمعاً في هذه الجامعة المتكاملة , حظي من درس فيها  على أنواع متنوعة من العلوم والمعارف مالا يمكن تحصيله بأرقى جامعة من جامعات العالم.
شخصيته المتميزة ومجالسه العامرة:
شخصية الشيخ وصفي رحمه الله شخصية متميَّزة جداً ، وذلك لما حباه الله عزوجل من علم وَهْبي ، ولما كساه الله من تاج التُّقى والصفاء والنقاء والوقار ، ولما كان من نظر الصالحين من هذه الأمة عليه ، وقد ظهرت رعاية الله له منذ طفولته إلى لحظة وفاته .
نضارته وجماله:
 فكنتَ إذا أردت أن تنظر إلى وجه يذكِّرك حاله بالله عزوجل ، فلتنظر إلى وجه الشيخ وصفي الذي كان مفعماً بالنضارة والإيمان والبهاء والنور .
تفاؤله واستبشاره:
 وإذا أردت أن تجلس مع إنسان منادمة يذهب عنك هموم الحياة منذ لحظة لقائه الأولى ، فكان عليك أن تجالس الشيخ وصفي .
عطفه وحنانه:
 وإذا أردت أن ترى إنسانا يحبه قلبك منذ رؤيته للمرة الأولى ، صغيراً كنت أو كبيراً ، عالماً أو وزيراً ، غنياً أو فقيراً ، يشعرك باهتمامه وحنانه وعطفه وسعة صدره ، ويبعث النور من إشعاعات قلبه الكبير لتصبَّ في قلبك وجوارحك ، فكان عليك أن تجلس في مجلسه العامر.
تواضعه وبساطته:
وإذا أردتَ أن ترى قمَّة التواضع وذوبان الأنا والبساطة مع الأناقة ، فلتغص في أعماق قلب الشيخ وصفي لترى ماذا حوى هذا القلب الرقيق من تواضع يندر وبساطة دون تكلُّف ، ونكران للذات ، وذوبان للشخصية والكيان ، يتمثَّل في القرب الدائم ،  والخضوع والتوسُّل والانكسار إلى الله عز وجل  بأن يتقبل الله منه أعماله.
خدمته للناس:
وأما خدمته للناس ، عرف منهم ومن لم يعرف ، فشيئ والله لا تطيقه الجبال الراسيات ،   ولوطلب من أحدنا عشر معشار ما طلب من الشيخ وصفي من خدمة للناس وسعي وراء حوائجهم حتى تنتهي وتنقضي دون كلل أوملل ، وحل لمشكلاتهم ، حيث كانت تهون في ذلك عليه فيها نفسه ، لأغلق باب بيته وغيَّر رقم هاتفه من الساعات الأولى.
كرمه وعطاؤه:
وإذا حدثتكم عن كرمه وعطائه ، فقد كان عطاء من لا يخشى الفقر ، وكان يعطي ويبذل بذلاً لا يستطيعه كثير من الناس ، بَذْل قلبيّ قبل أن يكون حسياً ، ويفهم هذا المعنى أرباب القلوب والأحاسيس  ، بَذْلٌ يحمل الحب والانكسار والتواضع لله عزَّ وجل ، وكان يحب إدخال السرور على القلوب المنكسرة، ويسعى بكلِّ ما يستطيع لجبرْ كسرها.
علمه وحكمته:
ماذا أحدِّثكم أيها الناس ، فالوقت والقرطاس والقلم ، لا تتَّسع لذكر صفات أمة تجسَّدت في شخصية الشيخ وصفي رحمه الله ، فقد كان كلامه الفصل عندما تشكل المسائل الفقهية المستعصية على طلاب العلم ، وكانت حكمته تتَّسع لكثير من حكمة العقلاء والفقهاء والحكماء ، ففي سعة نظره ورشده شي مستمد من حكم النبوة .
محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
وأما محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفنائه في هذا الحب فهي منقطعة النظير ، وكم وكم من السنوات الطويلة التي أكرمني الله تعالى فيها بخدمته وصحبته الخاصَّة إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، حيث قضيت معه الليالي والأيام ورأيت من هذه المحبه العَجَب العُجَاب.
في خدمة الإسلام:
ماذا أقول عنك يا سيدي ويا معلمي ويا والدي يا أبا أحمد، يا صاحب الفضل العظيم ، ماذا أقول  في مقام مثل هذا المقام ، فأنت العالم الربَّاني الذي أفنيت عمرك كله في خدمة هذا الدين ، صلَّيت بالعلماء إماماً في بيت المقدس، وتحدَّث عنك أكابر العلماء الكبار في حمص ودمشق وحماة وحلب .
عقيد العلماء:
 وكنت عقيد العلماء كما وصفك شيخك الشيخ أبو السعود عبد السلام حيث كان يقول" الشيخ أبو أحمد عقيدنا "، لما كان لك من الأثر الكبير في حلِّ المعضلات من المسائل والأمور الهامة.
كل ذلك ما زادك الله فيه إلا تواضعاً وانكساراً ، وكنت تقول لي دائما بحديث نبوي أنه "من قبلت له حسنه دخل الجنه" ، وكنت تكرر هذا الحديث دائما ، فحاشى لله أن يرد أعمالك التي شهدت بها الأمة كلها ، حاشى له أن يردَّ شهادة أربعين ، فكيف بشهادة أمة بأكملها.
لقد كنتَ الحبَّ والعطاء ، والعلم والكرم ، والشجاعة والحكمة ، ورجل المواقف المشهودة ، فأنت مَنْ حَبَاك الله بهذه الصفات التي يشهدها كل الناس ، ولكن من غاص في أعماق وبحار شخصيتك وأكرم بصحبتك وخدمتك ، فإنه قد رأى أموراً لا يراها الواقف على شاطئ البحر ، وإنما يراها من غاص في أعماق هذا البحر فرأى من عجائبه المدهشة التي يعجز البيان عن وصفها.
عندما نفقدك اليوم فإننا نعزِّي أنفسنا بأننا أصبحنا يتامى ، ولكن عزاؤنا الوحيد هوأمل  اللقاء معك على حوض النبيِّ صلى الله عليه وسلم إن شاء الله ، فهذا الفراق مؤقت، نسأل الله أن يجعلنا عليه من الصابرين المحتسبين ، ونسأله عزَّ وجل بما قدَّمت لهذه الأمة أن يكرمك غاية الإكرام الذي يليق بجنابه وفَضْله وكرمه , والحمد لله رب العالمين.
 ولدك المحب / حسام السباعي
جـدة  15 / رمضان / 1431  الموافق   25 / آب / 2010 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين