من تلبيس إبليس على أهل العلم

من تلبيس إبليس على العلماء والشيوخ والأساتذة وطلبة العلم، أن يشغلهم بمعارك خلت من سالف الأيام، خاض فيها أبناء الدهر، وإن أثمرت فكرا وعلما في زمانها، فليس لها اليوم أي أثر، منشغلون بذلك عن معارك وواجبات العصر. فبعد أن استقرت العلوم وقعدت القواعد، وأصلت الأصول والمقاصد، فمن العبث محاولة إعادة ما بناه الأولون، ولاسيما وقد ترسخ لدى الأمة بالقبول، ولاحت جدارته عند أهل العقول، وظهرت فائدته عبر العصور، فمن مضيعة الوقت محاولة زحزحته، ومن العبث التوجه إلى خلخلته، لأنه ما استقر وتمكن، وثبت وتقرر، إلا بعد المحاورة والمجادلة، والمناظرة والممارسة.

وليس معنى هذا سد باب الاجتهاد، ولا هو من قبيل ما ترك الأولون للآخرين من آراء يبدى فيها ويعاد، وإنما ما لا ينتفع به سوى تكرار من قيل، ولا جدة فيه ولا جدوى فيه من بعد تدقيق وتحصيل، فالأولى بأولي النهى والأحلام، أن يصرفوا همتهم عنه، ويكونوا من أبناء الزمان، محصلين للعلم النافع، فإن العلم المأجور عنه، ما كان منتفعا به، وما سواه فأخشى أن يكون صاحبه مغبونا، ومن بعده مأزورا. قال الشافعي رحمه الله: "ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع." وقد صدق الشاعر في قوله:

وما من كاتبٍ إلّا سيفنى ... ويبقي الدهر ما كتبت يداه

فلا تكتب بكفّك غير شيء ... يسرّك في القيامة أن تراه

وإذا كان طلب العلم فريضة، فإن من الإحسان بالفريضة أن تصيب محلها، وأن تقع على الوجه الأحسن. فلا جرم أن لكل فريضة شرطا أو شروطا، بها تصير مقبولة، ومن شرط فريضة العلم، أن يُنتفع به، وهل يظن أولئك الذين يمتشقون حسام المجادلة والمنافحة عن القضايا المنصرمة قد أصابوا حقا، أو جلبوا منفعة لزمانهم ودينهم؟ أم أنهم فقط أحيوا مسائل من رفاتها وهي رميم، فانقطع بهم العلم عن إدراك مزية الأجر والثواب الدائمين. فقد روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ".

وروى ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثٌ تَتْبَعُ الْمُسْلِمَ بَعْدَ مَوْتِهِ: صَدَقَةٌ أَمْضَاهَا يَجْرِي لَهُ أَجْرُهَا وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، وَعِلْمٌ أَفْشَاهُ فَعُمِلَ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ "

قال النووي: "وَفِيهِ دَلِيلٌ لِصِحَّةِ أَصْلِ الْوَقْفِ وَعَظِيمِ ثَوَابِهِ وَبَيَانُ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَالْحَثُّ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ وَالتَّرْغِيبُ فِي تَوْرِيثِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّصْنِيفِ وَالْإِيضَاحِ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْعُلُومِ الْأَنْفَعَ فَالْأَنْفَعَ." (شرح النووي على مسلم) وقيد العلم بالمنتفع به، لأن غيره من العلوم غير المنتفع بها، لا يؤجر صاحبها، وقد تكون وبالا عليه يوم القيامة.

إخواني العلماء الأبرار، والأساتذة الأخيار، والطلبة الفضلاء الأطهار، علينا أن لا ننخرط في مشروع إبليس، القاعد على صراط العلم النافع، لا ندع له فرجة ليتسلل إلى محاربنا، فيصرفنا عن معاركنا، التي من زماننا، وهي محاربة الجهل والإلحاد، والفساد والاستبداد، إنه لا يرضى هو وقبيله، وحزبه وأعوانه أن يراكم على هدى من ربكم في الذود عن دينكم، والدفاع عن حياضكم، وبناء أمتكم، وإنما الذي يرضيه أن يراكم متخاصمين متناحرين متشانئين، قد استحوذت عليكم البغضاء، وهيمنت عليكم الشحناء. نعم يرضيه هذا حتى يجعل لأتباعه مسلكا أمينا من قوة حججكم الداحضة، ونصاعة براهينكم الكاشفة، وإصلاحاتكم السديدة.

وإنه ليعز علي أن أرى بعض الفضلاء، من أهل العلم قد تركوا رباطهم، ودخلوا جحر الضب، فلم يجدوا ما يتحفون به الناس سوى الانغماس في كشف زلات العلماء، وتتبع عثرات الفضلاء، وهذا لا ريب فيه من الوسواس الخناس ما لا يخفى على لبيب، ويدركه كل أريب، بحدسه الحاذق، وهل يُعرى أحد من النقص؟ وأين فضائل أولئك الذين ازدرى قدرهم، وحط من مكانتهم لاسيما إذا كانوا من كبراء العلماء، وفحول النجباء.

كما يعز علي أن أرى العالم يركن إلى الحكام الظلمة، ويوالي الفراعنة السفهاء، طمعا في أعطياتهم، وتملقا لهم في الحصول على فتاتهم، وما تبقى من موائدهم، والله تعالى يقول: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار"، وإن أفحش ركون وأسوأه ركون العلماء للفساق والظلمة، رضوا بالكتمان، وغفلوا عن واجبهم في البيان، والله عز وجل يقول: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ." [الْبَقَرَة: 159] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ" [آل عمرَان: 187].

هذه ومضات من البيان، وتحذير من تلبيس إبليس، من أن يوقع ورثة النبوة وحملة الشريعة وغيرهم، في أن ينخرطوا في مشروعه، متغافلين عن مشروعهم وواجبهم، حدثت بها نفسي، وأردت أن أنفع بها إخواني، والمعصوم من عصمه الله تعالى بفضله وجوده وكرمه.

والله الهادي إلى سواء السبيل

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين