ما ينبغي في ختام رمضان

ها هو رمضان يلوِّح بالرحيل، ولم يبق منه إلا القليل..

فيا شهرَ رمضانَ تَرفَّق، دموعُ المُحِبين تَدَفَّق، قلوبهم من ألم الفراق تُشقق، عسى وقفةٌ للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترقع من الصيام ما تخرَّق، عسى منقطعٌ عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسيرُ الأوزار يُطلَق، عسى من استوجب النار يُعتق.

لقد مرت أيام هذا الشهر ولياليه مسرعة، كحلمٍ جميل، وطيفٍ خفيف.. ولم يبق إلا هذه الأيام العشر، التي هي خاتمة الشهر، وفيها ليلة القدر، ليلة بعمر..

والأصل أن المؤمن كلما دخل في رمضان ازداد نشاطًا وهمة، فإن كسل في بداية الشهر، عوَّض ذلك مع مرور الأيام، فجبر تقصيره، وسد خلله، حتى يصل إلى أقصى علو همةٍ عند نهاية الشهر.. وإن كان حال كثير من المسلمين اليوم على خلاف هذا، فهم ينشطون في بداية الشهر، ثم يصيبهم الفتور والكسل بعد أيام منه..

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين الأُوَل بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر الأخيرة، جدَّ واجتهد، وشد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا الليل كله. كما "كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره".

وكان السلف رحمهم الله يرفعون الهمة إلى أعلى منتهاها في العشر الأخيرة من رمضان، فإنها خاتمة السباق، ونهاية المضمار.

ولذلك - أخي الحبيب - عليك أن تسارع وتسابق في الخيرات، وتجتهد في هذه العشر، يقول ابن الجوزي: (إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق.. فلا تكن الخيل أفطن منك)، وقال ابن تيمية: (العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات)!

والمطلوب منك أخي الحبيب في هذه الليالي العشر ثلاثة أشياء مهمة:

أولها: الاستغفار الكثير، فإن الله شرع لنا أن نختم طاعاتنا بالاستغفار، ففي آيات الحج، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة:199]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى من صلاته استغفر ثلاثًا، ووصف الله عباده القائمين المتهجدين بقوله: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات:17-18]، قال الحسن: مَدُّوا الصلاة إلى السَّحرَ، ثم جلسوا يستغفرون.

فكأن هذا إشارة للمسلم أن يجعل خاتمة أعماله الصالحة استغفارًا وتوبة، فهو وإن كان قد فرغ من عمل صالح، إلا أن هذا العمل يعتريه النقص والقصور، ولا يسد هذا القصور إلا الاستغفار.

ولهذا أثر عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: (الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقَّع فليفعل).

وعن ابن المنكدر قال: (الصيام جُنَّةٌ من النار ما لم يخرقها، والكلام السيئ يخرق هذه الجُنَّة، والاستغفار يرقع ما تخرَّقَ منها).

كما ورد عن الخليفة عمر بن عبد العزيز أنه كان يكتب لوُلَاتِه في ختام رمضان يوصيهم بالاستغفار، يقول: (قولوا كما قال أبوكم آدم: ﴿ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: ﴿ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، وقولوا كما قال موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ﴾ [القصص: 16]، وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: ﴿ لًا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]).

فسدِّدْ الخلل أخي الكريم بالاستغفار، ورقِّع ما تخرَّق من صيامك، وليكن استغفارك مقرونًا بالتوبة، والعزم الأكيد على عدم العودة إلى المعاصي بعد رمضان، فمثل هذا يُرجى له القبول، أما من كان مستغفرًا بلسانه، وقلبه على المعصية معقود، فيخشى أن يكون عمله عليه مردوداً.

وثاني الأشياء المطلوبة: سؤال الله العفو مع العفو عن الناس:

فقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللَّهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني".

والمؤمن يحب أن يتخلق بصفات الله، ومن أسمائه سبحانه (العفوّ) ومن صفاته (العفوْ) فهو يتجاوز عن سيئات عباده، ويمحو آثارها عنهم..

وهو أيضًا يحب العفو، يحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه.

وثالث المطلوب منك أخي في هذه الأيام العشر: بذل أقصى حدٍّ في الاجتهاد:

فأنت الآن - أيها الحبيب - تسابق الساعات، فرمضان على وشك الانتهاء، فابذل أقصى ما تستطيع، ولتمضِ هذه الأيام العشر في جد واجتهاد.. و"وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا" رواه البخاري.

وقد ذُكر عن بعض السلف أنه حين أتاه الموت وفي سياق السكرات، كان يقوم ويقعد - يعني يصلي - فقيل له: في مثل هذه الحال؟ - يريدون أن يريح نفسه - فقال: (إن الخيل إذا بلغت إلى رأس مجراها، أخرجت أقصى ما عندها، وأنا أسابق بأنفاسي..).

إن هذه الأيام تمر مَرَّ السحاب، وكل لحظة مرت لا تعود ولا تعوض؛ فسابق أخي الحبيب أجلك، وأدرك رضا الله بعملك، واشحذ همتك؛ فهذا أوان جِدّك.

لنرفع العزيمة، ولنجتهد على قدر الاستطاعة، فإننا لا ندري إذا عاد رمضان هل نكون في الوجود، ننافس أهل الركوع والسجود، أم قد انطبقت علينا اللُّحود، ومَزَّقنا البِلى والدود.

فاللهمَّ أَعِدْ علينا رمضانَ أعوامًا عديدة، وأزمنةً مديدة، واجعلنا فيه من الفائزين المقبولين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين