دعوى أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (2)

ومن لوازم هذا العمل الفاسدة أنه يفتح الباب للأغمار كي يصنفوا على نمطه فتضحى العلوم ملعبة، وقد سمعت بمصر دكتوراً في البلاغة على منهج القوم يزعم أنه يود لو تفرغ لتنقيح البلاغة فيصنف (قواعد البلاغة عند أهل السنة والجماعة) ثم يطلع علينا من يسود في مصطلح الحديث عند أهل السنة والجماعة، كما صنعوا في الأحكام فوضع لهم عادل العزازي كتاب (صحيح فقه السنة) ووضع بدوي (الوجيز في فقه السنة) وفسد الفقه بذلك عند من طالع هذه الكتب التي تقتل الملكة وتفتح الباب للعوام للاجتراء على الفتوى والترجيح وتخطئة أئمة الاجتهاد.!

وهذا المعنى الفاسد إنما نشأ من كتاب سيد سابق، وتطرق إلى الحديث بإقدام الألباني على تأليف صحيح السنن وضعيفها، في غفلة عظيمة منه عن مقصد أصحاب السنن الذين تعمدوا إدخال هذه الأحاديث الضعيفة لنكتة لا يتسع المجال لبسطها وغبيت على الألباني، لكن شرره استطار حتى طلع علينا عامي من لصوص العلم بكتاب (صحيح الموطأ وضعيفه) ولعله لو تخيل مالك وأصحاب السنن أن يأتي زمان يميز فيه بين صحيح وضعيف ما أودعوه كتبهم، لما صنفوها أصلا.!

ونظير هذا إقبال كثير من السلفيين على تحصيل القراءات عن الشيوخ بعد أن كانوا يزهدون في هذا الفن كزهدهم في أسانيد الحديث، فلما أقبلوا عليها ظهر منهم هذا العبث في محاولة منهجة العلوم على رسم ما يسمونه أهل السنة والجماعة. 

فظهر منهم ما وصفوه بالقراءات عند أهل السنة، ومن مظاهر هذا أنـهم يمتنعون عن اتباع منهج أهل الأداء في مسائل خلافية، فكان الشيوخ بالأزهر وغيره يلزمونـهم بذلك لأنه مما أُخذ بالتلقي والرواية، كما بلغنا عن الشيخ علي رحال السكندري رحمه الله أنه كان يلزمهم بالصدقلة، والتكبير في رواية البزي عن ابن كثير، وهذا حق لأن الواجب التزام رسم أهل الأداء، وإلا فاطلب الفن عند من تعتقدهم أهلَ سنة وجماعة إن لم تلتزم آداب أهل الفن.

وتراهم في الإجازات يستنكفون من كتابة ألقاب الشيوخ التي يوصف بـها أهل الإقراء والرواية، كالولي الصالح، والعارف بالله ونحو ذلك، حتى إن منهم من يركبه الحُمق فيدع الإقراء ويفوته الخير لتعنته وتشدده.

وأيضا فنفس فكرة تأليف الأصول عند طائفة سواء أسماهم أهل سنة أم غير ذلك، هي خطأ ظاهر لأنـها تعود على أصل وضع العلم بالإفساد وتُبطل فائدته، ولهذا قلنا إن هذه الكتب قتلت الملكة الأصولية عند السلفيين كما أن كتب بدوي والعزازي وسيد سابق قتلت الملكة الفقهية، ومن حصلت له ملكة هذه المعارف من فضلاء السلفيين فإنما أخذها من مطالعة كتب المذاهب وأصول الفن.

ووجه هذا أن الأصول إنما وضع لتكثير الرأي وتوليد النظر لتتسع مآخذ الاجتهاد في النوازل، فإذا حصرته في رأي طائفة فقد قتلت فائدته وقلبتها إلى ضد ما قصده الواضع من وضع الفن، ولهذا تجد الأصوليين يذكرون في كتبهم مذاهب عامة الفرق بل النحل، فيذكرون مذهب السوفسطائية والبراهمة والفلاسفة والحكماء والأطباء لأن المقصود تكثير النظر وتوليد الفكر.

فالعبرة عندهم بالقول لا بقائله، وهذا الذي يصنف الأصول عند من يسميهم أهل السنة والجماعة قد عاند الواضع وقتل فائدة الفن، وقد علم أن الشافعي إنما وضع الأصول ليعلّم غلاة أهل الرأي أصولَ الحديث ويعلم غلاة أهل الحديث أصولَ الرأي.

وأيضا فنفس فكرة أصول الفقه عند طائفة معينة لا موقع لها، لأنه لا يخلو أن يرجح ما قد رجحه بعض من هو على ضد طائفته ولا بد، فمن سبر الأصول وخبره أيقن أنه ما من قول في مسألة أصولية إلا وقد قال به أشعري أو معتزلي أو مذهب من مذاهب الفقهاء، فما الفائدة والحال هذه من دعوى أنه قول من يسميهم أهل السنة والجماعة وقد قاله غيرهم ممن هو خارج عنده عن هذا الاسم.!؟

ولهذا قال بعض العلماء وقد ناظر بعض الأشعرية في الأصول، فقيل له: ما صنعت في مناظرته؟ فقال: وما أصنع مع رجل إذا ألزمته قولا، قال هو قول للأشعري؟! يريد لأن الأشعري لا تخلو مسألة من مسائل الأصول أن يكون له فيها قول أو أكثر، كالإمام أحمد في الأحكام.

ثم الأصول من العلوم الآلية التي يتشارك فيها أهل النظر، ولا يستقيم حصره في طائفة معينة فضلا عن حصره في طائفة ليس لها منه سوى الترجيح، ويستبعد عنه من أسس الفن وشيد معاقده وميز فصوله كالأشعرية، وهذا كمن يصنف النحو عند أهل السنة فيُخرج منه الأخفش والفراء ونظرائهم من المعتزلة ممن تأسس الفن بـهم، وبمثل هذا تفسد المعارف ويتحكم بـها الدخلاء.

وقد علم أن الأصول باتفاق أهله وحذاق العارفين به مبني على العربية والكلام وتصور كليات الأحكام، فهذا الواضع لما أسماه أصول أهل السنة والجماعة، إن كان يذكر هذه المبادئ فما خرج عن رسم أهل الأصول، فقصر الأصول على من أسماهم بالسنة والجماعة لا طائل منه، لأن هذه المباحث يشترك فيها عامة أهل الأصول. 

وإن قصد إخراج هذه المباحث منه لتجديد الأصول وتـهذيبه من الكلام على أصل الشاطبي أن (كل مسألة لا تثمر فقها فهي عارية عن الأصول) فهذا أمر نسبي، فإن ما تراه أنت عاريا عن الأصول لعدم تمكنك من تخريج الفروع عليه، قد يراه غيرك ممن اقتدر على استنباط الفروع والنوازل عليه، من لب الأصول، فلا يكون جهلك في عدم التخريج عليه حاكما على علم من انتزع الفروع على وفقه، وبه تدرك غلط دعاوى تجديد الأصول على إطلاقها، وإنما المقبول منها تخريج نوازل العصر على الأصول فتتولد أمثلة معاصرة.

ولهذا تعقب العلماء كالشيخ بخيت والشيخ دراز وغيرهما دعوى الشاطبي وما ذكره عليها من الأصول التي يرى هو أنـها عارية عن الفن وقطع باطراحها منه، فتعقبوه بتخريج فروع ونوازل كثيرة على ما ادعاه من الأصول أنه عار عن توليد الأحكام.

على أن نفس قضية تجديد الأصول من مباحث الكلام واللغة التي يزعمون أنـها خارجة عن وضع الفن، قديمة، ومن زعم أن الشوكاني أول من انتدب لها فقد وهم، بل تقدمه إليها مثل العلامة الموزعي في كتاب (الاستعداد لرتبة الاجتهاد) فإنه قصد تـهذيب الأصول مما لا يفيد في الاستنباط، ومع هذا يرد عليه ما يرد على الشاطبي. 

بل كتاب (القواطع) من هذا النوع وإن لم يقصد مصنفه هذا المعنى، فإنه جار على مضمار أصول الفقهاء لأنه إنما قصد به نقض ما جمعه القاضي أبو زيد الدبوسي الحنفي في (تقويمه) فجاراه فيه، وهو كما يقول التاج والبدر: (أجل كتاب للشافعية نقلات وحجاجا) بل كتب الحنفية في الأصول كلها من هذا النمط فليس فيها في الجملة إلا أصول الفقه صرفا.

فلم يبق إلا أن يكون لمن أسماهم بالسنة والجماعة أصول مخترعة لا ترجع إلى ما تقدم، فليبرزها حتى نتكلم عليها، وهو لا يقدر على هذا لأن أساليب الاجتهاد قد استوعبت بعد زمان ابن جرير الطبري، فما ثمَّ غير الترجيح. 

وإن قصد أنه يختار أصولا اختارها من يعتقد فيهم أنـهم أهل سنة وجماعة وإن اشترك فيها معهم من ليس عنده من أهل السنة والجماعة، فهذا عين العبث كما قررناه لأنه يحجّر الواسع من فن الأصول ويبطل فائدته ويضيّق النظر ويحصر الرأي فيعجز فن الأصول عن الاجتهاد في النوازل، وهذا سر ما تجده عند هؤلاء من ضيق العطن في المسائل فليس عندهم فيها سوى القطع بالبدعة على أصل العدم، لعدم الأصل.!

والحاصل أن هذه التسمية يلزم منها إما الإقرار بأن الأشعرية والمعتزلة من أهل السنة، وهو لا يقوله كما هو معلوم، وإما ترك أصول الفقه بالكلية لأن الأشعرية والمعتزلة هم من قررها واستنبطها وانتزعها من فروع الأئمة وولّدها بالنظر، وهذا لا بد له منه ولا مفر عنه.

فإن قال: يلزم الأشعرية على هذا الإقرار بأن المعتزلة من أهل السنة وهم لا يقولونه، فيقال له: لا يلزمهم لأنـهم لا يرون الأصول منحصرة فيما تسميه أهل السنة والجماعة، ومن هنا قلنا لا مخرج لك إلا باطراح هذه التسمية.

وبقي عليه ما يسميه تنقية الأصول من الكلام الذي أدخله المتكلمون في الأصول، وهذا قد مر جوابه، على أن المنطق لم يكن في الأصول قبل زمان الغزالي فلا تجده في تواليف القاضيين وغيرهما، وما فيهما من الكلام فهو كما مر أمر نسبي وتعلقه بالأصول ظاهر عند من يدري الكلام والنظر، ومن قبيح التناقض أن من لا يدري صناعة علم الكلام يدعي أن ما في الأصول منه لا يثمر فقها، وهذا كلام من لم يتصور الكلام ومبادئه وهو فاسد لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره وهو لا يتصور مبادئه لأنه يحرّمه أصلا.!

وإن قيل: إن غاية ما في كتاب (الأصول عند أهل السنة) هو قواعد لبعض أهل الأصول يرى هو أنـها أرجح لثقته بمن يعتقدهم أهلَ سنة، فأي ضير في مطالعته؟ فيقال عندئذ إن للتأليف فوائد يقصدها من يصنف في أي فن ذكرها الحافظ أبو محمد بن حزم وغيره، وقد جمعها الناظم في قوله:

في سبعة حصروا مقاصد العُقلا ... من التآليف فاحفظها تنل أملا

أبدِعْ تمامَ بيانٍ لاختصاركَ في ... جمْعٍ ورتِّبْ وأصلِحْ يا أخي الخَللا

فهذا التأليف فيما يسمى أصول الفقه عند السنة والجماعة، لا فيه إبداع جديد، ولا تتميم ناقص، ولا بيان مشكل، ولا اختصار مطول، ولا جمع متفرق، ولا ترتيب متشتت، ولا إصلاح خلل، بل ليس فيه إلا تكرار واجترار ما سبق، فالاشتغال بغيره أنفع، فإن الاشتغال بـهذا مفوت فوائد منها: لغة القوم وذوقهم ودقة نظرهم وسعة اطلاعهم واتباع مسالكهم في النظر، فإن مطالعة كتبهم تكسب القوة في الأسلوب وتوليد النظر ورصانة العبارة وذوق العلماء، ومطالعة كتب مثل هؤلاء تبلد الحس وتورث ركاكة اللغة والمعنى وضيق العطن، فإذا كان ما في كتبهم هو عين ما في كتب العلماء فأي طائل من الاشتغال بـها عن كتب أهل الصناعة المحكمة، والأمر كما قال أبو عمرو بن العلاء: (ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال).

اللهم إلا إن كان في كتابه هذا نقل متسع وتكثير للأدلة وتسهيل لما عسر فهو معنى حسن يقصد لأجله بالمطالعة، لكنه عكر صفوه وأفسده بخلع هذا الاسم عليه، فأنا له ناصح: اجعل في رأسك عقلا وانبذ هذه التسمية التي تناقض مقصود الشارع من الائتلاف ونبذ الافتراق، وتضاد أصل وضع فن الأصول، وتجحد فضل من وضعه وأسسه، وسمِّ الكتابَ بما شئت غير مسمى (السنة والجماعة) الذي يصد الناس عن الانتفاع بكتابك. 

وقد عُلم أن لكل أحد ممن تـهيأ للتأليف ممن استكمل أدوات الفن أن يحشد قول من يرتضيه من العلماء ويثق بعلمه ولا إشكال في هذا، لكن النزاع والإشكال منحصر في التسمية والحال ما شرحناه، وفي فكرة حصر العلم الذي الأصل فيه توسيع الرأي في قول طائفة، إن كان الكتاب لا يخرج عن رسم أهل الفن في الجملة، وبالله الثقة.

الحلقة الأولى هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين