رمضان في قريتي

كأن قاهرا يقهرني أن أبث إلى إخواننا العرب حديثا عن شهر رمضان في قريتي ببلاد الهند قبل خمسين سنة تقريبا، إنها قرية مسلمة متدينة، فيها مساجد ومدارس، وعاداتها وتقاليدها إسلامية، تحافظ على سنتها وثقافتها، تشم منها رائحة الدين ساطعة زكية، ليس في بيوتها أثر من وسائل الترف الحديثة، ولا القنوات التلفزيونية والشبكات العنكبوتية، أهلها جيران يتعارفون ويتواصلون ويتقاربون، ويتقاسمون الأفراح والمآتم، يشتغل كثير منهم بالعمل والتجارة في المدن الكبيرة، ولكنهم يسعون أن يقضوا شهر رمضان في القرية، يسوؤهم أن تكدر الغربة أو الوحشة بهجة هذا الشهر وسعادته، ولرمضان في القرى بل في عامة الهند جلال وأبهة، وجمال وبهاء، وشذى روحاني سماوي جارف قوي، لا هيِّن خفيف.

أيام رمضان! وما أيام رمضان! أيام عيد للأغنياء والفقراء، والصغار والكبار، والرجال والنساء، نستقبله برؤية هلاله، ومن الرجال والنساء من يصعد إلى سطوح المنازل، وكان أسعدنا من يصعد إلى سطح المسجد الجامع بجوار بيتي، لأنه أعلى موضع في القرية، يجتمع الناس ظاهره مساء التاسع والعشرين من شعبان يراقبون طلعة الزائر الكريم، مترصدين صفاء السماء عقب أفول الشمس، وكنت وأنا طفل صغير أشاركهم في التحري، سعداء بأن نبدأ جو رمضان العطر الطاهر برؤية الهلال، يخيل إلينا أن الرؤية مدخل يتغلغل رمضان منه في أحشائنا، ويتمكن من نفوسنا، وكنا نحن الصغار دائما نخطئ موضع الأفق الذي تتطلب فيه الرؤية، إذ يختلف حسب اختلاف الفصول، فيمسك الكبار برؤوسنا يصرفونها إلى النقطة بالذات في المغرب، ورؤية الهلال لذة يحرص كل واحد منا أن يستبد بها دون أن يتخلى عنها لغيره.

فإذا رأيتُ الهلال بعيني غمرتني فرحة عجيبة تشبه الفرحة التي تدخل قلبي بعد رجوع أبي أو أمي بعد غياب إلى المنزل، أو تقارب الفرحة التي أحس بها أهل يثرب لما استقبلوا فيها من غير مجرى الحياة فيها وافتتح لها تاريخًا جديدا، وكنت أسرع إلى أمي أخبرها برؤيتي للهلال متباهيا بها وكأني قافل من انتصار في معركة، ويتحول البيت كله إلى مدرسة دينية، تحف بنا نفحات إيمانية، وتغشانا أجواء قرآنية.

وكان إحياء رمضان في القرية بمشاعر ورسوم خاصة تجعل من أيامه ولياليه زمنا متميزا بارزا، يتلون رونقه باختلاف الفصول، والذي أتذكره جيدا هو صوم أيام الصيف، كنا نستمع بالشهر، والعبء ثقيل على أمي وسائر النساء، إعداد السحور، وطبخ أنواع الأطعمة في الفطور، وتنظيف الأواني والصحون، راضيات بما قدر لهن، لا يرفعن أصواتا أمام الرجال، ولا يشكون من إرهاق أو عناء، شاكرات صابرات.

تبدأ صلاة التراويح، وكأنها حفلة من الحفلات، فالذين يتهاونون في صلاة الجماعة في سائر أيام السنة يحرصون عليها في رمضان، ومواظبتهم على صلاة العشاء والتراويح أشد، ويتم ختم القرآن في جامعنا في الخامس عشر من الشهر، يقرأ القارئ كل ليلة جزئين، وبعد الخامس عشر يجتمع مهرة الحفاظ فيختمون ختمة في كل ليلتين نسهر من العشاء إلى السحور، وفيها امتحان للحفاظ الجدد يرجى منهم أن يكملوا نصيبهم من القراءة لا يتعثرون بنسيان ولا يكبو لهم لسان، وإذا رأى الرجال كرامة الأولاد الحفاظ على الناس تمنى كل واحد منهم أن يكون ولده فارسًا مبرزا في تلك الحلبة المباركة، ومن ثم كثر الحفاظ في قريتي كثرة لم أسمع بمثلها.

وكنا نحن الأولاد ممن يدرس في المدرسة السليمانية الواقعة أمام الجامع نضطجع على فرشنا قليلا وهمومنا ساهرة وعزائمنا راكبة، نستيقظ مبكرين جدا، فنحمل مصباحا، إذ لم يكن في القرى كهرباء، ونمر في أزقة القرية، ننشد أبياتا بالأردية تتضمن تنبيه الناس للسحور، ومدائح للنبي صلى الله عليه وسلم، ومناقب الخلفاء الراشدين، ونعوتا لعامة الصحابة، وكان لأمي دفتر قديم من أيام طفولتها دوَّنت فيه منظومات شعرية، فكنت أقرأ منها وسائر الأطفال يرددون خلفي، وفيهم من في صوته جمال وحنين، تعلو أصواتنا كلما مررنا بباب من الأبواب، وكان المرور بأزقة القرية كلها يستغرق ساعة أو أكثر، وعلينا المعول في إيقاظ النساء لتهيئة طعام السحور، وكذلك إيقاظ الرجال، وكانت أناشيدنا وقت السحور ترتفع بالقرية كلها إلى سماء العبادة وفضاء البركة، وأهل القرية كلهم يعظموننا وينوهون بشأننا.

كانت النساء يستيقظن قبل الرجال، يشتغلن بالطبخ وإكمال التحضير والتقديم، وفي السحور أنواع من المآكل، وفيها أكلة خاصة تسمى السحور، وكنا نرى أن الصوم لا يتم إلا بها، وهي تشبه الحريرة، تعد من أنواع من المكسرات، ورغائف مدهونة بالزيت أو السمن تسمى "براتا"، ممتعين بجمال النجوم الزاهرة ومتروحين بالنسيم العليل المسترق من طباع الرياض النضرة، ننتهي من السحور قبل طلوع الفجر بخمس دقائق، يقرؤوننا نية الصوم بالعربية "بصوم غد نويت من شهر رمضان"، ثم نتوضأ ونخرج للصلاة في الجامع.

ويخرج الرجال بعد الفجر إلى أشغالهم في المزارع والحقول حتى ينتهوا منها قبل أن تضاربهم حرارة الشمس، ويأخذ النساء قسطا من الراحة إلى الضحى، وكانت ذوات الأعذار منهن يستبقين فضلات من الطعام في جملة ما يترك للأولاد دون سن الصيام، ويحرصن أن يأكلن في غرفات مغلقة مظلمة مختفيات عن أنظار الرجال والأولاد، وكن يخجلن أن يسألهن الأولاد ما لهن يأكلن في نهار رمضان، وكانت النساء رغم إجهادهن ووطأة الأشغال عليهن يكثرن من قراءة القرآن في رمضان، تختم أمي عادة ست ختمات أو سبعًا، وكنت أشعر بأنوار قدسية تغشى وجوه النساء أكثر من الرجال.

وكانت صلاة الظهر تؤخر إلى قرب المثلين، ثم تشتغل النساء بإعداد الفطور، وتدب الحباة إلى الكوانين ويصعد دخانها، ويعلو أزيز المراجل تغلى على النار، والطعام يطهى على الخشب، وتنتشي القرية كلها من بعد العصر إلى وقت المغرب بروائح شهية هنيئة، ويكتسي الجو نكهة تملأ الخياشيم تخديرا، وكانت الثلوج تباع قرب الجامع فنشتري قطعا منها، يستبرد بها الأشربة، وعلى رأسها "روح افزا" وكأنه شراب الصائمين، يهون ما بالنفس من صدى، يبل منها غلة، ويعطيها قوة.

وكانت الأمهات يرسلننا بأشياء من الطبيخ موضوعة على الصحون مغطاة نوزعها على الجيران، ونهديها إلى المسجد، وللإفطار لذَّة في القلوب، أطيب من المدام الخندريس، وأحلى من معاطاة الكؤوس، نجلس مع الكبار حول المائدة، ممتلئا شعورنا بالسكينة ونحن مقبلون على طعام مستطرف وفير يغري بالجائعين أيما إغراء، ساعين للمكارم والمعالي ومتطلعين للجنان العوالي، وداعين ربنا جل وعلا القضاء بأحوال تقر بها العيون وتشرف بها النفوس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين