نحو منهجية راشدة في الحوار

من أبرز ما تعانيه أمتنا اليوم قضية الاختلاف الذي ينتهي إلى الفرقة والعَداء، وكل ذلك من منطلق الإسلام، فطغى الوجهُ السلبي للاختلاف على واقع المسلمين بدلًا من أن يكون سبيلًا للتنوع ومصدرًا للائتلاف والتكامل والتنافس المعرفي والحركي؛ فإن الاختلاف مشروع من حيث الأصل لأنه يؤدي إلى التوسعة على الأمة في شؤون الحياة، ولو حُمِلت الأمة على رأي واحد لَلحِق بها الحرج والشدة.

إن إدراكَ المفاهيم ومعرفة الأحكام مما تتفاوت فيه العقول البشرية، وهو أمر طبيعي، ورفعه متعذر، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود 118/119] فالاختلاف بين الناس أمر ضروري لا مناصَ منه، وإنَّما المذموم بغي بعضهم على بعض، يقول الشاطبي رحمه الله: (إن الله حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالًا للظنون، وقد ثبت عند النُّظَّار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف لكن في الفروع دون الأصول وفي الجزئيات دون الكليات)([1]).

تكلم أهل العلم نظريًّا عن قواعد الائتلاف وإدارة الاختلاف وفق مفهوم الأمة الواحدة والأخوة الإيمانية العامة، لكن هل تلاقت الممارسات مع التنظير؟ الحقيقة أن أكبر التحديات التي تواجه هذه القضية هو كيفية ترشيد الاختلاف، وذلك بنشر ثقافة رشيدة تقوم على قواعد منهجية وآداب علمية وضوابط أخلاقية.

جعل الله سبحانه وتعالى الاختلاف سنةً من سنن هذه الحياة الدنيا ومن طبيعة أهلها، ومع أن الاختلاف سنة ربانية إلا أن الناس يضيقون به ذرعًا، ويتساءلون: إلى متى سيظل هذا الخلاف بين العلماء؟! وإلى متى سيستمر هذا الاختلاف بين المسلمين، فلماذا لا يتفقون؟!

والجواب أن الخلاف باقٍ إلى يوم القيامة؛ فقد وقع الاختلاف بين الصحابة وبين العلماء في المسائل الفقهية والعلمية التي لم يكن فيها نص قاطع في الشريعة، فإذا وقع هذا في خير الأمة فكيف بغيرهم!([2]) ولكن الله وضع للمؤمنين قاعدة تأسيسية محكمة بقوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات 10]؛ لهذا لا بد أن يكون الاختلاف وسيلة للتواصل والتكامل والأخوة والائتلاف لا سبيلًا للهمز واللمز والاعتساف.

الإيمان وتوحيد الكلمة:

إن أهم أساسين في البناء الحضاري الإسلامي هما: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة؛ ففي كلمة التوحيد تتوجه النفوس نحو خالقها ليهيئ لها برنامج حياتها، وفي توحيد الكلمة يتسق التكامل الديني والدنيوي والتآزر العلمي والعملي وإنشاء مؤسسات النهضة والتعبئة الثقافية العامة لإحراز النصر في المجالات المختلفة([3]).

وقد جمع القرآن الأمرين في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102-103].

إن كل ما في الإسلام والتجارب السابقة يدلان بوضوح على أننا نحتاج إلى شرطين أساسيين ليتحقق لنا الاحترام والاعتبار بين الأمم؛ أولهما: تفعيل تفاعل القوة المعنوية من خلال التمسك بالعقيدة والأخلاق والقيم السامية، وتفعيل قواعد القوة المادية وهي القوة العلمية والقوة الاقتصادية والقوة العسكرية.

والآخَر: تفعيل الأمة الواحدة، وهذه الوَحدة لا تتحقق دون حقوق وواجبات وجهود وتضحيات([4])، وإن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى إلى النصيحة والشفقة وإن تباعدت الأجناس والأماكن([5]).

قواعد الاختلاف:

ثمة سؤالٌ يطرح نفسه دائمًا: لماذا تزداد دول العالم اجتماعًا بينما تزداد هذه الأمة تفرقًا؟ والجواب أنَّ السببَ في ذلك غيابُ ضوابطِ الاختلاف وقواعدِه التي أسَّسها الإسلام للمجتمع المسلم، ومن أهمها:

– تحريم غيبة المسلم أو احتقاره وخذلانه أيًّا كان انتماؤه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن خاصمَ في باطلٍ وهو يعلَمُ لم يزَلْ في سخَطِ اللهِ حتَّى ينزِعَ، ومَن قال في مؤمنٍ ما ليس فيهِ حُبِسَ في ردغةِ الخبالِ حتَّى يأتيَ بالمخرَجِ مِمَّا قالَ)) ([6]).

– العمل على الإصلاح بين المسلمين إذ هو من أعظم الأعمال الصالحة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)) ([7]).

– عند وجود توجهات مختلفة في مسألة محتملة تتفاوت فيها المدارك وتتجاذبها الأدلة فإن لزوم الجماعة حقيقة قاطعة تقدم على ما قد يثيره الاختلاف الطبيعي بين المسلمين.

– الاختلاف سُنَّة كونية وآية من آيات الله في أصل المخلوقات والرزق والتفكير والسلوك والخلق والآراء والأفهام، (فلو شاء سبحانه لخلق العقول البشرية على إلهام متحد لا تعدوه كما خلق إدراك الحيوانات العُجمِ على نظام لا تتخطاه)([8]).

– تعدد الصواب في الاختلاف المحمود قاعدة من قواعد الإسلام، وهذا النوع من الخلاف يُقعِّد لنا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدتَه مصرِّحًا بصواب الفعلين حينما اختلف ابن مسعود وآخر في القراءة فقال لهما: ((كلاكما محسن، لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا))([9]) ويدخل في قاعدة تعدد الصواب حديث الصلاة في بني قريظة، قال ابن كثير: (وقد اختلف العلماء في المصيب يومئذ من هو، بل الإجماع على أن كلًّا من الفريقين مأجور ومعذور)([10]).

إنَّ تعدد الصواب يجعل الاختلاف تكاملًا، فلماذا تحل محلَّه الجفوة بين التيارات المختلفة وكلُّ أعمالها تكاملية، ولِمَ يكيد بعضهم لبعضٍ؟

ويمكن القول: إن اختلاف وسائل العمل الإسلامي يدخل في اختلاف التنوع، فمن المسلمين من ينهض للجهاد، ومنهم من ينهض لإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهم من ينهض لنفع الناس وقضاء حوائجهم، ومنهم من ينهض لإحياء منارات العلوم، وكل ذلك خير وبركة.

ولعل من أبرز أعراض تحوُّل الاختلاف الإيجابي إلى تنازع ينذر بإخفاقٍ حضاري وحياتي عام هو الجدلُ المؤدي إلى المراءِ والتعصب والهوى وادعاء الحقيقة المطلقة والقطيعة والتدابر والتباعد والتهاجر، ولو أنه كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لن يبقى بين المسلمين آصِرة ولا أخوة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم))([11]).

إن القبولَ بظاهرة التعددية في الرأي خصوصًا في قضايا السياسة الشرعية، وتربيةَ الناس على عدم تقديسِ آراء الرجال وتقديمِها على قواعد الشرع: منهجيةٌ إسلامية راشدة، وإن التمرُّنَ على الموضوعية في النقد لَيجعل المسلم متزنًا يناقش القول لا القائل؛ فلا يميل إلى الانتقام الشخصي ولا إلى تحقير الآخر وتسفيهه.

المسلمون جسد واحد:

بيَّن الله أن المشركين يواجهون المسلمين كتلةً واحدة وملةً واحدة، فعلى أهل الإيمان أن يواجهوهم صفًّا واحدًا بولاءٍ واحد؛ فالوحدة بين المسلمين فريضة شرعية من أهم الفرائض، وضرورة عقلية وواقعية، لكن لا بد لتحقيقها من تحقيق قاعدة الأخوة الإيمانية، وهي ليست محضَ شعارٍ يرفع أو خطبة تقال بل لا بد أن تكون واقعًا مجسَّدًا تترتب عليه الآثار الآتية “جسد واحد ويد واحدة، والتواضع بل خفض الجناح المتبادل”؛ لهذا لم يشأ رب العالمين أَنْ يصف وحدة المسلمين أجمعين بالصفوف بل وصفهم بالصف الواحد فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].

إن مردَّ معظم المشكلات التي نشهدها اليوم إلى عدم الاعتراف بالآخَر عند الاختلاف، وإن هذا لَيُؤَدِّي بنا إلى التنابذ والافتراق ثم القتال والشقاق بينما كان ينبغي أن يعترف بعضنا ببعض من خلال الإيمان بالتعددية المشروعة.

لقد كانت حضارتنا الإسلامية في أوج ازدهارها ساحة رحبة للتعدد الفكري، استوعبت الاختلاف الفقهي والمدارس المتنوعة دون حرج؛ فعلينا أن نقبل ما نشهده اليوم في مجال التعددية السياسية والفكرية في ظل الثوابت، وأن نُقِرَّ الاجتهادات المخالفة في المتغيرات، ويشمل نطاق المتغيرات ما هو خارج عن الأصول والثوابت القطعية، وأكثره يظهر في المعاملات الاقتصادية والمالية والقضايا السياسية والطبية أو العلاقات الدولية ونحوها، ولما كانت الثوابت محل اتفاق بين المسلمين فإن اختلافهم إذا كان نابعًا من الاجتهاد المنضبط فهو اختلافهم تنوع لا اختلاف تضاد، وقد أشار الشاطبي -رحمه الله- إلى أن الاختلاف الذي يؤدي إلى الفرقة والتباغض مردودٌ في الإسلام؛ إذ التباغض الناشئ عنه دالٌ على كون الاختلافِ نابعًا عن هوى لا عن طلبِ الحق([12]).

وكما أن المسلمين في عصرٍ واحدٍ أمةٌ واحدة فإنهم جميعًا منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عصرنا أمة واحدة، ولا يمكن تفريقها بتقسيمها إلى متقدمين ومتأخرين أو سلف وخلف؛ فإن مردَّ خيرية السلف القرب من ينبوع النبوة وتربية الرسول صلى الله عليه وسلم والصفاء والنقاء، والسلف ليس مذهبًا معينًا ولا حَكْرًا على فئة معينة، فأَوْلى الناس بالسلف هم أهل المذاهب والآراء المعتمدة في ضوء الكتاب والسنة([13]).

من الخلاف إلى التفاهم:

نتحدث جميعًا عن أخلاقيات الاختلاف، ونحاول وضع نظريات جميلة نظريًّا، لكنْ قليلٌ منا هم الذين يستطيعون أن يطبقوا هذه النظريات ليحولوها إلى واقع في سلوكهم العملي وفي علاقاتهم مع الآخرين حينما يختلفون معهم، وكأننا نلتمس من الآخرين أن يلتزموا بأخلاقيات الخلاف حينما يختلفون معنا، لكنَّنا لا نلتمس من أنفسنا الالتزام بهذه الأخلاقيات حينما نختلف معهم؛ فنحن بحاجة إلى تدريس أدب الاختلاف في مدارسنا وجامعاتنا وجوامعنا مع تدريب الناس على ممارسته عمليًّا ليتحول إلى عادة وعبادة في الوقت ذاته([14]).

في عصرِنا عصر الانفتاح تحطمت الحواجز والحدود، وأصبحت الكرة الأرضية قرية صغيرة في عالَمِ الفضاء والإنترنت، فلا ينفع أسلوب المنع والحظر والتشويش الذي رأيناه في عصر الأنظمة الاستبدادية، ولم يعد مجديًا تسفيه الآخرين بل لا بد من الاستماع إليهم ومقارعة الفكر بالفكر، وقد كشفت منتديات الحوار على الشبكة العنكبوتية خللًا كبيرًا في آلية الحوار، وتجاهلَ كثيرين لدائرة المتفق عليه بين المسلمين، فنشاهد في الحوار الإلكتروني مستوى خطيرًا من انتهاك نظام الاحترام الإسلامي وكأن كلَّ طرفٍ يقول: إن لم تكن معي فأنت ضدي؛ فتتحول ساحات النقاش تلك إلى مسرح فضائح واتهامات وافتراءات، وقد تتحول إلى نوع من السب والشتم بدلا من المجادلة بالتي هي أحسن، فكأن القوة في بعض كتاباتنا أو خطبنا وبرامجنا الإعلامية هي الصراخ والإقصاء واحتكار الحق على طريقة فرعون حينما قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ} [غافر: 9]، فيدور الشخص حول رأيه ووجهة نظره وكأنه يقول: رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب.

إن النقاش البيزنطي العقيم بين المسلمين يجعل الآخرين يقولون: اتفقوا أولًا على الدين الذي تقدمونه لنا ثم تعالَوْا لدعوتنا، وحلوا مشكلاتكم قبل أن تفكروا بحل مشكلات العالم، يقول سلمان العودة: سمعت مرة من يتكلم بمسألة قصارى ما يقال فيها أَنَّها اجتهادية، فسمعته يقول: “أنا لا أتكلم من قبل نفسي، أنا لا أقول برأيي، وإنما هذا منهج الله وهذا حكم الله”. سبحان الله! وهل الآخرون يأخذون من التوراة والإنجيل؟!([15]) يقول ابن القيم -رحمه الله- في مثل هذه المسائل: لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده ولم يظفر فيه بنصٍّ عن الله ورسوله: إن الله حرَّم كذا وأوجب كذا، وإن هذا حكم الله([16]).

والعجيب أن كثيرًا من الناس قد يتَّقُون أكل الحرام ومشاهدة الصور الخليعة لكن يصعب عليهم كف الألسن عن الاستطالة في الأعراض، فتجد الواحد منهم يَفري أعراض الأحياء والأموات فريًا، فلماذا لا ننطلق من قاعدةِ الشيخ رشيد رضا الشهيرة قاعدةِ المنار التي دعا إليها الشيخ حسن البنا في رسائله: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه” وكأني ببعضهم اليوم يقول: نتدابرُ فيما اتفقنا عليه، ويهشم بعضنا رأس بعض فيما اختلفنا فيه!

إنَّ الأمة الإسلامية اليوم هي أحوج ما تكون إلى البحث عن المشتركات فيما بينها -وهي كثيرة جدًّا- لمواجهة التحديات، فما أحوجنا اليوم إلى التوحد والتعاون وتوزيع الأدوار وقبول بعضنا بعضًا، والاجتماع على ما يجمعنا من الثوابت والمواقف السياسية وعدم إثارة الاختلافات.

لا بد لأمتنا أن تجتمع على مشروع استراتيجي واضح المعالم والخطوط من خلال علمائها وحكامها لمواجهة تحديات المشروعات الغازية، لكنَّ الحرية شرطٌ؛ فهي المكان الذي تزهر فيه الأفكار الصحيحة، فأمتنا بأمس الحاجة إليها، وإذا كنَّا جميعًا مُقرِّين بأن أوضاعنا بحاجةٍ إلى تصحيح فإنَّ أصل خطوات التصحيح هو النقد العلمي الحر الهادف البناء لا نقد التشفي وكشف عورات الآخرين، أما الاستبداد فلم يكن يومًا ليوحِّدَ الناس على مشروع استراتيجي؛ فإن العقلية الفردية المتوترة المتوجسة الناشئة في جو الاستبداد يصعب أن تمارس النقد البناء.

وليس أسوأ ولا أكثر جناية على الحقيقة من الخصومات والمحاكمات التي لا تدع للموضوعية والتعقل موضعًا، وتحوِّل المتحاورين إلى متبارزين في حلبة مصارعة، فيجعل الفرد نفسه فوق الآخرين، وينقدهم من برجه العالي، ويصم الآخرين بالبلادة.

علينا أن نفرق بين اختلاف مجتهدين مبنيٍّ على حجة صحيحة ونظر صحيحٍ وتجردٍ من الهوى واختلاف ناجم عن غرضٍ شخصي أو شهرة أو عصبية أو نحوها، فالأول محمود والثاني مذموم، ثم إنه ما ينبغي أن تنساق الظنون والأوهام في رصد المنتمين لجماعة أو حركة وتفسير تصرفات كلٍّ منهم سلبيًّا لمجرد انتمائهم إلى اتجاه فكري أو حركي معين.

إن الحوار وسيلة صحيحة للوصول إلى حقيقة المختلفِ فيه، لكنَّ الحوار المعلن كثيرًا ما يحمل على العنادِ وعدم تأمل كلام المخالف إلا للرد لا لمعرفة موافقته للصواب أو معارضته له؛ فكثير من الحوارات المعلنة لا تنتهي بقبول أحد الطرفين للقول الآخر، بل ربما تنتهي إلى الجفاء والقطيعة والملاكمة والمضاربة بالكراسي كما في الاتجاه المعاكس وبرامج عدة مشابهة؛ فلتكن الحوارات بين الأقران سرًّا إلا إذا كانت ثَمَّة مصلحة ظاهرة.

وفي الختام أقول: لا ينتصر هذا الدين إلا بالجماعة، ولا تقوى الجماعة إلا بالوحدة، ولا تتحقق الوحدة إلا بوعي أفراد الجماعة، ولا وعي للأفراد إلا بالتربية؛ التربية التي تعمق في نفوس أفراد الجماعة ضرورة الحفاظ على وحدة الأمة، وإن النصوص المؤكدة على وجوب الاجتماع والمحافظة على الجماعة كثيرة، فالمحافظة عليها فريضة لا يجوز الإخلال بها لترك مستحب أو واجب فردي، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].

([1]) الشاطبي: الاعتصام 2/674، تح: سليم الهلالي، دار عفان 1992م.

([2]) سليمان العودة: فقه الاختلاف ((ولا يزالون مختلفين))، ص 12.

([3]) عبد السلام مقبل المجيدي: فقه الاختلاف صراط الأخوة، ص 8-9.

([4]) علي محيي الدين القره داغي: نحن والآخر دراسة فقهية تأصيلية، ص 16.

([5]) تفسير النسفي، 4/67.

([6]) أبو داود 3/305، ابن ماجه، 2/1120، مسند أحمد، 2/82.

([7]) أبو داود 4/280، والترمذي 4/663، وقال: هذا حديث صحيح.

([8]) ابن عاشور: التحرير والتنوير 11/349.

([9]) صحيح البخاري، 2/849.

([10]) ابن كثير: البداية والنهاية 4/118، الشاطبي: الموافقات 3/145.

([11]) صحيح مسلم، 4/2166.

([12]) الموافقات، 2/576.

([13]) نحن والآخر، ص 42.

([14]) فقه الاختلاف، ص39.

([15]) المصدر السابق، ص53.

([16]) ابن القيم: إعلام الموقعين 1/44

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين