قاضي عسكر قاعدة ثورة الحلبيين ضد المحتل الفرنسي(3):

شيخ المجاهدين (عبد القادر منصور الحجار) (1892)-(1941)مـ

قصة الهروب من السجن:

ثوار حلب ضد الفرنسيين، لم يتخرجوا من مدرسة أو جامعة، وإنما هم ثوار بالفطرة، عقلاء حكماء، لم يفكروا ساعة إلا بحريتهم وطرد المحتل الغاشم، وحماية الأرض والعرض، لم يتاجروا بثورتهم، ولم يتخلوا عن شرفهم ومبادئهم، ولم يتاثروا بضغوط خارجية، ولا داخلية.

دخول شيخ المجاهدين السجن، قد أشعل فتيل الثورة في كيانه! غريب ظالم يحتل بلده، فيصبح منزوع الكرامة، فاقدَ الحرية على أرضه!..يا غارة الله جدي!

لكن كيف يثور وهو مكبَّل؟!

ففكر بحيلة حبيكة، وخطط لها بفنية وحكمة-حكتها لي جدتي الحلبية وغيرها من رفاقه – وكانت الحيلة- يومئذ- السفين لحمل أداتها، ولسوف تعجبون وتدهشون حين تعرفون تفاصيلها.

ودارت الأيام- وهي محفوظة في الذاكرة- حتى بلغت سن اليفاع، ولم أتخرج من الشعبانية بعدُ، عُيِّنت إماما وخطيبا بالوكالة في جامع (البكرجي) بحي جب القبة، وفي ليلة من الليالي، وبعد صلاة المغرب، جلست اقرأ القرآن على المصطبة الصيفية وحدي، ولم يكن بجانبي إلا رجل واحد فقط،- وكان أعمى- فنادى: " أساذ ! أنت إمامنا الجديد؟"

فقلت: "نعم".

فقال: "ما اسمك؟"

قلت : "عبد القادر منصور".

قال: فأين تسكن؟ ومن أبوك؟...

فشرحت له. وبادلته السؤال عن اسمه؟.

فقال: "أنا علاء زعتري".- فهو جد ( د. علاء زعتري)-

فلما عرف عائلتي، انتابه فضول بالتحدث معي، وتحركت فيه مشاعر غريبة، أعادته إلى حقبة صباه. فابتدرني بسؤال، فقال:

" هل تعرف كيف هرب جدك من سجن الفرنسيين؟".

قلت: نعم. حكتها لي جدتي وبعض علية القوم:

" فما وراء سؤالك؟"

قال: هل عرفت كيف هرب؟"

قلت: " أجل. وأعرف الآلة التي استعملها؟"

قال: "هل تعرف من صنع آلة الهروب؟"

قلت :"كلا..."

قال : " أنا.... وكنت - يومئذ- نجارًا، ويا غافل! لك الله".

قلت: " هلا شرحت لي؟"

قال:"لقد أعدتني بالذاكرة إلى ميعة الشباب، لقد كان جدك قوي الشخصية، والناس يهابونه ويخشونه....فجاءتني- يوما- جدتك الحلبية،(جميلة)، وقالت لي: " إن أبا أحمد- يعني:جدك- يقول لك: (اصنع له صندوقا خشبيا، شكله كشكل المسموح بإدخاله السجن، وضع فيه إزميلين حجٰاريين، بين خشبتين، ثم أطبق عليهما والصقهما بالغِراء، ثم اجعلهما أحد أركان الصندوق حين تصنعه".

فسألتها: "من أجل ماذا؟"

قالت: " حتى أضع فيه أشياءه اللازمة له في السجن".

-قلت: " ألم تسألها من أجل ماذا؟ "

قال: " سألتها فقالت : لا أعلم"

حقًا هي لا تدري : ما وراء الأكمة؟ وهل كان أحد يقدر على طرح هكذا سؤال؟

فقلت:" فما كان ظنك به؟"

فقال: "وأنا كذلك كنت مثل جدتك، فكلانا متعجبان، وما علينا إلاّ كتمان السر. ولم يمر يومان أو أكثر حتى صنعته، وسلمته لجدتك، وأنا في حيرة من أمري، ماذا سيفعل جدك بهذا الصندوق المحشوِّ بإزميلين حجارين...؟!!"

جهزت الصندوق جدتي، حتى إذا جاء موعد زيارة السجن لجدي، كانت أشياءه المطلوبة في الصندوق، فحملته إليه، فلما بلغتِ السجن، فتش الحرس الصندوق فلم يشكُّوا بشئ. وصار بين يديه بكل هدوء.

إلى هنا انتهت مهمة الزعتري .

فماذا كان بعدُ؟

الصندوق السري:

وما صنعه علاء زعتري النجار، وهو لا يعلم بما سيفعله شيخ المجاهدين، يصبح - الآن -بين يديه، ظاهره صندوق، تحفظ فيه الأشياء، وباطنه سلاح فتاك، فوضعه شيخ المجاهدين، في الخزانة الجدارية، وكما هو معروف في البيوت الحلبية، فالجدار (كلين) بمعنى: أنه سميك جدًا، يتكون من لبنتين بينهما تراب .

فكان إذا نام النازلون في المهجع، دخل هو خزانته الجدارية، واستخرج الإزميلين من صندوقه، وشرع يحفر في الجدار بطريقة فنية، وعليه أن يستخرج اللبنة الأولى، ثم الثانية حتى يسهل خروجه.

وكم يوما أخذ الحفر؟ هذا ما لا أعلمه ، وكل ذلك بدون أن يستشعر أحد بما يصنع، حتى إذا بلغ النهاية، استخرج اللبنة الثانية، والحارس خلف الجدار لم يحس بشئ، ثم أعادها مكانها .

وطفق يفحص حركة الحارس، ويدرس محيطه بعلم ودراية، فتبين له : أنه يسير –دائما- من بداية الجدار إلى آخره .

وفي ليلة رقد فيها أكثر النازلين في مهجعه، ولم يبق يقظًا إلا رفاقه، قرر الهروب ، وقد أعد له العدة ، ونادى في رفاقه:

"يا شباب! من يصطحبني؟"

فخاف الجميع سوى رجل من بيت (البيّ)، فقال: "أنا سأهرب معك".

وكان الحارس يحرس فوق سطح، بمستوي فتحة الهروب، أو أقل بقليل .

وما إن مر الحارس من أمام الفتحة، حتى وثب شيخ المجاهدين عليه كالغضنفر، فانقض على فمه، فسده بكفه، فكممه، وكتفه، ثم نزع منه سلاحه، ورماه أرضا.

لكن صاحبه (ابن البي) انكسرت قدمه أثناء قفزه من الفتحة، فلم يقوَ على السير، فصار عبئًا ثقيلا عليه، فحمله جدي، وأمسى يتنقل من سطح منزل، إلى سطح آخر، حتى هبط على الأرض، ثم مشى في الأزقة، يحمل صاحبَه، منكسر الرجل ، وسلاح الحارس.

وفي تلك الأيام ، لا يخرج أحد من بيته ليلا، إلا في حالة الضرورة. حتى إذا اقترب من مخفر(باب الحديد)، أطلق نظره باتجاهه، فأبصر حارس باب المخفر يتوجس في حركات مسيره، وقد لقَّم سلاحه استعدادا لإطلاق النار عليه.

وكان جدي في جاهزية كاملة، فاستبقه، وأطلق النار عليه بغزارة، فتوارى حارس المخفر، وأغلق خلفه الباب ، ولم يخرج منه أحد ، ظنا منهم: أن مجموعة من الثوار تهاجمهم.

ولما تأكد جدي أنهم قد هلعت قلوبهم، وسكنوا خلف الأبواب، أسرع نحو الباب مطمئنًّا ، فخرج وقد خلَّفهم وراءه كالفئران.

فأين بات تلك الليلة؟ لا أعلم.

وهذا ما عرف رسميًّا، ودُوُّن بعد الهروب في الجريدة، وتناقلته ألسن الناس، داخلَ السجن وخارجَه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين