في بيتنا مسجد سنة مهجورة حضر وقتها

هناك سنن مهجورة، تركها الناس عمدا أو نسيانا أو جهلا، والعمل على إحياء هذه السنن له عظيم الأجر والفضل، روى ابن ماجه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي، فَعَمِلَ بِهَا النَّاسُ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً، فَعُمِلَ بِهَا، كَانَ عَلَيْهِ أَوْزَارُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهَا شَيْئًا[1]».

ومن السنن المهجورة: (اتخاذ المساجد في الدور والبيوت) يقول ابن رجب: مساجد البيوت، هي أماكن الصلاة منها، وقد كان من عادة السلف أن يتخذوا في بيوتهم أماكن معدة للصلاة فيها[2].

السبب الداعي لإحياء هذه السنة:

لا شك أننا مأمورون بالعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والدعوة إليها، روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا[3]».

وعند هجران سنة من السنن نحن مأمورون بإحيائها، ويزداد الأمر إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وفي أيامنا هذه ازدادت الحاجة إلى هذه المساجد، ومن هذه الأسباب:

1. وجود الوباء الذي ضرب حياة الناس، وكم نحن بحاجة للجوء إلى الله تعالى.

2. بقاء الناس في بيوتهم كبيرهم وصغيرهم.

3. العمل على تهيئة جو للعبادة، وهذه التهيئة تزاد عند تخصيص مكان للعبادة.

4. ما يكون في رمضان من سنة الاعتكاف، وهذا يحتاج إلى تهيئة.

مشروعية اتخاذ المساجد:

وقد جاءت السنة بمشروعية اتخاذ البيوت في المساجد، روى أحمد عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِبُنْيَانِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ[4]. قال الشوكاني: وقال شارح المصابيح: يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن أن يبني الرجل في داره مسجدا يصلي فيه أهل بيته[5].

وروى البخاري عن عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصارِيَّ، ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ، فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَ: «أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: «أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟»، فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ المَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ[6]. قال الشوكاني: وفي حديث عتبان فوائد: منها: واتخاذ موضع معين للصلاة (أي في البيت)[7].

ورُوي في المسند عَنْ بِلَالٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَوَجَدَهُ يَتَسَحَّرُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهِ[8].

وهذا ليس خاصا بعتبان (لكونه أعمى) رضي الله عنه؛ بل هو للجميع، وقد فعل ذلك الصحابة منذ العهد المكي، روى البخاري أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: " لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طَرَفَيِ النَّهَارِ: بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ القُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ[9]".

وقد ذكر ابن رجب في (الفتح) عددا من الصحابة الذين فعلوا هذه السنة فقال: صلى البراء بن عازب في مسجد في داره في جماعة. وروى جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال، أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤذنه بالصلاة، فوجده يتسحر في مسجد بيته. وروى محمد بن سعد: ابنا قبيصة: ابنا سفيان: عن أبيه، قال: أول من اتخذ مسجدا في بيته يصلي فيه عمار بن ياسر. وبإسناد: عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: أول من بنى مسجدا يصلي فيه عمار بن ياسر[10].

مسجد البيت لا تسري عليه أحكام المساجد العامة:

وإذ علمنا جواز اتخاذ المساجد في البيوت وأنها من السنن المهجورة؛ فينبغي العلم بأن هذه المساجد لا تسري عليها أحكام المساجد العامة، قال ابن رجب: وهذه المساجد لا يثبت لها شيء من أحكام المساجد المسبلة، فلا يجب صيانتها عن نجاسة ولا جنابة ولا حيض. هذا مذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء[11].

مسجد البيت يصلح بأي مساحة:

وهذا المسجد يصلح بما تيسر من مكان، فإن كان المرء ممن وسع الله عليه فليخذ حجرة، وإن لم يكن لديه سعة فلتكن حجرة لا يكثر الدخول إليها، كغرفة استقبال الضيوف، وإلاّ جاز ذلك في أي مكان من البيت، حتى وإن كان المسجد موضعا لفردين أو لفرد واحد.

_____________________

[1] رواه ابن ماجه في المقدمة (209) وصححه الألباني في صخيخ ابن ماجه (173).

[2] فتح الباري لابن رجب (3/ 169).

[3] رواه مسلم في العلم (2674).

[4] رواه أحمد (26385) وقال محققو المسند: حديث صحيح وهذا إسناد ضعيف. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (279).

[5] نيل الأوطار (2/ 179).

[6] رواه البخاري في الأذان (840) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (33).

[7] نيل الأوطار (3/ 193).

[8] رواه أحمد (23901) وقال محققو المسند: إسناده ضعيف.

[9] رواه البخاري في الصلاة (476).

[10] فتح الباري لابن رجب (3/ 169).

[11] فتح الباري لابن رجب (3/ 170).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين