العدوان الثلاثي على الوعي في النقد وفقه النص والواقع (3)

فيما مضى كان يُلتمس العذر للمتشددين أو المتساهلين في الجرح والتعديل: بأن الأولين كانوا في حرج من أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وبأنَّ لدى الآخرين خشيةً ووجلًا من ردِّ كلامٍ يحتمل أنه من كلام الرسول احتمالًا ليس بواهٍ ولا يندرج في باب الكذب، فهذا الاحتياط هو مسوغ مبالغات كلا الفريقين في جرحِ راوٍ أو تعديله، وهي مبالغات متناقضة لا ينتهي عجب الناظرين فيها من غير المختصين، ولم يُسلِّم بغلوِّها النقاد والباحثون في سِير الرجال؛ فقد تقرَّر أنَّ "التوسع في تفخيم الألقاب وتضخيمها ليس من سيرة السلف المشهود لهم بالخيرية"(1)، وهذا ما حملهم على تقسيم علماء الجرح والتعديل إلى متساهلين ومتشددين ومعتدلين.

إننا وإن كنا نعذر فوارس هذا السَّاح بيد أنَّ هذا الاعتذار لم يكن ليحملنا على أن نغضَّ الطرف أو نغضي عن غلوٍّ مبالغ فيه على نحوٍ لا تستسيغه العقول أحيانًا، فهذا صوفيّ سمعته في مجلس يقول: إنَّ ابن تيمية من المفسدين في الأرض، وذا سلفي زرته مستنصرًا للثورة السورية المباركة، فوجدتُه في مجلس علم، وسرعان ما صكَّت كلماته أذني وهو يقول: الأشاعرة أكفر من اليهود والنصارى بل أكفر من البوذية بل أكفر المجوس، و"بعدما تكلم الشيخ تاج الدين السبكي بشيخه الإمام الذهبي ختم كلامه بقوله: (فهو مطبوع على قلبه)، فاستدرك الشيخ عبد الفتاح أبو غدة قائلًا: (لقد أسرف الشيخ تاج الدين في حق شيخه الإمام شمس الدين الذهبي لقباً ومعنىً، وبالغ حتى أفرط، ومال حتى قَسَط، ووقع في الشطط والغلط، وكيف ساغ له التعبير بهذه الكلمة الكبيرة، وإنها لكبيرة؟! وإذا كان الإمام شمس الدين الذهبي مطبوعا على قلبه -وحاشاه من ذلك- فمن الذي أعاذه الله من الطبع على قلبه؟ نسأل الله العدل في الرضا والغضب، والعافية من الإفراط والتفريط)(2).

وليس عن هذا ببعيد أنك ترى قومًا حملهم هوى المذهب والمشرب والطريقة على إغراق وعي العامة بفتاوى ضلَّ بها القومُ في غياهب التيه، فغالٍ يجعجع: كشف المرأة وجهَها مثل كشفها لفرجها، وزوج السافرة عن وجهها ديُّوث يرى القبيح على أهله ويسكت، ولاهثٌ يسخر ناعقًا: ستر المرأة وجهها عادةٌ جاهليةٌ والإسلامُ منها بريء!

واليوم كان يُتوقع لدى تقييم أيّ أمر وتقويمه أن يستبدل الباحثون والمثقفون والدعاة وقادة الجماعات عدالةَ النقد والتقييم والتقويم بأوهامِ المبالغات وإيغالِها وغلوِّها وإفراطِها وتفريطها، وكان الظنُّ الحسن بهم يشي بأنَّهم أمناءُ على الوعي؛ فالكلمة أمانة، بل إن كلا من صناعة الوعي وتقويمه أو تزييفه ومسخه منوط بالكلمة والقلم، لكن الواقع المشهود يبرهن على أنَّ وطأة الجينات المجتمعية الوراثية للمبالغات المتولدة من البيئة والمجتمع والعادات والمصالح وضغط الجماعات كانت أقوى من أن ينعتق غير قليلٍ منهم من ربقتها ويتحرر من أسرها، ناهيك عن أن يسعى العبيد في عتق أرقاء يرسفون في مثل أغلالهم، وأشدُّ أَضرب الرقِّ قمعًا لوعي المفكرين والروَّاد عبوديتُهم للرأي العام، ووجهةُ جماعتِهم وأهواءُ أتباعهم ورغبةُ شعبهم أو حزبهم، وسوطُ تيارِ العولمة السائقِ الحاملِ لهم على تبني قضايا لم يكونوا يرون فيها للحقِّ مُدَّخلًا فإذا بها الحقُّ عينه أو كلُّه وإذا بأقلامهم وعلومهم تسبِّح بحمدِ أعداءِ الحق والحقيقة ودعاة العماية والغواية؛ ومردُّ ذلك كلِّه إلى بغي الوَلَاءِ للجماعةِ وابتغاءِ مرضاةِ الشعوب والأتباعِ على أرومة العقل والفكر والوعي، فإذا بالقادة والرواد جزء من منظومة الانفعال بقوة الرأي الجماهيري دون أن يكون لهم تأثيرٌ أو تصور حرٌّ أو وجود فاعل، وبذلك تغدو الشورى والاستشارة تقليدًا لا معنى له ولا روح؛ لأن الضغط الضمني لقاعدة الجماعة على قمتها من شأنه أن يفسد قراراتها ويقتل وعيها الجمعي إن وجد؛ فظهر أن أكثر الناس ضررًا على الجماعة وقتلًا لوعيها الجمعي وعقلِها المبدِع هم أنصارها العميان أو الحمقى أو المنتفعون، وليحملنَّ القادة والرواد وزر تبعيتهم لتابعيهم يوم يسومهم أولئك الرَّعاع سوء الملامة والإدانة أَنْ دانوا لهم يومًا ولم ينعتقوا من ربقة مرضاتهم والسعي حثيثًا لكسب ودادهم وإِشباع نزواتهم وأهوائهم.

هذا؛ وزاد في طنبور العويل نغمةً تمويهٌ أو سطوٌ ومسخٌ للمصطلحات، فقد ألبسَت فئةٌ من المتحدِّثين المشهورين كلًّا من الغلو والمغالاة والإيغال في المداهنة والمجاملة والاستجداء والتزلُّف والخنوع والتصنُّع والكذب المقنَّع لباسَ المبالغة المحمودة والكياسة واللطافة والدماثة واللين المحبوب، بل إنَّ ضروبَ النقدِ البناء والنصحِ ولو في الخفاء وأعلى الأساليب المثالية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطهما والدعوةِ إلى الفضائل بالحكمة والموعظة الحسنة لا تكاد تخرج في تصنيف تلك الفئة عن واحدةٍ من ثلاثِ شُعَب، فهي عندها إمَّا:

أ_ فظاظة وغلظة وجفاء إنْ كانت موجَّهة إلى العامة.

ب_ وإمَّا سماتٌ خَوَارِجيَّةٌ تجعل الآمرَ الناهيَ خارجيًّا وكلمةَ الحقِّ خروجًا مسلَّحًا على الحاكم إن كان المخاطَب بذاك النصح أو النَّقدِ ملِكا أو مسؤولًا.

ج_ وإمَّا تخلُّف وإخلال باللياقة واللباقة أو شيءٌ من هذا القبيل إنْ كان المخاطَب ثريًّا أو وجيهًا.

هذا وعمدت فئاتٌ أخرى من المدرجين في قوائم المثقفين والدعاة إلى تقمص شدة الأعراب وغلاظ الأكباد، فأغرقت مصطلح الأنفة والعزة والاستغناء وبذل النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمياه آسنة من الجهالة العمياء المركبةِ من خليطِ مصطلحاتٍ متنافرة ليس لها جامع، أهمها البراء والجفاء والصراحة والمواجهة والصَّدْعُ بالحق وكشف الحقيقة والتكبر على المتكبرين وإعزاز الحقِّ والدِّين، وكفى بهذا عدوانًا يقترفه يَراعُ أربابِ الفكرِ ولسان المنبر والتعليم والإعلام يسومون به وعيَ جيلِ هذا القرنِ قرنِ الخلايا الصابئةِ الصادَّةِ عن سبيل الله والعقل والعلم.

ومن تشويه المبالغات للوعي ما صوَّره الغلاة حقًّا وحقيقة مقدَّسة، حملَتْهم على أن يستبدلوا بالمبالغة في حديثٍ له سياقٌ خاصّ وفي سنده خلافٌ غلوًا لا يصح في الأذهان شيء إن صح أنَّ الرسل أتت به، فالمبالغة الهادفة في حديثِ حاكم الضرورة لئلا تخلو الأرض من خليفة: "ثم ينشأ دعاة الضلال، فإن كان لله في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك، فأطعه، وإلا فمت وأنت عاض على جِذل شجرة"(3) استبدلوا بها فتاوى لغلاة الخنوع تقول: فإن كان للإلحاد في الأرض رئيسٌ سفكَ دمَك، واغتصبَ عرضك، وغصبَ مالك، وفعل بالملايينِ مثلِك أكثر من ذلك، فاسمع وأطع، ولا ينبسنَّ فمك ببنت شفة.

إنه كما ترى غلوٌ فعل فعلته في الوعي، فساوى رئيسًا ملحدًا مغتصبًا سفَّاحًا بالخليفة الذي يطيع الله ورسوله في رعيته لكنه يظلمهم أحيانًا، وسمَّى الكلمة طلقة، والخطبة قنبلةً، وجماهير الهُتاف جيشًا إرهابيًّا، وأغصان الزيتون أسلحة كيماوية، فهذا كله عند غلاة التأويل أنصار المستبدين السفاحين خروجٌ مسلَّحٌ على حاكمٍ حقِّ بغير حقٍّ.

إن الحاكم المسلم العادل خليفة لله في أرضه، لكنه قد يُخطِئ فيظلمك بجلد ظهر أو أخذ مالك، فاسمع وأطع، فذاك خيرٌ من خلو الأرض من خليفة قائمٍ لله في خلقه بحكمه ومقصده من خلق الخلق؛ فالغلو في تكييف النوازل وتنزيل النصوص عليها كما ترى قد أوقع على مدى عقودٍ مضتْ جيلًا برُمَّته في براثنِ ردِّ الفعل اليومَ، فمن غلوٍ إلى غلوٍ وهكذا دواليك، ومنشأُ ذلك الغلو كلِّه إحلال تأويل النص محلَّ النص رغم أنَّه تأويلٌ لا يحتمله اللسان ولا ينهض به البيان، ولا تصححه مناسبة النص ومقاصده ولا سياقه وسباقه، وتردُّه بداهة العقول وترفضه الجبلَّةُ والفطرة، وحسبك أن تتأمل كيف صوَّر هؤلاء الغلاة الشهيدَ -نصير المظلومين، الآمر للسلطان الظالم، الناهي عن ظلمه بالكلمة- منتحرًا! بل الأدهى الأمرّ قطْعُ قطيعٍ من أنصار هذا المؤول الغالي بأن ذلك التأويل الغالي الرخيص هو وحدَه المعنى المقصود بالنص، وإضفاؤهم عليه قداسةَ النصِّ وزيادة، ثم عدُّهم من أنكره منكرًا للنص، ويمضون في غلو تلك المبالغات ليجعلوا من المؤول رمزًا مقدَّسًا لا يحتمل كلامه أو تفسيره نقدًا، بينما تجد غلاة التأويل على الحافَّةِ الأخرى يوجبون مع نقض التأويل ونقده الإجهاز على ذاك المؤوِّل لا إجهاض فكره وفضح عوار تدليسه وغلوه في التأويل وكفى، فماذا أبقت حروب الغلاة هذه من وعي هذا الجيل!

وهذا الغلو فيه ما فيه من المصادرة على أي مطلوب يريده الرمز المقدَّس ناهيك عن سدِّه لبابِ الاجتهاد والتفكير وطلب الدليل، وثالثة الأثافي أن تتكشف دواهي الحوادث وحالك النوازل عن جوهر هذا الرمز المقدَّس في عين العامَّة فإذا به غَويٌّ مُبين وداعيةٌ على أبواب جهنم، وإذا هو خنجرٌ مسموم يَجَأُ عقول العامة، ويقتلهم حسرةً وجزعًا على ما ضاع من عقولهم وما فات من أعمارهم وأموالهم في مجالسه وخدمة مشاريعه ليستيقنوا أنَّ من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل فكيف بمن حسبهم الناس كذلك والأمر على خلاف ذلك.

ومن تشويه وعي العامَّة أن جماعات غلو المبالغات والمغالاة في الأشخاص والأعلام والرموز إطراءً أو طعنًا يسومون الوعي خسفًا ومسخًا يبلغ بهم أن يعدُّوا إغراق فردٍ في الغلو والمغالاة -ولو كان جاهلا أو مجهولًا- عربونَ محبته وولائه وصدق اتباعه لرمزهم المقدَّس المعصوم شخصًا كان أو حركةً أو فكرةً، أما مغالاة ذاك الفرد في الطعن بالمخالف للرمزِ المقدَّس تشنيعًا وتبديعًا وتضليلًا وتسفيهًا وتكفيرًا فيجعلونه عنوانَ جحدٍ وَخَلْعٍ وبراء، وبرهانَ زيادة إخلاص وإيمانٍ ويقينٍ يعلو بها ذاك المغالي على رتبة أعلى الأمة من غير المنتسبين لهذا الرمزِ ولو كان أفسق الأمة وأجهلها، ومن مخرجات هذا التشويه أنَّ الغلوَّ والمغالاة على هذا النحو يغدوان من أسهل المسارب والسراديب والمخاتل التي يخْتِلُ بها المنافقون والمرجفون والمخابرات، ويُدلِجون منها إلى تلك الجماعات والحركات والثورات؛ ليوقعوا بين أفرادها ويتحكموا فيها ويعتلوا قمة هرمها، ثم ينقضوا عليها فإذا هي كأمس الدابر، ويأتوا على بنيان وعيها الجمعيِّ المشوَّه مسخًا وسلخًا، ويستنسخوا صورًا صهيونيةً ماكرة يطبعون بها وعي تلك الجماعات المشوَّه، فإذا بتلك الجماعات جملةً وتفصيلا قد غدت أدواتٍ للمخابرات والغزاة والصهاينة من حيث لا تدري، ومنه نُدرِك كيف انحرف فريقُ التنسيق الأمنيّ مع المحتل الصهيوني عن هدفه -وهو التعاون الأمني لإقامة دولة فلسطين المستقلة في إطار حل الدَّولتين- حتى قضى على حلم الدولة عندما تحول إلى تنسيق جاسوسي يقتل المقاومة ويخدم المحتل الصهيوني وحدَه بأجرٍ سياسي ومادِّي معلوم، وهو ما مُنيتْ به بعض فصائل المصالحة في الثورة السورية.

وليس ببعيدٍ عن ضلالات تضليل الوعي أن ينبعث قومٌ من كهوفهم ليرسخوا في أذهان البُلهِ أن الشريعة ليست سوى بضعة حدود لا يقوم الإسلام إلا بها، فإذا بالوسائل والفروع والظنيَّات مقاصد وأصول وقطعيات، نعم "هذا الجانب جزء من الإسلام ولا ريب، لا يجوز إغفاله أو الإعراض عنه، لكن المبالغة في المطالبة به والحديث عنه واعتباره رأس الأمر وعموده وذروة سنامه كان لها آثار سيئة على التفكير الإسلامي والعمل الإسلامي، وآثار أخرى على أفكار الناس العاديين، فالقوانين وحدها لا تصنع المجتمعات ولا تبني الأمم، إنما تصنع المجتمعات والأمم التربية والثقافة، ثم تأتي القوانين سياجًا وحمايةً"(4).

إن أمثلة تضليل وعي العامَّة كثيرة يعسر حصرها، فأنت في غنى عن ذِكرها، وليس يخفى منها أمرُ فريق من العامَّة المتصدِّرين وقادتهم الجهلة الغلاة الذين ضيَّعوا المستضعفين وذراريهم بمغالطات أشبعوها مبالغةً وغلوًا ووهمًا؛ ليقنعوهم أنّ طيور أولئك المستضعفين مجتمعةً ستهزمُ أسراب الطائرات والدُّولَ العظمى التي تقاتلهم بوغدها السفَّاح وعيونه التي تحصي أنفاسهم، وأن حجارتها ستجعل من المغيراتِ عصفًا مأكولًا بلا صولات ولا جولات، وحسبهم السجِّيل والطير الأبابيل دليلًا على ما يؤملون أو يحلمون، فما إن يطلقوا أول رصاصة حتى يبدأ إعلامهم بتضليل وعي العامة بحديثه عن انتصارات وهمية يعقبها خراب البصرة، وكأن آيات الأمر بالإعداد والحذَر وشرط النصر بالنصر منسوخة! فكان ما كان وما أغنتْ عن المستضعفين تلك الدعاوى أو الأكاذيب ولا الألقاب العريضةُ من شيءٍ، وباتوا يرزحون في أغلالهم مكبَّلين في سجنِ وطنٍ كبيرٍ كأنَّ عليه أبابيلَ من الطير تَنْعَبُ، كما قال الأعشى الأعمى الذي لم يخطئه ذاك المشهد كما ترى، فقد ألقى السمع فإذا به شهيد على مآلاته، فترنم متحسِّرًا يحدوه الألم وحسرة الخسران والأماني.

نعم لقد ضرب الوعاظ والقصاص والشعراء والأدباء من الغلو في المبالغة وتضليل الوعيِ بسهمٍ حتى قيل: أعذب الشعر أكذبه أي أشده مبالغة، وحسبك الكناية عن أبلغ الشعر بالأكذب دلالةً على أن في المبالغة الغاليةِ ما فيها، وأسوأ ما فيها أنها قد تنسب إلى العبد صفة الألوهية، فمن نسب إلى فردٍ ما لا طاقة به للمئات أو الآلاف من البشر فقد نسب إلى مخلوق عاجز ما لا يقوم به إلا الخالق سبحانه كما يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورسيّ رحمه الله تعالى، وأمثلة ذلك ليست سرًّا لدى الشيعة وبعض مشايخ الطرق والهَتَّافين باسم الحكام المستبدين، ولعلَّ هذا الغلو هو سرُّ الهلاك الأخروي والعقليّ المشهود في رعاع القومِ حتى اليوم: "يَهلك فيَّ رجلان: مفرطٌ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ"(5)، وكأنَّه هو لغزُ خذلان الله لعامَّتهم ولعلمائهم الذين يعرفون الحق أكثر مما يعرفون أبناءَهم لكن الفريقين أبوا إلا صراط المغضوب عليهم والضالِّين: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله» فهذا رسول الله ينهى عن سلوك النصارى في شخصه فما الظنُّ بسيدنا علي وبالأولياء والمشايخ والمرجعيات الدينية؟! ولعله هو أيضًا تفسيرُ طرد الله للغلاة من أبواب التوفيق العقلي والهداية القلبية، وكأن هذا الطردَ استجابةٌ لازمة لطبيعة تجاهل الحقّ وإجابةٌ لدعاء العارف بحقيقة الغلو ومآلاته إذ دعا رضي الله عنه: "اللهم العن كل مبغض لنا، وكل محب لنا غال"(6).

ومن خفي غلو المبالغات خلط البشري بالمقدَّس، وهو ما ضلَّ به قوم في عزير وعيسى والأحبار والرهبان والأولياء والأشراف والأعراق والأنساب، وهذا أمر لا تكاد تخلو منه جماعةٌ أو تجمع أو مذهب أو مدرسة، دعك من الذين لا يؤمنون بهذا المقدَّس فإنما أحدثك عن المؤمنين به، فليس معنى ثبوت العصمة للأنبياء وحدهم أن تُعصم عاداتهم وبشريتهم عن حكم الطبائع، فإذا كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض نسائه بوحي معصوم لتعلق ذلك الزواج بأمر من أمور الدين كتحريم التبنِّي فمن غلو التقديس سحب ذلك الحكم على كل أزواجه أو على طلاقِه لإحداهنَّ أو همِّه بطلاق أخرى، إنه غلو التقديس الذي برئ منه عصر الصحابة كما تبرأ من غلو تعميم صفة البشرية إنكارًا للقدسية والعصمة، عن ابن عباس قال: "خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، وأمسكني، واجْعَلْ يومي لعائشة، ففعل، فنزلت هذه الآية: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] الآيةَ...، قال: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز"(7) وهذا ليس بسرٍّ في حدس عائشة لمَّا رأتْ جويريةَ بنت الحارث وقد جاءت تستعين رسول الله في كتابتها (وكانت امرأة حلوة مَلَّاحة، لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تستعينه في كتابتها، فوالله ما هو إلا أن وقفت على باب الحجرة فرأيتها، كرهتها، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرى منها مثل ما رأيت)(8) فهذا ليس من غيرة الضرائر فحسب بل هو مقتضى الطبائع "لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه"، وهذه أمُّ هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها لما خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذرت إليه، فعذرها (9)، ويشهد لرَشَاد وعيهم هذا بالفصل بين البشريِّ والمقدَّس آيتا سورة الأحزاب: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52] {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] فالحكم بمقتضى البشرية في الآية الأولى وبالقدسية والعصمة والوحي في الثانية من الجلاءِ بمكانٍ، أمَّا من سوى الرسل فأيّ ادعاءٍ لصفةٍ سوى البشريةِ فيهم فهو غلو في مبالغات الولاء والمحبة من شأنه أن يمسخَ الوعي والفطرة ويستبدل بهما تيهًا ربما لا تهتدي الأجيال التالية إلى سبيلٍ للخروج منه، وفي تهود النصرانية ومجوسية التشيع وهندوسية بعض جهلةِ الصوفية عِبَرٌ في هذا الباب ليس من العسيرِ على ذي الفطرةِ أو العقلِ الخام تتبعُ آثارها في الأجيال على مدى قرون.

إنَّ غلو الوعَّاظ في المبالغة والأحكامِ والتصنيفات ليس ضربًا من الكذب فحسب بل هو لون من الغش للمتلقي ومخاتلة لوعيه، وحسبك بالغش وأضربِه مزلزلًا لبنيان الأمة ووعيها، فتَّاكًا بالجيل عامَّته وخاصَّته وساسته وصُنَّاعِه ورَعاعه ومثقَّفيه، ولشناعة غلو مبالغة الوعاظ في تضليل الوعي وما يتبعه من إشاعة الأراجيف وجب ذكرُ أغربِ ما فيها:

إنَّ المخطئ المقر المعتذر أو المتهم البريء الذي لم تثبت إدانته أو التائب سرًّا أو حدًّا ما يزال غلاة المبالغات يحسبون ما تلوكه عنه ألسنتهم وإعلامُهم إنكارًا للمنكر وإمعانًا في البراءة منه، وغلوهم هذا في ميزان الشرع ليس سوى إشاعةٍ للفاحشة ومؤشِّرٍ على أن الرحمة نزعت من قلوبهم، فمن قالا عن ماعز رضي الله عنه بعدما رُجِم: (أُهِيْجَ كما يُهَيَّج الكلب) أو قالا: (لم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب) سكت عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، فمر بجيفة حمار شائل برجله فقال: «أين فلان وفلان؟» فقالا: نحن ذا يا رسول الله، قال: لهما «كلا من جيفة هذا الحمار» فقالا: يا رسول الله، غفر الله لك من يأكل هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نلتما من عرض هذا آنفا أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة») واتجه إلى أحدهم قائلا: «ألا رحمته يا هزال»، فأين الرحمة لدى أولئكم الغلاة: أهي في نبشهم لصدورٍ طويت فيها صفحات، أم في تسويد لياليهم السامرة لأخرى بيضَّتها دمعات السَّحر؛ فإن (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، أم في تنمُّرهم وإذلالهم لعبد تطهَّر فطُهِّر، وزاده الله قربا منه فأحبَّه وأعزَّه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وكان خيرَ الخطَّائين؟!

1 الرفع والتكميل، اللكنوي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص٣٧٤.

2 أربع رسائل في علوم الحديث، السبكي والسخاوي والذهبي، جمع وتحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص٤٦.

3 مشكاة المصابيح: التبريزي، كتاب الفتن، الفصل الثاني، رقم (5396)، (3/ 1484)، ت: الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت

ط3، 1985م.

4 يوسف القرضاوي في صفحته الرسمية على «فيس بوك».

5 فضائل الصحابة: أحمد بن حنبل، ت: د. وصي الله محمد عباس، مؤسسة الرسالة – بيروت، ط1، 1403 - 1983 (2/ 571).

6 الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار: أبو بكر بن أبي شيبة، ت: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد – الرياض، ط1، 1409 (6/ 374) رقم (32138). 

7 مسند أبي داود الطيالسي، مسند عكرمة عن ابن عباس، رقم (2805) (4/ 403). سنن الترمذي: 44 - أبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، 5 - باب: ومن سورة النساء، رقم (3040) (5/ 99).

8 صحيح ابن حبان: كتاب النكاح، ذكر الإباحة للإمام أن يزوج بالمكاتبة إذا جعل صداقها أداء ما كوتبت عليه ، (4054) (9/ 361).

9 المستدرك على الصحيحين للحاكم، كتاب النكاح، رقم (2754)، (2/ 202)، قال الذهبي: صحيح.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين