كنت تكلمت من زمن في إحدى الحفلات المولدية، لجمعية البر والأخلاق عن مباني عظمة محمد عليه الصلاة والسلام، ورجعت بها إلى ثلاثة أسس:
عظمة الخلال الشخصية،وحكمة الإنشاء بمصالح المجتمع المادية والاجتماعية والأدبية،ثم قوة التنفيذ لمبادئ ذلك الإنشاء.
واليوم أرجع بطرفي فأرى أن من أسرار تلك العظمة أنها كلما ساح فيها الفكر منتجعاً اكتشف مواقع بكراً مُخْصِبة مُمْرِعة، بحيث يجد فيها الباحثون دائماً مدد بحثٍ لا ينتهي.
سرُّ القوة:
إنني اليوم أجيل بصيرتي في عظة المولد بنظر جديد، يحتاج إلى تصوير وتحديد، وهو سر القوة التي أتاح الله تعالى لنبيه بواسطة تحقيقها أن يُوجِدَ في تلك الفئة القليلة العدد من العرب قدرة طبقت آفاق الأرض في بضع عشرة سنة من بعده، ولم تصمد أمامها قوة سياسية من تلك القوى الكبرى، في فارس والروم وسائر الممالك المعمورة.
تحوُّل مازن بن العضوبة الطائي:
يجول الآن في خاطري تلك الأبيات المتلألئة لذلك العربي الجاهلي مازن ابن العضوبة الطائي، الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمان أقصى زاوية في جنوب جزيرة العرب، يضرب آباط الإبل إلى يثرب في شمالها، ليعلن إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدايته بتعاليمه، ويستمد منه الرشاد، ويمتع عينه بمرآه بعد أن كان لا يعرف إلا لذائذ اللهو والفجور، وإني لأردد قوله:
إليك رسول الله خبّت مطيتي
تجوب الفيافي من عمان إلى العَرْج([1])
لتشفع لي يا خير من وطئ الحصى
فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج([2])
إلى معشر جانبت في الله دينهم
فلا دينهم ديني ولا شرجهم شرْجي([3])
وكنت امرأ باللهو والخمر مولع
شبابي إلى أن آذن الجسم بالنهج([4])
فبدَّلني بالخمر خوفاً وخشيةً
وبالعهر إحصاناً فحصَّن لي فرجي
فأصبحت همي في الجهاد ونيتي
فللهِ ما صومي ولله وما حجي؟
فأقول في نفسي: ماذا فعل محمد صلى الله عليه وسلم في نفوس العرب؟
وكلما مر بي مثلٌ عظيم من حوادث تلك الفعالية العربية العجيبة في صدر الإسلام، تأتيني صورةٌ من صور ذلك الانقلاب النفسي الهائل فأجد الارتباط بينهما مُحْكماً، وأرى أن ذلك الانقلاب النفسي هو العامل الممهد الوحيد لتلك الفعالية النادرة.
إنَّ من تأمل في حادثة بلال الحبشي مع أبي ذر، إذْ تنازع مع بلال فعيَّره بقوله: يا ابن السوداء، فلما شكاه بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب وقال له: أعيَّرته سواد أمه، إنك امرؤ فيك جاهلية، فوضع أبو ذر خده على الأرض، وأقسم أن لا يرفعه حتى يطأ بلال برجله على خده الآخر، وبذلك اقتلع أبو ذر رضي الله عنه آخر حدٍّ من الجاهلية الذميمة من فؤاده، يكفيه ذلك دليلاً على أن تلك الفعالية الخارقة في صدر الإسلام قد كانت ثمرة صحيحة لذلك الانقلاب والتكوين النفسي الذي بعثه الإسلام الفطري في نفوس العرب قبل أن تشوبه الشوائب، وهذا مثل من أمثلة كثيرة متنوِّعة، بعد أن كان الرجل العربي لا يخضع إلا لهواه، ولا يعرف إلا أنانيته الفرديّة، وبعد أن كانت تبيد العشيرة العشيرةَُ، من أجل جريرة جرَّها سفيه فيها.
فالمتأمل في هذه المقارنة بين سابق حال العرب ولاحقها قبل الإسلام وبعده، وكيف انبثق من قلب تلك الجزيرة العربية المقطعة الأوصال ذلك الخصب العظيم في المواهب العلمية، وذلك الاستعداد الهائل في عدد ضئيل من العرب، أن يفرض إرادته على أعظم ممالك الأرض، ويحمل رسالة عُليا تخترق في طريقها الحُجُب السياسية مهما كثفت وامتنعت عن السياسيين، لا يستطيع إلا أن يعتقد بأن العرب في فعاليتهم الخارجية بعد الإسلام قد خلقوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً جديداً، وأصبحوا قدرةً فذّةً، لا عهد للتاريخ بمثلها، ولاسيما إذا لحظ ما عليه مسلمو الأرض اليوم ـ على كثرتهم ـ من عجز في المجموع وفي الأفراد، إذ يرى الفرد نفسه ملتهية بشؤونها الخاصَّة لا يستطيع أن يحمي نفسه في المجتمع الهائج المتلاطم بالأهواء والأطماع والأحقاد والتوثب على كل حرم أو حمى غفل عنه أصحابه.
فإذا أردنا أن نعرف سرَّ ذلك الخلق الجديد في العرب في صدر الإسلام، والطريق الناجع التي كانت لها تلك الآثار المدهشة في النتيجة فإن سر ذلك الخلق الجديد هو أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد تمكَّن بفضل الله تعالى وحُسْن توفيقه أن ينقل العرب من طور الاشتغال بأنفسهم إلى طور الاشتغال بغيرهم، وحصر كل فعاليتهم ومواهبهم في أداء مهمتهم تجاه غيرهم.
وأعني بذلك بأن العرب صدر الإسلام بفضل تعاليمه وتقويمه، قد اجتث الفساد الداخلي بينهم، وأصبح كل فرد على شعورٍ بمسؤوليته من جهة، وأنه مطمئن إلى أنه لن يكون فريسة بالمجتمع متى لم يتفرَّغ كل التفرغ لحراسة نفسه، وبذلك استطاع أن يتفرَّغ كل التفرغ بأن يشتغل بغيره في أداء رسالته إلى العالم.
أي: إن النبيَّ عليه السلام قد وُفق أن ينقل العرب صدر الإسلام من حالة كان بأسهم بينهم فردياً واجتماعياً إلى حالة أصلح فيها بأسهم ووجَّههُ إلى غيرهم في نظام وعدل بعد أن سما بأرواحهم إلى المثل العليا، فزهدوا في حطام الدنيا أن يجعلوه غاية لا وسيلة، وأشربت قلوبهم معاني المسؤولية.
هذا هو معنى توجيههم إلى الاشتغال بغيرهم بعد أن كانوا أفراداً أو مجموعاً مشغولين بأنفسهم، وهذا هو سرّ أسرار النجاح العالمي، وهو قانون الطبيعة في الفرد والجماعة، فالفرد الذي يهوى العلم إذا لم يكف مئونة نفسه لا يستطيع أن يكون عالماً ناتجاً، ويقاس على العالم غيره، والأمة المشغولة بفسادها الداخلي، وتصادم أعاصيرها الاجتماعية والسياسية، لا تستطيع أن تتوجَّه إلى فتحٍ وإصلاح في غيرها، وهكذا.
إن أمثلة تاريخ صدر الإسلام وشواهده، نواطق لما قد رسمته وحددته الآن من أن العرب بفضل النبي صلى الله عليه وسلم قد كُفوا عناء أنفسهم ومقاساة بعضهم من بعض، فتمحضت فعاليتهم للخارج.
وقد بدأ ذلك تدريجياً مع سيْر توطد الإسلام في جزيرة العرب، فكان المسلمون الأولون في جزيرة العرب يتمحّضون لمقاومة وإصلاح بقية العرب، بينما أولئك قواهم موزّعة بين حماية بعضهم من بعض، وبين حماية مجموعهم من المسلمين، حتى كان الفلج والظفر للمتفرغ لغيره طبعاً، فطبق الإسلام أنحاء الجزيرة ذلك التطبيق الذي يرافقه ذلك الانقلاب النفسي ذاته، فأصبح العرب كلهم سهاماً متحدة التوجيه إلى الخارج، مطمئناً كل فرد على نفسه، في المجموع، تحدوهم التقوى، وتُغْريهم بالتضحية عواقب الآخرة، فلا عجب أن يصدر عن أفراد منهم مالا يصدر عن الملايين من سواهم.
والفعالية الإنسانية إذا حُصرت وَوُجِّهت أتت بالأعاجيب والخوارق، في كل ميدان من ميادين الفكر أو ميادين العمل.
ثم تابعت تلك الفعالية العربية عملها الناتج في الخارج على الرغم من بدء الانشقاقات، ونبات الفساد الداخلي، ووقوع المجتمع العربي بعضه في بعض، مما عاد به إلى مرحلة الاشتغال بنفسه عن غيره، فكانت تلك الفعالية العربية في الخارج في العهدين الأموي والعباسي الأول إنما هي قائمة على حكم قوة الاستمرار للفعالية الأولى المتمحضة صدر الإسلام.
حتى إذا انتهت قوى الاستمرار، وقفت الفعالية، وعاد المجتمع الإسلامي من هذه الناحية إلى السيرة الجاهلية الأولى، لا من حيث اللون الاجتماعي المدني، بل من حيث المشغولية بالنفس عن الغير، وصَيْرورة الفرد فريسة غير مرحومة في المجتمع متى لم يتفرَّغ كل التفرغ لحماية نفسه.
ومن هنا يتضح جلياً: أن تلك الفعالية الإسلامية في أقطار العالم صدر الإسلام لم تكن خارقة للمعتاد، ولا شاذة عن سنن الكون، وإنما كانت نتيجة معقولة ضروريةً بعد حصول شرطها الطبيعي، وهو التفرغ عن شغل الإنسان لحماية نفسه في محيطه إلى شغله بغيره، فإن فعالية الإنسان إذا تمحَّضت وَوُجِّهت لا يحدُّها حد ولا يصدُّها سد، بل العجب بعد ذلك التمحض والتوجه أن لا تنتج الأعاجيب.
ولكن الأمر الخارق للمعتاد والذي هو معجزة بشرية هو إيجاد ذلك الشرط في أمة قد تناهبتها الأهواء، وقسمتها الأطماع ، ونخر هيكلها، فتتطَّهر ذلك الطهر العُلوي، وتتمحَّض ذلك التمحض الذي هو خلق جديد في بضع سنين؟
هذا هو أثر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي عظمة مولده الذي نحتفل الليلة بإحياء ذكره وتمجيدها، وهذه الغاية هي التي يجب أن يأخذ المسلمون أنفسهم بالتقرب إليها، لكي يكون لهم من النجاح على قدر قربهم.
طريق النجاح والسيادة:
وفيما قد أسلفت بيانه تفسير صحيح لتلك المقولة المأثورة:" لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، فإن صلاح أولها ونجاحه إنما كان عن انتقال إلى تحقيق شرط، والأخذ بسبب هما الطريق الطبيعية للنجاح والسيادة بحسب سُنة الله في الخليقة:{ ولن تجد لسنة الله تبديلاً}.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه و سلم
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول