انتفاضتا السّويداء والقامشلي؛ ومنهج الأسد في صناعة واستثمار الفتن

• انتفاضة السّويداء

في عام 2000م عقب تنصيبِ بشّار الأسدِ حاكمًا بالوراثة على سوريا حدثت انتفاضة غير متوقّعة في مدينة السّويداء ذات الغالبيّة الدرزيّة في جنوب سورية.

كان السّبب المباشر لهذه الانتفاضة إشكالًا حدث بين بعض الرّعاة من البدو مع صاحب مزرعة عنب تعدّى عليها البدو أثناء الرّعي وأطلقوا أغنامهم في "كرمه"؛ مما أسفر عن مقتل هذا الشّاب من الدروز.

اندلعت المظاهرات في السويداء لتتحوّل إلى انتفاضة ضدّ النّظام وسياساته في المدينة، حيث كان الشّعور العام عند أهل السويداء هو أنّ النّظام يدعم البدو ليبقى الدروز في شعور دائم بالحاجة إليه؛ لهذا كانت الانتفاضة أشبه بعصيان عام وليس مجرّد غضبة من سلوك البدو؛ فأعلن الإضراب وأغلِقت المحال التّجاريّة وأغلقت الدّوائر والمؤسّسات الحكوميّة، وهنا وجد النّظام الجديد نفسَه أمام أوّل انتفاضة شعبيّة في مواجهة الحكم الموروث.

• إتقان الاستثمار الشيطانيّ

"أحداثُ البدو" هكذا أطلق النّظام الرّسميّ على هذه الانتفاضة لتسفيهها ولفت الأنظار عن حقيقتها، واعتمدَ الإعلام العالميّ هذا الاسم في خطوة أولى لخنقها إعلاميًّا من خلال تكريس صورة مفادها بأنّ ما يجري في السويداء هو أحداث شغب بين البدو وأهل السويداء ليسَ أكثر.

وعلى الفور سارعَ النّظام عبر أجهزته الأمنيّة إلى استثمار مجموعاتٍ من البدو الذين ما فتئ يخوّفهم من بطش الدّروز بهم، وإلى استثمار شرائح من الدّروز الذين أقنعهم أنّه لا حياة لهم إلى جوار البدو المدجّجين بالأسلحة إلّا بحماية النّظام وأجهزته الأمنيّة.

بادرَ النّظام مباشرةً إلى تزويد البدو بكل ما يريدونه من أسلحة خفيفة ومتوسّطة وسلّطهم على الدّروز لقمع انتفاضتهم فانطلقت جحافلُ من البدو إلى جانب قوّات الأمن والجيش لتطلق الرّصاص وتحرق المحلّات في صورةٍ انتقاميّة لم تكن معروقةً بين البدو والدّروز من قبل.

وهكذا نجح النّظام في إظهار الأمر على أنّه فتنةٌ بين أقليّات وأكثريّات، وكلّ طرفٍ فيها هو أقليّةٌ وأكثريّة في الوقت ذاته؛ فهي فتنةٌ اجتماعيّة بين بين أقليّة بدويّة وأكثريّة حضريّة، وفتنةٌ طائفيّة بين بين أقليّة درزيّة وأكثريّة سنيّة

وتقدّم عندها النّظام بوصفه ضامنًا لأمن المجتمع، ومرجعًا يهرع إليه الدّروز لينقذهم من تسلّط البدو الذين يعرف الجميع أنّهم كانوا ذراع النّظام في هذه المعركة، وهم الذين يعانون من ظلمه وجوره كما يعاني دروز السويداء تمامًا.

وتنتهي انتفاضة السّويداء من خلال استجابة النّظام لمناشدات الدّروز وكفّ أذى البدو عنهم، ليكتشف الدّروز بعد انجلاء غبار المعركة أنّ أبرز إنجازات انتفاضتهم كان افتتاح العديد من الفروع الأمنيّة الجديدة التي كان أسوأها على الإطلاق فرع المخابرات الجويّة الإجراميّ.

• تكرارُ المشهد في القامشلي

ويتكرّر المشهد في 12 آذار "مارس" من عام 2004م إذ اندلعت الانتفاضة الكرديّة في مدينة القامشلي السوريّة

ولهذه الانتفاضة أسباب عميقة من الشعور بالظّلم المركّب والتّهميش المضاعف الذي كان يعيشه الأكراد في عهد حافظ الأسد الأب واستمرّ في عهد الأسد الابن، إلى جانب التشجيع النفسيّ بعدَ معاينة ما ناله أكراد العراق على الضفّة المقابلة من السّلك الشّائك من حقوق لا سيما عقب عام 2003م

فكانت انتفاضةً شعر فيها الأكراد بالخذلان من العرب الذين لم يشاركوهم ولم يساندوهم، وكان هذا الشعور هو أحد أهمّ أسباب تردّد الأكراد بالمشاركة في بدايات ثورة عام 2011م.

لطالما نفخ النّظام في صدور العرب بأنّ الأكرادَ المحاذين لهم والسّاكنين معهم يريدون تقسيم سوريا وإنّهم إن نجحوا بذلك سينكّلون بالعرب ويفتكون بهم، وبالمقابل عمل النّظام على إذكاء الأحقاد في قلوب الأكراد تجاه العرب بعد أن أوهمهم أنّه منح العرب مزايا لم تكن لهم

سارع النّظام إلى مواجهة الانتفاضة الكرديّة بالقمع بطرق شتّى حاصدًا ما زرعه من أحقاد، فكان من أبرز وسائل مواجهته لهذه الانتفاضة تشكيل مجموعات من العرب وتسليحها والزّجّ بها لتكون رأس الحربة في قمع الانتفاضة الكرديّة وقد أثمرت فيها التعبئة المشوّهة ضدّ الأكراد.

هاجمت هذه التشكيلات مناطق الأكراد فأحرقت المحال التجاريّة وساندت النّظام في قمع الانتفاضة التي أدّت إلى سقوط ثمانية وأربعين شهيدًا وأكثر من ثلاثة آلاف معتقل من الأكراد.

لتنتهي هذه الانتفاضة بقبضة محكمة من النّظام على مناطق العرب والأكراد معًا، وبمزيدٍ من الشروخ والأحقاد الاجتماعيّة التي يتقن النّظام وأجهزته المخابراتيّة استثمارَها

وما انتفاضة السّويداء وانتفاضة القامشلي إلَّا مثالان عن هذه المنهجيّة المطّردة التي انتهجها النّظام في تقوية بعض المكوّنات على أخرى، وشعور بعض المكوّنات بحاجتها إلى النّظام لتبقى في حيّز الوجود؛ ممّا سبّب تدميرًا ممنهجًا للنسيج الاجتماعي والإثنيّ في سورية الأسد.

• ويستمرّ الاستثمار الفرعونيّ

ومن اللحظات الأولى عمل النّظام على تصوير ثورة الحريّة والكرامة التي انطلقت في آذار عام 2011م ضدّ بشّار الأسد الحاكم الظّالم المستبدّ لا ضدّ بشّار العلويّ النصيريّ على أنّها ثورةٌ طائفيّة تستهدف العلويين والشّيعة وذلك بغية نفث روح الطّائفيّة البغيضة في نفوس الموالين له وكان له ما أراد.

فقد آتت سياسته هذه ثمارَها من خلال تأدية النّظام بعض المشاهد التي لا يمكن إلّا أن تكون مشاهد إثارة وتهييج في مسلسل إتقان النّظام صناعة الفتن واستثمارِها لأجل بقائه من خلال إحراقِ وإغراق الجميع وتفتيت النسيج المجتمعيّ السّوري.

ومن هذه المشاهد المأساويّة في حقيقتها وفي تأثيراتها اعتياد النّظام في المناطق الساحليّة في طرطوس واللّاذقيّة وريف حماه حيث يتداخل الوجود السنّي بالوجود العلوي النّصيريّ عندما كان يداهم القرى والمدن السنّيّة أن يقتاد المعتقلين إلى فروع الأمن؛ ولكنّه قبل ذلك كان يمرّ بالباصات المحمّلة بالمعتقلين إلى القرى العلويّة الموالية له ويدعو أهالي تلك البلدات إلى الخروج ويسلّمهم المعتقلين للتنكيل بهم وإهانتهم بطريقة مقزّزة قبل نقلهم إلى المعتقلات، والحرص على تصوير هذه المشاهد بالهواتف المحمولة ونشرها تحت مسمّى "تسريبات"؛ ممّا كان يغذّي الاحتقان الطّائفي الذي يدمّر نسيج المجتمع ويمزّقه شرّ ممزّق.

• كيلا يستمرّ المشهد

هكذا عمل نظام الأسد منذ وثوبه على الحكم على صناعة الفتن بين مكوّنات المجتمع السّوريّ واستثمارِها لصالحة بطريقة فرعونيّة بالغة المكر والدّهاء والخبث،

ولو تفكّر العقلاء فيما جرى في السويداء والقامشلي مليًّا لحاولوا إطفاء النّار التي تعمد النّظام إشعالها إثنيًّا وطائفيًّا منذ 2011م، فالنّظام وليس سواه هو صانع الفتن ومستثمرُها بن مختلف العرقيّات والإثنيّات السّوريّة؛ وهو المستفيد الأوحد منها بينما الخاسرون هم جميعُ من توهّموا أنّ في وجود هذا النّظام حماية لوجودهم أو الحفاظ على كياناتهم، والخاسرُ الأكبر هو مستقبلُ سورية إن لم يتداركه العقلاء من الجميع؛ الجميعِ دون استثناء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين