كيفَ أوهمَ الأسدُ الشّعبَ وأقنعه أنّ الغالبيّة

• المهمّةُ الأخطر

لم تكن مهمّة أجهزة الأمن في عهد الأسد الأب والابن قاصرةً على إفقاد الأمن وإرعاب النّاس وقمعهم واعتقالهم وتعذيبهم وتغييبهم في أقبية الزّنازين.

بل كانت لديها مهمّة أخطر بكثير، تمارسُها بمنهجيّةٍ عاليةٍ وحرفيّةٍ فائقةٍ، تقوم هذه المهمّة على بناء نوعٍ جديدٍ من الوعي المشوّه، قائمٍ على التّشكيك بكلّ أحد، واتّهام كلّ النّاس، والاعتقاد بأنّ كلّ واحدٍ من أفراد هذا الشّعب المسحوق هو مخبرٌ سريّ لجهازٍ من أجهزةِ المخابرات

وإذا أردنا أن نعدّد إنجازات آل الأسد؛ فإنَّ أهمّ إنجازات نظام حافظ الأسد أنّه جعل كلّ مواطن سوريّ ينظر إلى جميع النّاس بمن فيهم المقرّبين منه على أنّهم مخبرون وعملاء للأمن.

استطاع النّظام عبر أجهزته الأمنيّة أن يقنع الجميع بأنّهم مستهدفون من الجميع، فلا ثقةَ بأحدٍ ولا طمأنينة لكلمةٍ تقال أمام مخلوق؛ وبالتّالي لا يمكن أن تجتمعَ ثلّةٌ على عمل أو مشروع لا يكون على عين النّظام وتحت رعايته.

• المشكلة بكم لا بي

يعلمُ الجميعُ أنّ كلّ خطيب مسجد في سوريا لا بدّ أن يتمّ استدعاؤه إلى أجهزة الأمن المختلفة.

وممّا اعتادته أجهزة الأمن اللّعب على وتر الخلافات الدينيّة لا سيما الاختلاف بين المدارس والتيّارات الشرعيّة والجماعات المشيخيّة.

وهنا تنعدم ثقة هذا الشّيخ بالشريحة كلّها ولا يفتأ يخوّنها في نفسه ويتوجّس خيفةً من أيّ لقاء معها.

فعلى سبيل المثال لا الحصر فإنّ النّظام أوقف الشّيخ عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله تعالى وهو من علماء الحديث المعروفين على مستوى العالم الإسلاميّ في مراحل مختلفة من حياته عن الخطابة والتّدريس في المساجد والمعاهد الشرعيّة بتهمة "تبنيه للفكر الوهّابي"

وكان عددٌ من العلماء والدّعاة الذين يعرفون أنَّ الشّيخ الأرناؤوط كان سلفيًّا وسطيًّا يسعون للتّوسط له عند أجهزة الأمن لإعادته إلى العمل الدّعوي والعلمي، وكانوا كلّما دخلوا على ضابط المخابرات قال لهم: "يا مشايخنا: المشكلة عندكم وليست عندنا؛ ثمّ يخرج ملفًا كبير الحجم بين دفّتيه عشرات الأوراق ويضعه على الطّاولة أمامه ويقول مشيرًا إليه: هذه كلّها تقارير من المشايخ ضدّ الشّيخ عبد القادر؛ فنحن لا مشكلة لنا مع الشّيخ عبد القادر وإنّما أوقفناه بسبب ضغط المشايخ وتقاريرهم"

فتخرجُ الوفودُ من عند الضّابط الأمنيّ مقتنعةً بكلامه كونها تعرفُ خلفيّات الخلافات الفكريّة بين الشّيخ الأرناؤوط وغيره من مشايخ المدارس الصّوفيّة، ويبدؤون بالحديث عن هذا الموقف مؤكّدين أن المشكلة ليست عند النظام ولا عند أجهزته الأمنية وإنّما عند "المشايخ المخبرين" وكونهم لا يعرفون ولم يقرأ أحد منهم ورقةً من ذلك الملفّ فيغدو كلّ واحدٍ من مشايخ دمشق مشروع اتّهام بالعمالة للنّظام والمخابرات، عند عموم النّاس كما عند المشايخ أنفسِهم.

وهذا المثال يمكن تعميمه على عموم المشايخ والخطباء في مختلف المحافظات ومن مختلف المدارس الفكريّة والمشارب الدّينيّة، فهذه المنهجيّة في التّعامل كانت منهجيّة عامّة لأجهزة المخابرات مع المؤسسات الدعويّة المختلفة في اللعب على تناقضاتها واستغلال اختلافاتها، ويساندُ ذلك وجود عددٍ من الحالات تمارس العمالة الحقيقيّة والفعليّة للنّظام؛ ليتمّ تعميم الفكرة وليتطوّر الامر مع الزّمن فتغدو شريحة المشايخ والعلماء والدّعاة والخطباء في الوعي الجمعي لعموم النّاس "مخترقةً حتّى النّخاع" وكذلك يصبحُ هذا تقييمها عند نفسِها أيضًا

فكيفَ يمكن أن يكون لهذه الشريحة أن تكون ذات تأثير في الواقع تغييرًا أو تصويبًا، وكيف يمكن لها ان تكون ذات فاعليّة في مسار الأحداث على مستوى الوطن؟!

وهذه المنهجيّة التي يمارسُها النّظام مع شريحة المشايخ والدّعاة والخطباء تُمارسُ بالطّريقة ذاتها مع الشّرائح كلّها من أطبّاء ومهندسين ومعلّمين وكتّاب وصحفيين ووجهاء، لتغدو الشّرائح كلّها في حالة اتّهام ضمنيّ متبادَلٍ بين أفرادها لتبقى الشرائح المجتمعيّة رخوة والكيانات هشّة أوهن من بيت العنكبوت.

• لا تثق بأقرب النّاس إليك

عمل النّظام بطريقة منهجيّة لزرع الشّك بين عامّة النّاس ببعضهم البعض فلا يثقون ببعضهم مهما كانوا قريبين من بعضهم البعض ولو ضمّتهم مجالس السّهر والسّمر؛ فجميعهم يستشعرون بأنّ كلّ مجالسِهم ستنقل لأجهزة الأمن، فيتجنّبونها أو يلزمون الحذرَ عند شهودِها.

فمن أمثلة ذلك أنَّ أجهزة الأمن كانت تقومُ بين الفينة والأخرى باستدعاء مجموعة من الناس ضمّهم مجلس تسامر اعتياديّ، ويتمّ استدعاؤهم إلى فرع الأمن فرادى، ويقول المحقّق لكلّ واحد منهم: لقد كنتم عشرة أشخاص، وقد وجدت على طاولتي عند وصولي صباحًا عشرة تقارير عنكم!!

وهكذا يظنّ كلّ واحدٍ من هؤلاءِ المجتمعين بأنَّه كان يجالِسُ مجموعة كلّها من المخبرين وعملاء الأمن فيعتزلهم ويفقد الثّقة بهم وبغيرهم من أبناء هذا المجتمع.

ويساعدُ في نشر هذه القناعة ما كانت يتمّ بثّه من داخل الفروع الأمنيّة من طرائفَ ونكات تتحدّث عن هكذا مواقف، تبني قناعةً بأنَّ المخابرات على معرفة بأدقّ أدقّ تفاصيل الحياة اليوميّة للإنسان، ويتمّ نشرها في المجتمع ويتداولها النّاس لتشكّل وعيهم الجمعيّ بطريقة ناعمة.

هكذا كان النّظام يربّي المجتمع كلّه على أنّ كلّ أفراده عيونٌ على بعضهم بعضًا وأنّهم عملاء للأجهزة الأمنيّة التي تعرف عن المرء أكثر ممّا يعرف عنه أبوه وأمّه؛ فتنعدم الثّقة وينتشر التخوين الخفيّ الذي سرعان ما يغدو علنيًّا مع تنفّسُ نسائم الحريّة.

• النّتائجُ الكارثيّة

حالةُ الهجوم الشّرس على أيّة شخصيّة صاعدة في المعارضة السوريّة، وحالة الهدم العنيف لكلّ الكيانات، وتخوين الثّوار والتشكيك بنزاهة العاملين والتخوّف من أيّ تواصل مع المخالف، والحذر من الجميع تعكسُ نتاج عقود من التمزيق الذي مارسه النّظام والتّربية على التّشكيك والاتّهام والاعتقاد بعمالة عموم النّاس للمخابرات؛ فأتى على الثّقة المجتمعيّة من قواعدها تمزيقًا وتفتيتًا وتدميرًا.

لا شكّ أنّ أيّ جهازِ مخابراتٍ في العالم يقوم بعمليّات تجنيد من أبناء الشّعب ليكونوا مخبرين سريّين، ونظام الأسد كذلك أيضًا غير أنّه فاق بقيّة الأنظمة أنّه أقنع عامّة النّاس أنّهم يعيشون وسط مجتمع غالبيّته من المخبرين وعملاء أجهزة الأمن.

إنَّ هذا المطر المسموم هو بعضُ يسيرٌ من ذلك الغيم الأسود الذي لبّدته سياسات حافظ الأسد وفريقه الأمنيّ العتيد، وهي أجراسُ خطرٍ تُقرَع ملء السمع والبصر؛ فمتى تتنبّه القيادات المجتمعيّة والمؤسّسات التربويّة والأقلام الفكريّة والجهود الدعويّة إلى ضرورة التّدارك ومحاولة العلاج وبناء سفينة النّجاة الجامعة قبل أن يشتدّ مطر التمزّق فيغرق الجميع غرقًا لا نجاة معه؛ ولات ساعة مندمِ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين