البقاء للأقوى إنسانية وأخلاقا، وليس للأقوى أسلحة وفتكا

ونحن نراقب الحرب العالمية الشرسة الدائرة بين سلاح الطب العالمي وبين وباء ( Covid – 19)، ملاحظين التفاوت في بذل الخدمات الطبية في هذه المعركة بين دولٍ الإنسانيةُ فيها أرقى من أخرى، تقفز إلى الذاكرة صور من المسؤولية الإنسانية الراقية التي قرأنا عنها في كتب التاريخ الحضاري للإسلام في كل مقاطعاته، والتي كانت أبعد ما يكون عن (الاستغلالية) والهمجية التي تمثلها اليوم بأبشع صورها شركات التأمين الصحي التي تهتم بالمال أكثر من اهتمامها بالإنسان.

ففي القرن السادس هجري، الثاني عشر ميلادي، كانت الحياة السياسية في بغداد في قمة الفوضى، وكان العالم الإسلامي ممزقا أيما تمزيق، والصراعات الداخلية تفتك به، ومع هذا فإن التقديمات العامة التي كان يقوم بها السلاطين والساسة تجاه الناس لا تتأثر بالنزاعات السياسات القائمة.

ومعلوم أن بغداد - حاضرة الخلافة العباسية - شهدت صراعات مريرة مع ظهور البويهيين في القرن الرابع هجري، العاشر ميلادي، ومع ذلك فإن السلطان عضد الدولة البويهي أنشأ سنة (371ه – 981م)ـ بيمارستانا (مستشفى) اعتبر من مفاخر الحضارة الإسلامية تنظيما، وقد وصفه ابن جبير في رحلته يوم دخل بغداد في صفر من عام (580ه- 1184م) بأنه مدينة طبية قائمة بذاتها، فقال:

»سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة، فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم خدمةٌ (صناع متخصصون) يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير (جمع مقصورة) ، والبيوت، وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل اليه من دجلة«. 

إنه مدينة طبية مبنية على تنظيم القصور الملكية، كله وقف على المرضى، ولم تكن تضيق باستقبال أحد، سواء كان مريضا أم لا. 

فقد ذكر المؤرخ خليل بن شاهين الظاهري في كتابه (زبدة كشف الممالك) قصة طريقة يوم دخوله دمشق، قال: «وبها مارستان لم ير مثله في الدنيا قط – وهو البيمارستان النوري - واتفقت نكتة أحببت أن أذكرها: وهي أني دخلت دمشق (في سنة 831هـ-1427م) وكان بصحبتي رجل عجمي من أهل الفضل والذوق واللطافة، وكان قصد الحج في تلك السنة، فلما دخل البيمارستان المذكور ونظر ما فيه من المآكل والتحف واللطائف التي لا تحصى، قصد اختبار رجال البيمارستان المذكور، فتضاعف (تمارض)، وأقام به ثلاثة أيام، ورئيس الطب يتردد إليه ليختبر ضعفه، فلما جس نبضه، وعلم حاله، وصف له ما يناسبه من الأطعمة الحسنة، والدجاج المسمنة، والحلوى، والأشربة، والفواكه المتنوعة. ثم بعد ثلاثة أيام كتب له ورقة من معناها: إن الضعيف لا يقيم فوق ثلاثة أيام. وهذا في غاية الحذاقة والظرافة». ملمحا إلى أن حق الضيف ثلاثة أيام.

ولم يكن هذا البيمارستان وحيدا، بل مثله أمثال في العالم الإسلامي، وكان يوجد في قرطبة وحدها أكثر من خمسين مشفى !!

وقد وصف ابن جبير مارستان القاهرة، الذي أنشأه السلطان صلاح الدين الأيوبي، فقال: «ومما شاهدناه أيضًا من مفاخر هذا السلطان: المارستان الذي بمدينة القاهرة. وهو قصر من القصور الرائقة حُسنًا واتساعًا، أبرزه لهذه الفضيلة تَـأَجُّرا واحتسابًا، وعيّن قيّما من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير، ومكنه من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها. ووضعت في مقاصير ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكُسِى (الكسوة). وبين يدي ذلك القَيِّمِ خَدَمَةً يتكفلون بتفقد أحوال المرضى بكرة وعشية، فيقابلون من الأغذية والأشربة بما يليق بهم.

وبإزاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى. ولهن أيضا من يكفلهن.

ويتصل بالموضعين المذكورين موضع آخر متسع الفناء فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد اتخذت محابس للمجانين. ولهم أيضا من يتفقد في كل يوم أحوالهم ويقابلها بما يصلح لها. 

والسلطان يتطلع هذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال ويؤكد في الاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد. وبمصر مارستان آخر على مثل ذلك الرسم بعينه». 

وكان في طرابلس الشام بعد تحريرها من الفرنجة سنة (688ه – 1289م) بيمارستانان، واحد بناه نائب طرابلس الأمير عز الدين أيبك أثناء ولايته على طرابلس بين عامي (694 – 698ه)، وهي الفترة التي بنيت فيها طابلس المملوكية وهذا يعني أن المستشفى كان وقتها من أساسيات إنشاء المدن.

والثاني بناه الأمير بدر الدين الحلبي المتوفى سنة (742ه- 1341م)، وكان يقع على الضفة الغربية للنهر في المحلة التي تعرف اليوم بالسويقة.

فهذا كله يشهد على أن النظام الصحي لكافة الناس كان من أولى أوليات القائمين على أمر السياسة في الإسلام، وأن صراعاتهم السياسية لم تحل دون قيامهم بواجبهم تجاه الرعية، ولم تتخذ القضية الصحية ومصالح الناس يوما مغنما، وإنما كانت مغرما ينفق عليها الميسورون من سلاطين وأمراء وتجار حسبة لله تعالى لا يسألون الناس جزاءً ولا شكورا.

وقد وصفت هذا الإهتمام بكل أمانة المستشرقة الألمانية (زغريد هونكه) في كتابها (شمس الله تسطع على الغرب) في فصل بعنوان (مستشفيات مثالية وأطباء لم ير لهم العالم مثيلا) واصفة إياها بأنها نموذجية، وأن خدماتها تطال كل محتاج دون تمييز. وأن كل الخدمات تقدم مجانا، بل إن من أجريت له عملية ويحتاج إلى الراحة أياما، وليست عنده نفقة، تدفع له قطع ذهبية تكفيه للنفقة في فترة الراحة.

إنها مشافٍ تنفق على المحتاجين، لا مراكز حجز لمن لا يجد ما يدفعه لهم من المرضى..

هكذا تكون الحضارة، وهكذا تكون المسؤولية تجاه الناس.. لذلك ، والله أعلم ، إن الاستمرار بعد هذا الوباء والظهور والهيمنة ستكون لأكثر الدول إنسانية.

وصدق من قال:

إنما الأمم الأخلاقُ ما بقيت .. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين