حدثنا وأخبرنا

قالوا: أخبرنا بأحسن كلمة إلى نفسك وأطيبها، 

قلت: هي مقالة الرجل: "حدثنا وأخبرنا"، إنها ألذ إلي من تناول الهريسة والثريد ومعاطاة خمور الأندرين، وأشهى وأحلى من شراب السكارى وقبلة العذارى، تصغي إليها أذني مستطرفة لها استطرافا، ويفتن بها عقلي كلفا بها هائما، ويستهنئها قلبي منقطعا إليها زاهدا في سواها، أتعشَّقها تعشُّقَ الشعراء الأطلال في البوادي والقفار، وأحتقر دونها أرفع المناصب وأغلى الثروات، وما أحسن ما روي عن يحيى بن أكثم القاضي، قال: وليت القضاء، وقضاء القضاة، والوزارة، وكذا وكذا، ما سررت بشيء كسروري بقول المستملي: من ذكرت رضي الله عنك؟ قلت: وقول المستملي هذا هو الذي يتلوه قول المحدث "حدثنا وأخبرنا".

قالوا: مالك أغرمت بهذه الكلمة كل هذا الغرام؟

قلت: هو معنى يضيق عنه البيان ويعيا عن نعته اللسان، وأنى لتلك اللذة أن يدرك كنهها الوصف، كأنها ثنايا حبيب لا يمل لها رشف، وحسبي أنه نطق به حبيب رب العالمين وسيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم في غير حديث إذ قال: حدثني جبرئيل عليه السلام عن الله عز وجل. أجلس ساعات طوالا أدارس كتب الحديث وأذاكر أهله الصافين فلا أتعب ولا أمل، إنها كلمة لها وقع في القلب عجيب قد يبعث صاحبها على الزهو والكبر عرفانا لقيمتها واستعظاما لشأنها. قالوا: ما الذي قصدت؟

قلت: ألم يتناه إليكم ما روي عن أيوب العطار، أنه سمع بشرا (أي الحافي) يقول: حدثنا حماد بن زيد، ثم قال: أستغفر الله، إن لذكر الإسناد في القلب خيلاء.

قلت: وإنها لكلمة تطمح لها نفوس الخلفاء الذين اتسعت ممالكهم وجسمت شوكتهم وأبهتهم، عن موسى بن داود، قال: دخل محمد بن سليمان بن علي المسجد الحرام، فرأى أصحاب الحديث يمشون خلف رجل من المحدثين، ملازمين له، فالتفت إلى من معه، فقال: لأن يطأ هؤلاء عقبي كان أحب إلي من الخلافة.

وعن يحيى بن أكثم، قال: قال لي الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين! قال: فتعرف أجلَّ مني؟ قلت: لا، قال: لكني أعرفه: رجل في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: يا أمير المؤمنين هذا خير منك، وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولي عهد المسلمين؟ قال: نعم، ويلك، هذا خير مني، لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يموت أبدا، نحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر.

وعن عمر بن حبيب العدوي القاضي، قال: قال لي أمير المؤمنين المأمون: ما طلبت مني نفسي شيئا إلا وقد نالته ما خلا هذا الحديث، فإني كنت أحب أن أقعد على كرسي، ويقال لي: من حدثك؟ فأقول: حدثني فلان عن فلان. قال: فقلت: افعل يا أمير المؤمنين، فلم لا تحدث؟ قال: لا يصلح الملك والخلافة مع الحديث للناس.

قالوا: من أين جاءت هذه الحلاوة في هذه الكلمة التي كانت شعارا للمحدثين على مدى الدهور والأعصار، 

قلت: لأنهم بلغوا في الجمع بين دعوى القول ودعوى الفعل شأوا بعيدا، وأحبهم الله ورسوله والمؤمنون.

قالوا: اكشف لنا عن حب الله إياهم.

قلت: أحبهم الله لما ازدانوا بالصلاح والتقوى والعبادة والزهد في حطام الدنيا والرغبة في الآخرة، وإن تحديثهم لأثر من آثار صلاحهم، قيل لأبي حفص عمرو بن أبي سلمة: تحب أن تحدث؟ قال: ومن يحب أن يسقط اسمه من ديوان الصالحين؟ وعن صالح بن محمد الرازي وغيره، قالوا: إذا لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال فلا أدري من الأبدال.

قالوا: وكيف تحبيبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قلت: لأنهم حملة رسالته والقائمون بأداء أمانته، وهم العاملون بما روي عن أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع.

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى تقوم الساعة . قال يزيد بن هارون: إن لم يكونوا أصحاب الحديث، فلا أدري من هم.

قلت: وقد صدقت فيهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فحفظها؛ فإنه رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. وعن الحميدي، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما من أحد يطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه.

قلت: وهم أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، لما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم صلاة علي. وعن أبي نعيم الأصفهاني، قال: وهذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها؛ لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخا وذكرا.

قالوا: وما حببهم إلى المؤمنين؟

قلت: لأن المسلمين نالوا من طريقهم بغيتهم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فأحبوهم كما أحبوه، عن يونس يعني ابن عبد الأعلى، يقول سمعت الشافعي، يقول: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث، فكأني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حيا، وعن سفيان الثوري، قال: الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض، وعن عبد الله بن داود الخريبي، قال: سمعت من أئمتنا ومن فوقنا أن أصحاب الحديث وحملة العلم هم أمناء الله على دينه وحفاظ سنة نبيه ما علموا وعملوا. وقال صالح الرازي: ليس العدل الذي يعدل على الفروج والدماء والأموال، العدل الذي إذا شهد على النبي صلى الله عليه وسلم قبلت شهادته.

قلت: واعلموا أن الحديث من زاد الآخرة، ومن زهد في الدنيا ورغب في الجنة ابتغاء وجه الله تعالى أنعم عليه بسعادة الدارين الدنيا والآخرة، عن سهل بن عبد الله الزاهد، قال: من أراد الدنيا والآخرة فليكتب الحديث، فإن فيه منفعة الدنيا والآخرة، وعن سفيان الثوري، قال: سماع الحديث عز لمن أراد به الدنيا، ورشاد لمن أراد به الآخرة.

قالوا: أوصنا، 

قلت: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى والاشتغال بالحديث، فأصحاب الحديث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب أصحابه، عن الأعمش: بيني وبين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ستر أرفعه وأنظر إليهم. واعلموا أن طلب الحديث من العزائم لا يأتيه إلا كبار النفوس، عن أبي بكر الهذلي، قال: قال لي الزهري: يا هذلي، أيعجبك الحديث؟ قال: قلت: نعم، قال: أما إنه يعجب ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم.

قلت: واعلموا أن النظر في الحديث وعلومه من أفضل الطاعات وأعلى القربات، عن وكيع، قال: لولا أن الحديث أفضل عندي من التسبيح ما حدثت، وعنه أيضًا قال: لو أعلم أن الصلاة، أفضل من الحديث ما حدثت.

ألا حبذا قوم غذاؤهم قال الله وقال الرسول، ودأبهم الإقبال على شأنهم واجتناب الفضول، ونداماهم الصحف والأسفار، وحاديهم العزم والإصرار، وساقيهم الصلاة على النبي والاستغفار، وتفكرهم علم، ومنطقهم حكم، وظاهرهم ظرف ونضارة، وباطنهم دين وطهارة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين