توظيف الرواية التاريخية في الواقع السياسي المعاصر

(قراءة في رواية سيرة الشجاع)

لقد اعتمد كثير من الأدباء في كتابتهم للروايات على حوادث التاريخ لاستقاء مواضيع لرواياتهم، 

وكانت غالب هذه الروايات قد صيغت بشكل يطغى فيه خيال الكتاب على الحقائق التاريخية، فقد كان أغلب أهداف المؤلفين تقديم الرواية التاريخية بصيغة أدبية جميلة تجذب القارئ وتمتعه بقراءته لأحادث التاريخ، ولكن تحويل الحادثة التاريخية إلى رواية تخدم الواقع السياسي المعاصر يعتبر من الدعاية السياسية التي اشتغل عليها بعض الأدباء إما بحسن نية أو بسوئها.

ومن هذا القليل ما تميزت به رواية سيرة شجاع (لعلي أحمد باكثير) من استحضار وقائع تاريخية وإسقاطها على واقع سياسي معاصر وهو حادثة انقلاب الضباط الأحرار ضد خديوي مصر.

ففي هذه المقالة نطلع على بعض الإسقاطات التاريخية على الواقع السياسي لمصر في خمسينيات القرن الماضي من خلال رواية سيرة شجاح لأديب الرواية والمسرح علي أحمد باكثير.

إن الواقعة التاريخية الذي اعتمدها (باكثير) في روايته هو الخلافات التي حصلت بين وزراء الدولة الفاطمية في زمن العاضد لدين الله آخر حكام الدولة الفاطمية ( تاريخ 546- 567 ) ثم استيلاء أسد الدين شيركو وصلاح الدين الأيوبي على الحكم في مصر وإنهاء الدولة الفاطمية.

ملخص الرواية: استهل الكاتب روايته بذكر نتيجة المعركة بين الوزير شاور بن مجير والقائد العسكري أبو الأشبال ضرغام بن سوار، وانتصار الأخير عليه وهروب شاور إلى الشام واحتمائه بنور الدين محمود الزنكي.

وحدد شخصيات الرواية من هذه الحادثة بداية من شاور وضرغام والعاضد وشجاع ابن شاور بالإضافة إلى أسد الدين شيركو وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، ثم أبي الفضل الحريري وابنته سمية زوجة شجاع، وتلك الشخصيتان من اختراع خيال الكاتب ليضيف للقصة بعض الدراما واللمسات الأنثوية التي لا بد منها في سياق اجتماعي مختلط بالسياق السياسي.

ثم انتقلت الرواية إلى أحداث عودة شاور مع أسد الدين ومقتل ضرغام وتأييد العاضد له ثم تغيير شاور لولاءاته بين أسد الدين والإفرنج وقتاله لأسد الدين مع الإفرنج مرة، ومرة مع أسد الدين ضد الإفرنج حتى ينتهي أمره بالقتل على يد صلاح الدين في حبكة روائية خيالية تماماً.

وفي نظرة نقدية سريعة على هذه الرواية نرى أن الكاتب بدأ روايته بإهدائها إلى جمال عبد الناصر وصحبه من الضباط الأحرار الذين أعلنوا ثورتهم ضد الخديوي وعبر عن ذلك بقوله في الإهداء: "أهدي هذه القصة التي استقيت حوادثها وحقائقها من مسطور تاريخنا العظيم الحافل واستوحيت معانيها ومغازيها من مشهود هذه الثورة العظيمة الخلاقة".

فقد صرح الكاتب أن فكرة روايته قد انقدحت من أحداث ثورة الضباط الأحرار ومنه نفهم أن كل أحداث هذه الرواية وحبكاتها تدور في فلك ذلك الانقلاب السياسي والرواية الرسمية له، فمثلاً توصيف الكاتب لشخصية العاضد لأمر الله وخياناته وشكه بمن حوله ومراسلاته للإفرنج هي إسقاط تمثيلي على شخصية خديوي المصر قبل إقالته.

كما أن منهج العمل السري الذي ابتدعه أبو الفضل الحريري ومجلس حكمائه -وهو من مخيلة الكاتب- هو تمثيل لمنهج العمل –الذي لم تتضح تفاصيله- الذي قام به الضباط الأحرار مع جماعة الإخوان المسلمين قبل الانقلاب على الخديوي. وفي صورة وردية تضعهم في مصاف المتحكمين في الأمور لمصلحة الأمة مقابل الشخصيات الأخرى الخائنة والتي تتربص بالشعب.

وهكذا لو طالعنا شخصيات الرواية الأخرى لوجدنا أغلبها تقريباً تمثيل لشخصيات حقيقة كان لها أثر في ثورة الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر.

والفكرة الثانية الواضحة بين السطور هي فكرة القومية العربية التي علا شأنها في خمسينيات القرن الماضي، فقد حاول (باكثير) أن يصبغ روايته من البداية إلى النهاية بهذه الصبغة القومية بزعم أن شخصيات القصة وخصوصاً أسد الدين وأبي الفضل ومجلسه السري يعملون من أجل رفعة العرب ضد الإفرنج، وكأن الأحداث هي قضية قومية بين العرب والإفرنج، وإنْ ذكر الإسلام والمسلمين فإنَّما ذُكر بشكل هامشي ضمن السياق والسباق، كشعارات للتسويق بين عامة الشعب، مع أن أسد الدين شيركو وصلاح الدين لم يكونا من العرب أصلاً بل من الكرد وقد أورد الكاتب على لسانهم كلمات غريبة في القومية العربية لا تناسب الأصل التاريخي لهم مثل قوله أسد الدين: إن نور الدين هو الذي ارتأى هذا الرأي وهو لا يقصد إلا الوفاق والتعاون على ما فيه خير مصر وخير العرب والمسلمين).

ولو رجعنا إلى مصادر التاريخ لوجدنا أن خلاف شاور مع أسد الدين والعاضد أيضاً هو الخوف من أن يتملك الغزُّ للبلاد منهم، ففضَّل الإفرنج عليهم أحيانًا حفاظًا على سلطتهم في مصر.(1)

وفي النهاية قد تكون هذه الرواية من الروايات التاريخية التي روّجت للواقع السياسي أو بررت له معتمدةً على الوقائع التاريخية تحت ظل مقوله أن "التاريخ يكرر نفسه"، وطبعاً قد تكون بحسن نية من الكاتب ولكنها صارت من ضمن الدعايات المروجة لسياسات الإنقلاب في العصر الحديث ودلت على بُعد بعض كُتَّاب الأدب عن فهم المنطق السياسي الذي عاشوه ومآلاته، فلا بد من الحذر من اعتماد الرواية الأدبية مرجعاً للوقائق التاريخية أو تبريراً للحوادث السياسية المعاصرة التي لم تظهر نتائجها البعيدة بعد.

1 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي 5\ 388-

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين