قصر الصلاة

قالوا: ما الأصل في أداء الصلاة؟ 

قلت: الأصل في الصلوات المكتوبات إقامتهن في بيت من بيوت الله تعالى في جماعة مع شروطهن وأركانهن وسننهن وآدابهن، وإقامة الصلوات رأس مطالب هذا الدين وعمدتها، يحرَّم تفويتها أو التهاون بها أو التفريط في المحافظة عليها.

قالوا: ما قصر الصلاة؟ 

قلت: قصرها نقص في إقامتها وإخلال بالمحافظة عليها وعيب في أوصافها، ولا يجوز القصر إلا لأعذار توجبه أو تبيحه، وللقصر وجوه.

قالوا: أفدنا بتلك الوجوه. 

قلت: هي أربعة:

الأول: قصر ركعات الصلاة، وهو أن تصلى الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين، ولا قصر في الفجر والمغرب.

والثاني: قصر أوقاتها، وهو أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وقد يجمع بين العصر والمغرب، وبين أكثر من صلاتين.

والثالث: قصر فرائضها، وهو تفويت القيام والركوع والسجود واتجاه القبلة والقنوت.

والرابع: قصر سننها وآدابها، وهو ترك الجماعات في المساجد.

قالوا: بيِّن لنا الأعذار التي توجب القصر أو تبيحه، 

قلت: هي خمسة أعذار:

الأول: الخوف على النفس والمال والعرض، وذلك عند اشتعال نار القتال ونشوب الفتنة واضطراب الأمن والسلام، وتتحقق فيه كل وجوه القصر أو جلها، فتقصر فيه الركعات من أربع إلى ثنتين في الظهر والعصر والعشاء، وهو معنى حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر"؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مكة ركعتين ركعتين صلاة الخائف، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: "إن صلاة الخوف ركعة" (المغني 2/401، وبدائع الصنائع 1/243)، ونيل الأوطار 4/4)، وأخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة"، وبه قال أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين، وهو مذهب سفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ومن تبعهما. (سبل السلام للصنعاني)، وفي المغني: وهو مذهب ابن عباس،‏ وجابر قال‏:‏ إنما القصر ركعة عند القتال، وقال طاوس ومجاهد والحسن وقتادة والحكم كذا، يقولون‏:‏ ركعة في شدة الخوف يومئ إيماء، وقال إسحاق‏:‏ يجزئك عند الشدة ركعة تومئ إيماء‏،‏ فإن لم يقدر فسجدة واحدة، فإن لم يقدر فتكبيرة لأنها ذكر لله تعالى، وعن الضحاك،‏ أنه قال‏:‏ ركعة فإن لم يقدر كبر تكبيرة حيث كان وجهه.

وتقصر في الخوف أوقات الصلاة، فيجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وإذا اشتد الخوف واضطر الناس إلى الجمع بين غيرهما أو بين أكثر من صلاتين جاز، أخرج مسلم عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشّمس فجعل يسبّ كفّار قريش، وقال: يا رسول اللّه! ما كدت أصلّي العصر حتّى كادت الشّمس تغرب. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: واللّه ما صلّيتها. قال: فقمنا إلى بطحان، فتوضّأ للصّلاة، وتوضّأنا لها،, فصلّى العصر بعد ما غربت الشّمس، ثمّ صلّى بعدها المغرب. قلت: فهذا جمع بين العصر والمغرب.

ولما اشتدت الحال في الخندق وتفاقم الأمر جمع بين أكثر من صلاتين، أخرج الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: إنّ المشركين شغلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أربع صلوات يوم الخندق حتّى ذهب من اللّيل ما شاء اللّه، فأمر بلالا فأذّن ثمّ أقام فصلّى الظّهر ثمّ أقام فصلّى العصر ثمّ أقام فصلّى المغرب ثمّ أقام فصلّى العشاء.

وقد يجوز في الخوف قصر الفرائض، فيصح المشي على الأقدام في صلاة الخوف، وركوب المطايا وسائر ما في معناها، ويجوز في الخوف أن يصلي الناس وحدانا، قال تعالى: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا" (سورة البقرة 239)، وقال ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: "فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها" (الموطأ والصحيحان).

والثاني: السفر، ويجب فيه أو يباح قصر الرباعيات إلى الثنائيات، أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: خرجنا مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من المدينة إلى مكّة فكان يصلّي ركعتين ركعتين حتّى رجعنا إلى المدينة، وأخرج الشيخان أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: صحبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكان لا يزيد في السّفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك، رضي اللّه عنهم.

ويجوز في السفر الجمع، أخرج الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السير. وأخرج مسلم عن سعيد بن جبير، قال: حدثنا ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.

وقد سبق أن كتبت مقالا في الجمع بين الصلاتين فراجعوه.

ويجوز في صلاة السفر ترك القيام إذا كان في سفينة أو مركب لا يثبت عليه المصلي ثباتا، أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الصّلاة في السّفينة؟ فقال: صلّ فيها قائما إلّا أن تخاف الغرق، ونقل على ذلك الإجماع النوويّ، وابن الملقّن، والصنعانيّ، والشوكانيّ.

والثالث: المرض: ولا يجوز فيه قصر الركعات، ولكن يجوز فيه قصر الفرائض، فيصلي المريض قاعدا إن لم يستطع القيام، ومستلقيا إن لم يستطع القعود، ويؤمئ للركوع والسجود إيماءا، أخرج البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب. وفي صحيح البخاري: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قاعدا.

ويجوز للمريض الجمع أيضا، وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمستحاضة أن تجمع بين الصلاتين، والجمع للمريض مذهب جماعة من العلماء.

والرابع: الشغل المثقل، يجوز فيه قصر الأوقات، فيجمع بين صلاتين أو أكثر، فمثلا إذا مارس الطبيب عملية جراحية تستغرق وقتا طويلا جاز له الجمع بين الصلاتين أو أكثر حسب ما دعت الحاجة إليه، واختار الإمام ابن تيمية جواز الجمع للطباخ، والخباز ونحوهما، ممن يخشى فساد ماله ومال غيره بترك الجمع. (انظر: كتاب الصلاة من الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف).

قالوا: ما تقول في الصلاة زمن الأوبئة، بأي الأعذار الأربعة تتعلق؟ 

قلت: بالخوف والمرض جميعا، فيجوز في الوباء الانقطاع إلى البيوت والصلاة فيها، وإذا أصيب الإنسان بالوباء جاز له الجمع والتخفيف في بعض صفاته حسب شدة الوباء وخفته، أخرج أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه، عذر، قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى.

قالوا: هذا الحديث الذي ذكرت في المريض، فما بال غير المريض؟ 

قلت: إذا عم الوباء، وأدى الاختلاط إلى فشو الوباء وانتشار المرض، فذلك في معنى المرض بل وأشد، وفيه أيضًا معنى الخوف، وتخفيف الصلاة في الخوف أمر معلوم.

قالوا: نخشى أن يجر ما في فتواك من التيسير بعض الناس إلى أخذ التساهل في أمور الدين. 

قلت: هذا الذي بينته يتعلق بأمر فرعي في صلاة من الصلوات العارضة، والعوارض مبناها على التيسير، فإذا زالت العوارض عادت الصلاة إلى أصلها من الإقامة والمحافظة على ما قدمت في بداية المقال، فلا تشددوا على الناس في العوارض والنوازل، وكونوا سمحين رفقاء بإخوانكم، ميسيرين غير معسرين، ومبشرين غير منفرين.

قالوا: لعل أصحاب الأغراض الفاسدة والأهواء الزائغة يستغلون بيانك ويسخرونه لتحريفاتهم وآرائهم الزائغة، 

قلت: لا يهمنكم شأنهم، فإني لا أخاطبهم أبدا ولا أعيرهم أي اهتمام، وإنما أكتب للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويخشون ربهم، وأما المنافقون الفاسقون فلا رادع لهم ولا وازع، وقد أدخلوا التحريفات في أصول هذا الدين وكلياته بله فروعه وجزئياته، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، وما يضل به إلا الفاسقين" (سورة البقرة الآية 26)، و"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" (سور آل عمران الآية 7).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين