للصائم فرحتان

 

جاء في الصحيحين أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه).

مهما كتب الكاتبون عن الصوم، ومهما جالت الأقلام في نواحيه المختلفة فإن موضوعه سيظل جديداً، وسيظل الحديث عنه يحلو ويعذب كلما أقبل شهر رمضان المعظم، وكلما أشرقت طلعة أيامه المباركة.

شرع الصوم في السنة الثانية من الهجرة ومع ذلك فإن العلماء والكتَّاب لم يوفوه كل ما يستحقه من التجلية والبيان، ولم يصلوا إلى استقصاء فضائله، واستيعاب أسراره وفوائده، ولم يزالوا يتحدثون عنه وينشرون مزاياه ومحاسنه في كل عام، ولن يستطيعَ أحدٌ من هؤلاء جميعاً، مهما كانت منزلته من العلم، ودرجته من العرفان، أن يدَّعي أنه قد أحاط علماً بكل ما للصوم من خصائص، أو أنه قد ألمَّ بجميع المقاصد الدينية أو الاجتماعية التي شرع من أجلها.

وهذا مما يشهد للدين الإسلامي بالحيوية والقوة، وسداد الأحكام وسلامة التعاليم، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وغناه بالتشريعات الحكيمة التي تكفل سعادة الخلق، وتضمن راحة البشرية.

وإنَّ من أعظم فضائل الصوم أنه يتميز عن غيره من بقية العبادات بخاصية لا توجد في سواه، وهي أنه يُنسب إلى الله تعالى، وأنه يعطي عليه من الثواب بغير حساب ولا تقدير، ويشهد لهذا قول الله تعالى فيما حكاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: (كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به).

أما أنه ينسب إلى الله تعالى، ويضاف إليه مع أن سائر العبادات تنسب إليه جل شأنه، فإن ذلك لمعانٍ كثيرة توجد في الصوم، ولا توجد في غيره: وقد كثر القول في هذه المعاني من الفقهاء وأهل السلوك وغيرهم، وذكروا فيها وجوهاً كثيرة، ومن أحسن ما قالوا في ذلك: أنَّ الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها، لله تعالى، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام؛ لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب، وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام؛ وأما الصلاة، فإنه وإن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول، فلا يجد المصلي مشقة في فقد الطعام والشراب في صلاته، بل قد نُهي أن يصلي ونفسه تشتاق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكِّن نفسه، ولهذا أمر بتقديم العَشاء على الصلاة، ونقل عن طائفة من العلماء إباحة شرب الماء في صلاة التطوع، وقيل: إن ابن الزبير رضي الله عنهما كان يفعله في صلاته؛ وهذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله.

فيجد الصائم مشقة في فقد هذه الشهوات وتتوق نفسه إليها، وإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله عزَّ وجل، في موضع لا يطلع عليه إلا الله، كان ذلك دليلاً على صحة الإيمان، وإخلاص العبادة لله تعالى، فإنَّ الصائم يعلم أن له رباً يطلع عليه في خلوته، وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه، وامتثل أمره، واجتنب نهيه، خوفاً من عقابه، ورغبة في ثوابه، فشكر الله تعالى له ذلك، ونسب لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله.

يضاف إلى هذا أن الصيام سرٌّ بين العبد وربه، لا يطلع عليه غيره، لأنه مُركَّب من نيَّة باطنة لا يطلع عليها إلا الله تعالى، وترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها في العادة، ولذلك قيل: إنه لا تكتبه الحَفَظة: وقيل: إنَّه ليس فيه رياء، والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سراً بينهم وبينه، وأهل محبته كذلك يحبون أن يعاملوه سراً بحيث لا يطلع على معاملتهم سواه.

وأما أن الله سبحانه يجازي على الصوم بغير حصر ولا حساب، فلأن الصيام من الصبر؛ وقد قال الله تعالى: [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10}. وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمَّى شهر رمضان: شهر الصبر، وأنه قال: (الصوم نصف الصبر).

 والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة؛ وتجتمع الثلاثة في الصوم: فإن فيه صبراً على طاعة الله، وصبراً عما حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبراً على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش، وضعف النفس والبدن؛ وهذا الألم ناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه، كما قال تعالى في المجاهدين:[ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ] {التوبة:120} .

وفي صحيح ابن خزيمة: (شهر رمضان شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة) وورد مرفوعاً: (الصيام لله، لا يعلم ثواب عمله إلا الله عزَّ وجل ).

ومن المعروف عند العلماء أنَّ مضاعفة الأجر للأعمال تكون لأسباب كثيرة منها شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل، كالحرم، ولذلك يضاعف ثواب الصلاة في مسجدي مكة والمدينة، كما جاء في الحديث الصحيح: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام)

ومنها شرف الزمان كشهر رمضان، وعشر ذي الحجة، كما أشار إلى ذلك حديث سلمان الفارسي في فضل شهر رمضان حيث يقول: ( من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه).

ومنها شرف العامل عند الله، وقربه منه، وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم، وأعطوا كِفْلين من الأجر، وعلى هذا فقد جاوزت المثوبة على الصوم قانون الحساب والتقدير، فإنه لما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال، كان صيام شهر رمضان مضاعفاً على سائر الصيام، لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فَرَضه الله تعالى على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني عليها.

كذلك مما يتميز به الصوم عن غيره من بقية الأركان، ما أشار إليه الحديث الذي معنا، وهو أن الصائم له فرحتان عظيمتان: فرحة في الدنيا، وفرحة في العقبى، فأما فرحته في الدنيا فإنها تكون عند فطره، وذلك أن النفوس البشرية مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من الطعام والشراب وغيرهما، ومفطورة على حب ذلك حباً شديداً، فإذا حيل بينها وبينه، ومنعت منه في وقت من الأوقات ثم أبيح لها بعد ذلك، فرحت بهذه الإباحة فرحاً شديداً، لأن أحب شيء إلى الإنسان ما منع منه، خصوصاً إذا كانت الحاجة شديدة إليه، وهذا الحب طبيعة في النفوس فتفرح به حسب طبعها فإذا انضمّ إلى ذلك أنه كان محبوباً عند الله كان محبوباً شرعاً.

وهذه الحالة تنطبق تمام الانطباق على الصائم؛ فإذا كان الله تعالى قد حرم عليه في نهار الصيام تناول هذه الشهوات، فقد أذن له فيها في ليل الصيام، فهو تارك لشهواته بالنهار لله، تقرباً إليه وطاعة له، ومبادر إليها في الليل تقرباً وطاعة أيضاً، فما تركها إلا بأمره، ولا عاد إليها إلا بأمره، فهو مطيع له في الحالين.

وإنه لينشأ عن ذلك كثير من الخصال الشرعية المحبوبة، وقد أشارت إلى بعضها الروايات والآثار، فقد ورد: (إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها). وقد ورد أن للصائم عند فطره دعوة ما ترد، وأنه إن نوى بأكله وشربه، تقوية بدنه على القيام والصيام، كان مثاباً، كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهار التقوِّي على العمل كان نومه عبادة.

قالت حفصة بنت سيرين: قال أبو العالية: (الصائم في عبادة ما لم يغتب أحداً، وإن كان نائماً على فراشه).

فكانت حفصة تقول: ( يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي). فإذا تحقق كل هذا الذي ذكرناه، كان معنى فرح الصائم عند فطره ـ كما ذكر الحديث ـ ظاهراً واضحاً، وكان توفيقه إلى ذلك من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله تعالى:[قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] {يونس:58}.

وأما فرحه في الآخرة يوم يلقى ربه، فذلك لا يحتاج إلى كثير من الشرح والبيان؛ فإنه سيجد عند الله ثواباً عظيماً مدخراً له، هو أحوج ما يكون إليه في هذه الحالة، كما قال تعالى: [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا] {المزمل:20}. وقال: [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا] {آل عمران:30}. وقال:  [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7} .

وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الثواب على الصوم لا حصر له ولا عدد، وأن الله يكافئ الصائم بغير حساب؛ ولكن هذا يتفاوت بتفاوت القصد من الصوم، فإن الصائمين على طبقتين: إحداهما من ترك طعامه وشهوته لله تعالى، يرجو عنده عوضاً عن ذلك من الثواب في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يخيب له سعياً، ويعطي في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب وغيرهما.

ورد عن يوسف صاحب أبي حنيفة أنه قال: (بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة: ( يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم وجفَّت بطونكم، كونوا اليوم في نعيمكم وتعاطوا الكأس فيما بينكم، وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية).

والطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عما سوى الله فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، وينصرف عن ملذاتها ومفاتنها، فهذه الطبقة ثوابها  أعظم، وجزاؤها أجزل، لأنها محضت العبادة لذات الله تعالى، ولم تنظر فيها إلى عوض أو بدل، وهذه يكون عيد فطرها يوم لقاء ربها، وفرحها برؤيته.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

مجلة لواء الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين