تأملات في زمن الوباء #Corona

لماذا كتاب (الأيام الأخيرة من حياة محمد) صلى الله عليه وسلم؟

من محاسن المحن: أنها تكشف لك معادن الناس، وكما قال الله تعالى في المنافقين: ﴿ولتعرفنهم في لحن القول﴾، فإن المحن تسفر عن وجوه أناس يظهرون لك اللين والنصيحة بينما تنطوي نفوسهم على خلاف ذلك.

وكتاب (الأيام الأخيرة من حياة محمد) صلى الله عليه وسلم للكاتبة التونسية (هالة وردي) صدر في باريس سنة 2016م، ونال حظه يومها من الكلام، ولكنه اليوم، في لبنان بخاصة، عاد الكلام حوله إلى الواجهة بقوة بعد أن أوصت إحدى المسؤولات الكبيرات في (التيار الوطني الحر) في لبنان بقراءته أثناء العزلة القسرية التي فرضها الوباء على الناس. وقد تلقت ما تستحق من التعليقات. إلا أن أحد الأعزاء على قلبي وهو أخي الأستاذ الداعية الموهوب (ممتاز بحري) حفظه الله تعالى، وحفظ الجميع من هذا الوباء، طلب مني رأيي في الموضوع مرسلا لي مقطعا من مقابلة أجريت مع المؤلفة على قناة فرنسا 24. فلم أجد بدا من الاستجابة لطلبه. فأقول وبالله التوفيق:

ابتُلي الإسلام، ولا يزال، بفئام من المشككين الذين يتبعون أسلوب (التقية) في مواجهته، فهم إذا نالوا منه بالمباشر فإن كلامهم حتما لن يلق رواجا وقبولا، ولن يؤدي دوره المنشود، ألا وهو تشكيك المسلمين بدينهم. لذلك يتبعون أسلوبا ملتويا، يغلفونه بالحرص على الدين وعلى التاريخ وتنقيته من الشوائب التي علقت به.

فمنذ البدايات الأولى أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أقوام مترفين، متنعمين، يدعون إلى الاكتفاء بالأخذ بالقرآن الكريم، وترك السنة النبوية لأنها أقوال بشر، وأن هذه الأقوال لم تكتب إلا بعد فترة طويلة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذا الأمر بابا للطعن، وحقيقة دعوتهم أنهم يحملون الناس على ترك العبادات بأنواعها، لأنها كلها فصلتها وبينتها السنة النبوية، وهكذا يتحول الإسلام إلى مجرد (مشاعر وجدانية) لا علاقة لها بالواقع المعاش.

هذه الدعوة الباطلة حذرنا منها نبينا صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي أخرجه الإمام أبو داود في سننه، عن المقدام بن مَعْدي كَرِبَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه، ألا يوشِكُ رَجُلٌ شَبعانُ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وَجَدتُم فيه من حلالِ فأَحِلُّوه، وما وجدتُم فيه من حَرَامٍ فحَرِّمُوه،..).

وهذه الدعوة الباطلة سقطت بتحذير النبي صلى الله عليه وسلم منها، فقوله: (أوتيت الكتاب ومثله معه) دلالة على السنة النبوية، التي قام علماؤنا عبر التاريخ بحفظها وتنقيتها من كل دخيل. والمقام الآن لا يتسع لذكر ذلك، ولكن يكفي أن نعلم أن علم الإسناد والرواية وعلم الرجال، هي علوم ابتكرها علماؤنا لحفظ السنة، فكانت مفخرة التاريخ والبشرية والبحث العلمي الرصين.

وقوله: (ألا يوشِكُ رَجُلٌ شَبعانُ على أريكته)، وفي رواية: (وهو متكئ على أريكته)، قال في شرح ذلك الخطابي في معالم السنن: «وإنما أراد بهذه الصفة أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم ولم يغدوا ولم يروحوا في طلبه في مظانه واقتباسه من أهله».

وهذا حال بعض من نسب نفسه اليوم إلى الفكر والتجديد والثقافة، وقد أطلق عليهم الصديق الدكتور أحمد العلمي لقب (مثقفو البروج العاجية).

ونحن إذا عرضنا هذه المقولة على كتاب الله الذي يدعي أصحابها الغيرة عليه، وجدنا فيه خلاف ما ذهبوا إليه، قال الله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾.

وتمضي الأيام، وتستمر المحاولات، وتفشل كلها كما فشلت سابقاتها، ويبقى الإسلام شامخا، محفوظا بحفظ الله تعالى، ولن تكون محاولة الكاتبة التونسية (هالة وردي) الأخيرة، كما أنها ليست الأولى من نوعها، فجل ما كتبته يدور حول فكرة واحدة، وهي: التشكيك بصدق وأمانة وصحة إيمان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، مستغلة أكثر مرحلة وجدانية عند الأمة وهي مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثم وفاته، لتنسج حولها تلك (التراجيديا) المحزنة، التي تجعل من كل حدث حصل في هذه الفترة نوع استغلال من الصحابة الكرام سعيا نحو السلطة، لذلك لم يدفنوه صلى الله عليه وسلم حتى رتبوا أمورهم السياسية. وبهذا تهدف إلى الطعن في الإسلام كله الذي بلغونا إياه، فيتحول الفقه والتاريخ إلى شهوات للسلطة. وهذا تماما ما يروج له مؤرخوا العصر الأوروبي الحديث، من مثل (كريستوف بيكار) صاحب كتاب (بحر الخلفاء).

إذن هذه الفكرة ليست من عندها وإنما هي من أفكار المستشرقين الذين تعيش هي في حاضرتهم، باريس، من أمثال (ماسينون) قديما و (بيكار) حديثا.

لذلك قلت إن هذه الشنشنة ليست بجديدة، وليس بمستغرب أن يتلطى خلفها بعض الحاقدين على الإسلام فينصحون بقراءة كتابها، ويكفينا فيها وفي كتابها شهادة عالم من بلادها، وأهل مكة أدرى بشعابها، وهو المؤرخ والباحث التونسي هشام جعَيِّط الذي اعتبر كتاباتها «تحايلا وتزويرا للتاريخ» واصفا كتابها (الخلفاء الملعونون) «رواية تاريخية ذات منحى أيديولوجي لا يمكن قبولها باسم حرية الرأي والتعبير» وهو ما ينطبق أيضا على كتابها عن آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين