الوجه المظلم لفيروس كورونا (كوفيد 19)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

(1-) في الطواعين والأوبئة وجهان: الوجه الأول: ظاهر وهو انتشار المرض وكثرة الموتى وهو خطير. والوجه الثاني: وهو توقف الحياة والشلل التام، وفساد الزرع، وغلاء الأسعار وزيادة الفقر وتفشي الجوع..، وغيرها، وقد يكون أخطر من الأول إذاانتهى إلى مجاعة شاملة لا تبقي ولا تذر.

(2-) فالوجه المظلم لفيروس كورونا تبرز أهمعلاماته في البنود التالية وهي:

1- توقف الحياة، وشلل الاقتصاد، وتعطل الصنائع، وفساد الزرع، ونحو ذلك. كما نرى ذلك واضحاً في الدول التي استفحل فيها (فيروس كورونا) وانتشر بقوة، مما أدى إلىمنع التجوال وتعطيل العمل والحركة والحجر على الشعب بأكمله كما هو الحال في الأردن، وتونس، وإيطاليا، وإسبانيا..، وغيرهم. وحتى عندما بدأ يشتدّ انتشار الفايروس في الولايات المتحدة – وهي الأغنى والأقوى في العالم - فإنّ أكثر من (3،3مليون) فقدوا أعمالهم وطلبوا المعونة العاجلة من الحكومة!. لاحظ في البداية فكيف إذا عمّ وشمل الولايات بأكملها وامتدّ زمنه كيف سيكون الحال؟

2- ثم غلاء الأسعار والاحتكار وقشع التجار.وحدّث عن هذا ولا حرج وخاصة في مثل هذه المحن.

3- ثم التقشف ونفاد القوت لدى الناس. ولقد حدّثني من أثق به أن بعض العائلات العربية التي تعمل في الدول الأوروبية، بعد أن حُجر عليها، ومنعت من الحركة والعمل، وبعد أيام من الحجر عدمت القوت ونفدت النفقة لديها، ومكثت أياما وهي لا تجد ما تقتات عليه، حتى أسعفها بعض أهل الخير!. ورأينا أيضاً ازدحام الناس في بعض الدول العربية من أجل الحصول على بعض أرغفة من الخبز، بعد أن فُكّ منع التجوال لساعات قليلة.. وهذا في أول الوباء فيكيف يكون الحال لو طال به الزمن وعدّ شهوراً، بل أعواماً؟!.

4- ثم يكون الفقر الشديد والجوع الأكيد.

5- ثم تنتهي الحالة – وخاصة إذا اشتدّ الوباءوطال زمنه - إلى مجاعة شاملة تأتي على الحرث والنسل، وتأكل الأخضر واليابس، ومَنْ استقرأ التاريخ يلاحظ – في الغالب – أنه لا يقع وباء أو يعمّ بلاء إلا وينتهي إلى مجاعة شديدة يصحبها الفقر والجوع والغلاء وسائرالأمراض والأسقام الأخرى كالجدري وغيره،حتى يهلك الناس ويكثر الموتان فيهم.

(3-) وقد يستمرّ الوباء وتشتدّ المجاعة حتى يأكل الناس الميتة والدم والكلاب والقطط ونحو ذلك، بل قد تحملهم إلى أن يأكل الناس بعضهم بعضاً.. وشاهد هذا من التاريخ: 

(4-) ما ذكره العلامة المؤرخ المقريزي في كتابه ""إغاثة الأمة في كشف الغمة" (ص98) وهو يحدثنا عن وباء شديد وقع (سنة 457ه وما بعدها) في زمن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (ت487ه) يُعرف باسم (الشدّة العظمى) قال: "الغلاء الذي فحش أمره، وشنع ذكره، وكان أمده سبع سنين.. فنزع السعر، وتزايد الغلاء، وأعقبه الوباء حتى تعطّلت الأراضي من الزراعة، وشمل الخوف، وخيفت السبل براً وبحراً، وتعذّر السير إلى الأماكن.. واستولى الجوع لعدم القوت، حتى بيع رغيف خبز بخمسة عشر ديناراً..، وأُكِلَت الكلاب والقطط حتى قلّت الكلاب. فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير!، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضاً!. وتحرّز الناس، فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتهم ومعهم سلب وحبال فيها كلاليب، فإذا مرّ بهم أحد ألقوها عليه، ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه!. ثم آل الأمر إلى أن باع المستنصر كل ما في قصره من ذخائر وثياب وأثاث وسلاح وغيره، وصار يجلس على حصير، وتعطّلت دواوينه، وذهب وقاره، وكانت نساء القصور تخرجن ناشرات شعورهن تصحن: (الجوع! الجوع!) تردن المسير إلى العراق، فتسقطن عند المصلّى، وتمتن جوعاً.. وجاءه الوزير يوماً على بغلته، فأكلته العامة – أي أكلت البغلة – فشنق طائفة منهم!، فاجتمع عليهم – أي على المشنوقين – النسا فأكلوهم! ". باختصار وتصرف.

(5-) وهذا وباء آخر أشدّ وأنكى من الأول وقع في زمن السلطان العادل سيف الدين الأيوبي (سنة 596ه) بسبب توقف النيل عن الزيادة وقصوره عن العادة. قال المقريزي عن هذه المحنة في كتابه "إغاثة الأمة في كشف الغمة" (ص103،104،105): "ثم وقع الغلاء.. فتكاثر مجيء الناس من القرى إلى القاهرة من الجوع، ودخل فصل الربيع، فهبّ هواء أعقبه وباء وفناء، وعُدِم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع!، فكان الأب يأكل ابنه مشوياً ومطبوخاً، والمرأة تأكل ولدها، فعوقب جماعة بسبب ذلك، ثم فشا الأمر وأعيا الحكام، فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخذة أو شيء من لحمه، ويدخل بعضهم إلى جاره، فيجد القِدر على النار، فينظرها حتى تتهيأ، فإذا هي لحم طفل، وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت. ووجدت لحوم الأطفال بالأسواق والطرقات مع الرجال والنساء مختفية.. ثم تزايد الأمر حتى صار غذاء الكثير من الناس لحوم بني آدم بحيث ألفوه!،

وكان أهل القرى قد فنوا، حتى أن القرية التي كان فيها خمسمائة نفس لم يتأخر بها سوى اثنين أو ثلاثة.. وجافت الطرق كلها، بمصر والقاهرة، وسائر دروب النواحي بجميع الأقاليم، من كثرة الـمَـوَتان.. وكانت الأزقة كلها بالقاهرة ومصر لا يرى فيها من الدور المسكونة إلا القليل.. وكان الواحد من أهل الفاقة إذا امتلأ بطنه بالطعام بعد طول الطوي سقط ميتاً، فيدفن منهم كل يوم العدة الوافرة، حتى أن العادل قام في مدّة يسيرة بمواراة نحو (220000) مائتي ألف وعشرين ألف ميت!، فإن الناس كانوا يتساقطون في الطرقات من الجوع، ولا يمضي يوم حتى يؤكل عدّة من بني آدم.. فلما أغاث الله الخلق بالنيل، لم يوجد أحد يحرث أو يزرع.. واستمر أكل لحوم الأطفال.. 

وتعطّلت الصنائع، وتلاشت الأحوال، وفنيت الأحوال والنفوس حتى قيل: سنة سبع افترست أسباب الحياة.. وعدمت الحيوانات جملة، فبيع فرّوج بدينارين ونصف،.. واستمر النيل ثلاث سنين لم يطلع منه إلا القليل.." باختصار وتصرف.

(6-) وذكر ابن الجوزي في "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" (8/69) في أحداث (سنة423ه): " ووردت الأخبار بما كان من الوباء والموت في بلاد الهند، وغَزْنَة، وكثير من أعمال خراسان، وجُرْجان، والّريّ، وأصبهان، ونواحي الجبل، والموصل وأن ذلك زاد على مجاري العادة!. وخرج من أصبهان في مدة قريبة أربعون ألف جنازة!. وكان ببغداد من ذلك طرف قوى، ومات من الصبيان، والرجال، والنساء، بالجُدَري ما زاد على حدّ الاحصاء، حتى لم تخل دار من مصاب، واستمر هذا الجدري في حزيران وتموز وآب وأيلول وتشرين الأول والثاني، وكان في الصيف أكثر منه في الخريف. وجاء كتاب من الموصل أنه مات بالجدري أربعة آلاف صبي!".

(7-) ووقع بلاء عظيم في أحداث (سنة696ه) في زمن السلطان العادل كُتْبُغا بن عبد الله المنصوري (ت702ه) – من ملوك دولة المماليك – حيث وقع غلاء في سنة ست وتسعين وستمائة قال المقريزي في "إغاثة الأمة في كشف الغمة"(ص106،107،108،109): "ففي بلاد بَرْقة – مدينة تقع بين الاسكندرية وإفريقية وبينهما مسيرة شهر – لم تُمطر، وجفّت الأعين منها، وعمّ أهلها الجوع لعدم القوت، فخرج منها نحو من ثلاثين ألف نفس بعيالهم وأنعامهم يريدون مصر. فهلك معظمهم جوعاً وعطشاً، ووصل اليسير منهم في جهد وقلّة... فعند إدراك الغلال هبت ريح سوداء مظلمة من نحو بلاد برقة هبوباً عاصفاً، وحملت تراباً أصفراً وكسا زروع تلك البلاد،.. ففسدت بأجمعها. وعمّت تلك الريح والتراب إقليم البحيرة والغربية وإقليم الشرقية، ومرت إلى الصعيد الأعلى، فهاف الزرع – أي عطش – وفسد الصيفي من الزرع.. وأعقب تلك الريح أمراض وحميات عمّت سائر الناس، فنزع سعر السكر والعسل وما يحتاج إليه المرضى، وعدمت الفواكه، وبيع الفروج بثلاثين درهماً، والبطيخة بأربعين.. وأقحطت بلاد القدس والساحل ومدن الشام إلى حلب.. وأقحطت مكة..، فرحل أهلها حتى لم يبق بها إلا اليسير من الناس. ونزحت سكان قرى الحجاز، وعُدم القوت ببلاد اليمن واشتدّ الوباء، فباعوا أولادهم في شراء القوت!، وفرّوا.. فالتقوا بأهل مكة وضاقت بهم البلاد، ففنوا كلهم بالجوع إلا طائفة قليلة!.. وقحطت بلاد الشرق، وعدمت دوابهم وهلكت مراعيهم، وأمسك القطر عنهم.. واشتدّ الأمر بمصر، وكثر الناس بها من أهل الآفاق، فعظم الجوع، وانتهب الخبز – [هذا في أول الوباء]- من الأفران والحوانيت، حتى كان العجين إذا خرج إلى الفرن انتهبه الناس فلا يحمل إلى الفرن، ولا يخرج الخبز منه إلا ومعه عدّة يحمونه بالعصي من النهابة، فكان من الناس من يلقي نفسه على الخبز ليخطف منه، ولا يبالي بما ينال رأسه وبدنه من الضرب، لشدّة ما نزل به من الجوع... عظم الوباء في الأرياف والقرى، وفشت الأمراض بالقاهرة ومصر، وعظم الموتان.. ثم أعيا الناس كثرة الموت، فبلغت عدة من يرد اسمه – من الموتى - في الديوان السلطاني، في اليوم – في اليوم الواحد فقط - ما ينف عن ثلاثة آلاف نفس. وأما الطرحاء – أي كثرة الموتى الملقون في الطرقات ولم تسجل في ديوان السلطان – فلم يحصر عددهم بحيث ضاقت الأرض بهم، وحفرت لهم الآبار والحفائر وألقوا فيها، وجافت الطرق والنواحي والأسواق من الموتى، وكثر أكل لحوم بني آدم خصوصاً الأطفال، فكان يوجد الميت وعند رأسه لحم الآدمي، ويمسك بعضهم فيوجد معه كتف صغير أو فخذة أو شيء من لحمه!.. وخلت الضياع من أهلها، حتى أن القرية التي كان بها مائة نفس لم يتأخر بها إلا نحو العشرين، وكان أكثرهم يوجد ميتاً في مزارع الفول... " انتهى باختصار وتصرف.

(8-) وقال الإمام الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" (22/219،220) في أحداث (سنة597ه): "ونقص النيل، ووقع القحط، وهلك أهل مصر، وكان ذلك من الآيات الكبار..، ودخلت سنة سبع، والبلاء شديد، وأكلوا الجيف ولحوم الآدميين، وجرى ما لا يعبر عنه.

قال الموفق عبد اللطيف: وعدم البيض، ولما وجد بيعت البيضة بدرهم، وبيع فروج بمائة، وبيع مديدة بدينار، والذي دخل تحت قلم الحشرية من الموتى في اثنين وعشرين شهراً مائة ألف وأحد عشر ألفاً، إلا شيئا يسيراً، وهو نزر في جنب ما هلك بمصر والحواضر، وكله نزر في جنب ما هلك بالإقليم، وسمعنا من ثقات عن الإسكندرية أن الإمام صلى يوم جمعة على سبع مائة جنازة، ثم ساق عدة حكايات في أكل لحوم بني آدم!".

(9-) وقال العلامة المؤرخ ابن خلدون في تاريخه "العبر وديوان المبتدأ والخبر" (5/233): وكان الغلاء قد اشتدّ بإفريقية سنة سبع وثلاثين - وخمسمائة - ولحق أكثر أهلها بصقلية وأكل بعضهم بعضاً وكثر الموتان!".

(10-) وقال المؤرخ ابن عذاري المراكشي في كتابه "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب" (2/167): "وفي سنة 303، كانت المجاعة بالأندلس، التي شبهت بمجاعة سنة ستين؛ وبلغت الحاجة بالناس مبلغاً لا عهد لهم بمثله؛ وبيع قفيز قمح - بكيل سوق قرطبة - بثلاثة دنانير. ووقع الوباء في الناس، وكثر الموتان في أهل الفاقة والحاجة، حتى كاد أن يعجز عن دفنهم".

(11-) وذكر العلامة ابن كثير في تاريخه "البداية والنهاية" (15/ 150) في أحداث (سنة331ه) فقال: "قال ابن الجوزي: وفي آذار من هذه السنة غلت الأسعار حتى أكل الناس الكلاب، ووقع الوباء في الناس..".

وفي كتب التاريخ ودواوين الرجال والطبقات شواهد كثيرة تدل على ذلك أيضاً.

(11-) لذا أنصح الناس - في مثل فيروس كورونا - بالالتزام بالتوجيهات التي نصح بها الأطباء والانضباط بالتعليمات التي فرضتها الجهات المختصة، لأن الوباء إذا انتشر وعم لا يميز بين عربي أو عجمي، ولا يفرق بين كبير أو صغير، ولا يهاب قوياً، ولا يخشى غنياً، بل لا يرحم ضعيفاً، ولا مريضاً، ولا امرأة أو شيخاً كبيراً، بل يأكل الجميع، وثم هو لا يعرف الحدود ولا السدود، ويدخل من غير استئذان أو خوف من أحد.. 

(12-) فعلى الناس الالتزام التام والوقوف عند الأوامر، ولا ينتظروا - إذا انتشر الوباء - المساعدة من أحد، وخاصة من الدول الغنية، فهي اليوم منشغلة بنفسها، بعد أن استشرى فيها الوباءوتوقفت فيها الحياة الصناعية بشكل كامل إلا ما يتعلق بالضروريات، كالأدوية الطبية والسلع الغذائية واحتكرت ما تصنعه لنفسها فقط وهو أقل من حاجتها، ثم سمعنا في هذه الدول صرخالجوعة وألم المرضى... فكيف يكون الحال بالدوال الفقيرة - والتي تعيش على المعونات والهبات التي تتحصل عليها من الدول الغنية - وقد عمّ الوباء في شعوبها وطم؟

(13-) فالأمر خطير جدّاً جداً، ولا وقت للهرج ولا للمزاح، ولا مكان للتهاون أو التباطؤ، فعلى الجميع أخذ أقصى درجات الوقاية، والاهتمام بإجراءات السلامة، والالتزام – كل الالتزام – بتعليمات وزارة الصحة والجهات المختصة، وعدم التجمع، وضرورة المكث في البيوت، وتقليل الاختلاط بالآخرين إلا للضرورة. حتى نتمكن من حجر المرضى ومحاصرة الوباء، ومنعه من الزيادة أو الانتشار، فإذا ما نجحنا في ذلك تمكن الناس من العودة إلى حياتهم وممارسة أعمالهم. وإلا وقع المحذور، وعندئذ لم ولن ينفع الندم! نسأل الله السلامة.

وفي الختام نتمنى السلامة للجميع، والله أسأل أن يرفع عن المسلمين الوباء والبلاء وسائر الأسقام. (اللهم آمين).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين