الأسباب

قالوا: ما الأسباب؟ 

قلت: هو جمع سبب، والسبب معناه الطريق، وهو ما يؤدي إلى حاجة أو هوى، أو ما يتوصل به إلى غاية من الغايات، قال الله تعالى: "إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا" (سورة الكهف الآية 84)، قال ابن كثير في تفسيره: "أي الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك"، ومنه قول فرعون لهامان: "لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات" (سورة غافر الآية 37)، أي طرق السماوات وأبوابها ومنازلها، ومنه الأسباب التي هي الوسائل إلى المسببات والمقاصد، ككون الأكل سببا للشبع، والشرب سببا للري، والنكاح سببا للتوالد؟

قالوا: بين لنا العلاقة بين الأسباب ومسبباتها والوسائل وأهدافها بيانا شافيا، 

قلت: اعلموا أن الأسباب والوسائل نوعان، قالوا: ما هما؟ قلت:

النوع الأول: الأسباب التي خلقها الله بصفته ربًّا للعالمين، فمهَّد الطرق إلى مقاصدهم وحاجاتهم في الدنيا رحمة بهم ونعمة منه وفضلا، حتى يكونوا في هذه الحياة على علم وبينة، وخبر ورشد، فجعل لهم مكاسب للرزق، ومآتي للجوع والشبع، والظمأ والري، والمرض والشفاء، والتناسل، والحياة، والموت، وهذه الأسباب هي التي تدعى الأسباب المادية أو الظاهرة، قال الله تعالى لآدم وزوجه عليهما السلام: "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما" (سورة البقرة الآية 35)، وقال تعالى لمريم عليه السلام: "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا" (سورة مريم الآية 25).

والنوع الثاني: الأسباب التي عيَّنها الله بصفته إلها، ككون الإيمان والعمل الصالح سببا لرضوان الله والدخول في الجنة، والكفر والشرك والنفاق سببا لسخط الله والدخول في النار، وهذه الأسباب تسمى الأسباب المعنوية أو الباطنة، وهي شرائع الله تعالى، وهي أوامره ونواهيه.

قالوا: وهل للأسباب تأثير ذاتي؟ 

قلت: لا، ما هي إلا علامات، والمؤثر هو الله عز وجل، فالأكل لا يشبع، والماء لا يروي، وإنما الله هو الذي يطعم ويسقي، والأعمال الصالحة والسيئة كذلك علامات، والفاعل هو الله العلي القدير، فيحرم على العباد أن يتوكلوا على الأسباب أو الأعمال، بل الواجب عليهم أن يتبعوا سنن الله تعالى في تحري الأسباب الظاهرة والباطنة واقتفاء المسالك المادية والمعنوية، ولا يتوكلوا إلا على ربهم معتصمين بحبله المتين وملتجئين إليه التجاءا، ومن ثم وجبت الاستعانة به ودعاؤه لكل صغير وكبير، قال تعالى: "وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله" (سورة آل عمران الآية 159)، وأخرج الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال قال رجل يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل قال اعقلها وتوكل.

قالوا: أي النوعين أخطر شأنا وأجل؟ 

قلت: الثاني، وهي الأسباب الباطنة المعنوية، وهي أوكد وأثبت، فيفرض على العباد أن يتعلموها ويطبقوها تطبيقا دقيقا، ولايتكاسلوا أو يتغافلوا عنها، ولا يتهاونوا بها تهاونا.

قالوا: وهل يصح إهمال النوع الأول؟ 

قلت: لا، وإن أنبياء الله ورسله عليهم السلام وأتباعهم كانوا أحرص الناس على الالتزام بالنوع الأول، فكانت لهم معايش، وكانوا يتداوون إذا مرضوا، وكانوا يراعون سنن الله في الزراعة والتجارة والحرب والسلم والسفر والإقامة معتنين بها مهتمين.

قالوا: وهل يستثنى مما ذكرت شيء؟ 

قلت: نعم، إذا شغل الإنسان بالنوع الأول واضطر إلى تفريط في الثاني عفا الله عنه وتكفل بشؤونه.

قلت: وهنا تزل الأقدام، فمن الناس من يهمل النوع الثاني بتاتا أو يقصر فيه جهلا أو تغافلا أو تكاسلا أو عصيانا أو جرأة على الله تعالى، فهذا يحرم، فإذا كان للإنسان أهل وأولاد وقضى أوقاته في الصلوات النافلة وشغل عن الاكتساب لهم وأداء حقوقهم كان آثما، وكذلك من تعمد التعرض للأخطار من المرض وإهلاك النفس والمال كان خاطئا مجرما.

قالوا: أخبرنا عما إذا استحال الجمع بين النوعين أو اعتاص اعتياصا. 

قلت: هذا سؤال وجيه، وفيه تفصيل، فإن تعرض المسلم للقتل أو تعذيب النفس أو ذهاب المال من أجل الإيمان بالله تعالى، رخص له أن ينطق بالكفر وهو مطمئن بالإيمان، قال تعالى: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولٰكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم" (سورة النحل الآية 106)، والأولى للأقوياء هنا أن يختاروا العزيمة، ويلحق بالإيمان سائر أصول الدين من الشكر والصدق والعفاف والأمانة.

قلت: وإن أدى العمل بفروع الدين الكبرى من الصلاة والصيام والصدقة والحج، وفروع الدين الصغرى من الطهارة واتجاه القبلة إلى نقصان في النفس أو الصحة أو المال رخص له ببعض التخفيف في تلك الفروع، فالله يريد اليسر بعباده، ولا يريد بهم العسر، ومن ثم شرع لهم التيمم، وقصر الصلوات، والفطر في رمضان للمريض والمسافر، والامتناع عن حضور الجمع والجماعات للمريض والمسافر وغيرهما من ذوي الحاجات.

قالوا: فما ترى في الأوبئة إذا أدى اجتماع الناس فيها إلى تفشيها هل يرخص لهم عدم حضور الجمع والجماعات؟ 

قلت: بل يجب عليهم الانقطاع والتبتل، لأن تعريض المسلمين للهلاك والمرض إثم كبير، وتخفيف الصلاة أمر مشروع، فلا بد من الجمع بينهما، أخرج أبو داود وغيره عن جابر رضي الله عنه، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات. فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده.

قلت: اعلموا أن العوارض والنوازل مبناها على التخفيف، فيسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، ويجب عليكم في هذا الوضع الطارئ العارض أن تجعلوا بيوتكم قبلة وتنعزلوا فيها انعزالا، وتقضوا أوقاتكم في الصلاة والتلاوة والذكر والاستغفار وسائر أعمال الخير وغيرها من الأشغال المباحة، حتى تنجلي البلية انجلاء، فإذا انجلت اشكروا ربكم وأقيموا الصلاة محافظين على سننها وآدابها وتمسكوا بدينكم الكامل عاضين عليه بالنواجذ.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وارحمنا وعافنا وارفع عنا الوباء والبلاء برحمتك يا أرحم الراحمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين