تشظي الفتوى

يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله عن الفتوى أنها من الفُتوة أي: القوة، وهي مثل: غَنِيَ فلان أي: صار غنياً بذاته، وأغناه غيره أمدَّه بالغنى، كذلك أفتاه يعني: أعطاه قوة في الحكم والحجة.

ويقول: إن الإفتاء يحتاجه الناس من الذي يعلم، ولذلك جاءت كلمة «يستفتونك» أكثر من مرة في القرآن الكريم، لأن الذين يطلبون الفتوى هم الذين يحتاجون إلى توضيح لأمر ما؛ لأنهم مشغولون بقضية الإيمان، ولذلك فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحذرنا من الذين يحاولون إلقاء الفتاوى، ويحذر كل مؤمن من أن يستمع لكل فتوى.

وهكذا ينبغي أن تكون الفتوى منضبطة تأخذ بأيدي الناس وتعضدهم وتقويهم وتساعدهم، وهم أحوج ما يكونون إليها.

غير أننا وجدنا في الآونة الأخيرة، وفي أزمة وباء كورونا على وجه التحديد، وقرار السلطات المختصة القاضي بإغلاق المساجد، وإيقاف الجمع والجماعات إلى حين انتهاء الوباء، أقول: وجدنا تشظي الفتاوى من علمائنا الأجلاء، فكلٌ أدلى بدلوه، وأصدر فتوى في هذا الأمر الخطير، الأمر الذي أدى إلى نوع من التضارب في أمر صلاة الجماعة، وصلاة الجمعة على وجه التخصيص .. هل نصليهها جمعة مع الأسرة؟ أم نصليها ظهرا بجماعة؟ .... الخ

ويقف عامة الناس حائرين مبهوتين مضطربين جراء المسارعة في الفتوى، واختلاف آراء المفتين في مثل هذه المسألة.. وكان الجدير بعلمائنا - ونحن في عصر الفضاء المفتوح، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي - التوقف عن الفتوى الفردية، وفي هذا سلامة له من إثم شيوع الفوضى والحيرة في عقول الناس، فمن قال برأيه فقد أخطأ وإن أصاب .. أخطأ لأنه ينال الإثم الناتج عن حيرة الناس، فلا يدرون بأي رأي من آراء المفتين يأخذون، وقد يقع التنازع بينهم الأمر الذي يؤدي إلى اختلاف القلوب.

يقول الإمام مَالِك: الْعَجَلَةُ فِي الْفَتْوَى نَوْعٌ مِنَ الْجَهْلِ وَالْخَرْقِ، وَكَانَ يُقَالُ: التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا عَجِلَ امْرُؤٌ فَأَصَابَ وَاتَّأَدَ آخَرٌ فَأَصابَ إِلَّا كَانَ الَّذِي اتَّأَدَ أَصَوْبَ رَأْيًا، وَلَا عَجِلَ امْرُؤٌ فَأَخْطَأَ وَاتَّأَدَ آخَرٌ فَأَخْطَأَ إِلَّا كَانَ الَّذِي اتَّأَدَ أَيْسَرَ خَطَأً

روى البيهقي بسند جيد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: التَّأَنِّي مِنَ اللهِ , وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ

قال الإمام المناوي: التأني من الله تعالى أي مما يرضاه ويثيب عليه، والعجلة من الشيطان أي هو الحامل عليها بوسوسته لأن العجلة تمنع من التثبت والنظر في العواقب

قال الشاعر

لَا تَعْجَلَنَّ لِأَمْرٍ أَنْتَ طَالِبُهُ ... فَقَلَّمَا يُدْرِكُ الْمَطْلُوبَ ذُو الْعَجَلِ

فَذُو التَّأَنِّي مُصِيبٌ فِي مَقَاصِدِهِ ... وَذُو التَّعَجُّلِ لَا يَخْلُو عَنْ الزَّلَلِ

ويقول آخر

تأن ولا تعجل لأمر تريده ... وكن راحما للناس تحظ براحم

وما أروع ما قال الشاعر

وما الرأي إلا بعد طول تثبت ... ولا الحزم إلا بعد طول تلوم

التلوم: التأني في الأمور

ولقد كان من شأن العلماء الأقدمين تدافع الفتوى، والتهيب من إصدارها، فلله درهم ما كان أشد ورعهم وصيانة أنفسهم!!

قال أبو شهاب الحناط: سمعت أبا حصين يقول: إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر

سير أعلام النبلاء

فالله الله يا أهل الفتوى، فالأمر جد خطير، والمرجع في مثل هذه الأمور إلى الهيئات الشرعية المعتمدة المختصة بالفتوى، ومثل هذه النوازل تحتاج للفتوى الجماعية حتى يسلم العالم، ويسلم للناس دينهم، وتطمئن قلوبهم، وحتى لا يفقد الناس الثقة في علمائنا الفضلاء

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين