أصلحوا البيوت ولا تهدموها

بسم الله الرحمن الرحمن والحمدلله رب العالمين وصلّ اللهم على معلم الناس الخير سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم اليوم وبعد: 

الأسرة هي الدعامة الأولى في بناء أي مجتمع قوي، وما المجتمع إلا مجموع تلك الأسر المترابطة، فكلما قويت الأواصر بين الأسر قوي المجتمع، والمجتمع القوي هو الذي يستطيع مواجهة الكثير من التحديات، وهو من عوامل قوة المسلمين رغم ضعفهم في جوانب عدة مختلفة، إلا أنه يملك القدرة على النهوض والانبعاث من جديد، لأسباب عدة منها: مفهوم الأسرة في الإسلام، ومنها النظرة الأخلاقية للحياة، أقول الأخلاقية ولا أقول المثالية، وغير ذلك، وقد أدرك أعداء الإسلام الدور الخطير للأسرة فعملوا جاهدين على تحطيمها بشتى الوسائل، من تشجيع العزوبة والعلاقات غير المشروعة، من المساكنة والمثلية والصور المزعجة للعلاقات الجنسية، التي أثبتت فشلها وأثارها المدمرة على الفرد والدولة والمجتمع. 

وفي هذه الرسالة أحاول تذكير إخوتي المؤمنين بضرورة المحافظة على بناء الزواج، والسعي في إصلاحه، وترميمه ما أمكن، وعدم الإهمال للأخطاء الحاصلة فيه، بل والحذر من هدمه إلا إن توجب ذلك وصار الحل الوحيد. 

فأقول مستعينا بالله تعالى: إن الله تعالت قدرته وصف عقد النكاح بوصف عجيب بليغ فقال: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]، بل إن الله تعالى جعل الرابطة بين الرجل وامرأته رابطة بين الإنسان ونفسه، { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون } [سورة الروم:21]. نعم يا رب إن نعمة الزواج نعمة عظيمة، بل هي نعم لا يحصرها عقل، ولكثرتها فإنها تحتاج للتفكر والتأمل الطويل لإدراك أهميتها، ويقول تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين } [سورة الأعراف:189]. وهل يكون الأنس إلا بوجود الزوجة ولا أقول العشيقة، الزوجة وحدها والزوج وحده هما مبعث الأنس لكل منهما، ونتيجة الأنس المتبادل سعادةٌ وفرحةٌ تغمر الجميع، إنها فرحة الولد، تلك الفرحة لا يعرفها إلا من حُرم منها سنين عديدة، وظل يبحث عنها في العيادات والمشافي، وبذل في سبيل أغلى الأثمان والأوقات. 

نجد الإسلام يعظم هذه الرابطة بين الرجل والمرأة، ويحرص كل الحرص على بقاء هذا الميثاق الغليظ والحبل المتين بينهما، فالزواج ليس قضاءً لشهوة نفس فقط، بل هو عبادة يتقرب بها المؤمن والمؤمنة إلى الله تعالى، ففيه حفظ النفس من الحرام والأمراض الجسدية والنفسية وفيه إكثار النسل، وتربيته على محاسن الأخلاق ورواسخ الملة والإيمان، ولذلك يمكن تشبيهه بالبناء، نعم إنه كالبيت الذي نسكنه، وليس كل بيت أو بناء نسكنه فلا يعجبنا نشرع في هدمه وبناء غيره، فإن هذا فعل الحمقى والمغفلين، بل إنه فعل المجانين، فالإنسان العاقل يسعى دائما لتحسين مسكنه وتزويقه وفرشه وتزيينه بما يسرّ نفسه ويسعد خاطره، وأما من يسرع في هدم بيته فقد أطاع شيطانه وعصى ربه، واتبع هواه، وإن لم يكن مصيبا في هدمه، فسيبقى نادما أبد الدهر على شنيع فعلته، وفي الحديث الذي أخرجه مسلم عن جابر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ" أي: نعم الفعلة التي صنعتَها؛ وهي التفريقُ بين المرء وزوجه وهذا مما يحبه إبليس أنه شكر له صنعه. 

فيا أيها الأخ المسلم إن من نعم الدنيا الزوج والولد يقول سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب} [سورة آل عمران:14]. فقدم الله نعمةَ النساء والأولاد على المال والأنعام، وفي الختام هذه النعم كلها يجب أن لا تنسينا أن المرجع إلى الله، وأن الدنيا ما هي إلا مزرعة للآخرة، فالمؤمن يعيش فيها، وقلبه معلق بالآخرة. 

فيا أيها الزوج الغضبان، إن الزوجة هي زينة لبيتك، بل هي البيت نفسه، وليست كل امرأة يتزوجها الرجل تكون على أكمل ما يحب، كما أنه ليس كل بيت يسكنه يكون على تمام ما يحب، لذلك أرشد النبي المعلم عليه الصلاة والسلام الأزواجَ إلى التروي والتريث في اتخاذ قرار هدم البيوت -الطلاق- فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ " رواه مسلم أي: لا يبغضها ويكرهها لبعض الأخلاق المذمومة والعادات السيئة التي قد توجد فيها، فكأنه يقول عليه الصلاة والسلام: إنه لا أحد كاملٌ في الدنيا، فإذا كانت في زوجتك صفات سيئة وأخلاق ذميمة، فلا تنس أن لها أيضاً صفات أخرى حسنة وأخلاقاً حميدة، فاحتمل هذه من أجل تلك.

1. وقد رتب الإسلام الخطوات والإجراءات العملية لإصلاح الزوجة في حال تعديها، فقال الحكيم الخبير في محكم التنزيل: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]. النشور هو التعالي ورفض طاعة الزوج في المعروف، والوعظ أولا والنصح الرفيق الحكيم والتخويف من عقاب الله ونتائج الإصرار على الذنب والخطأ، وضرر ذلك على نفسها وعلى زوجها وأولادها إن كان بينهما ولد، بل وعلى أسرتهما وعلى المحيطين بهما، فإن الطلاق يورث العداوة والبغضاء بين الناس، كما أن الزواج يقرب بينهما ويرسخ الألفة والمودة والمحبة، هذا من جانب الزوج وهو صاحب البيت وسلطانه، وهو أحرص الناس على بقاء بيته عامرا مضاء مفعما بالحركة والنشاط، ومن جانب آخر حذر ونهى الله تعالى أولياء المرأة من منعها من العودة إلى زوجها فقال سبحانه وتعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَينَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]. أي لا تحبسوهن ولا تجبروهن على مفارقة أزواجهن، باستعمال سلطانكم وقوتكم، عليهن، وإن هذا والله هو عين الظلم للنفس أولا قبل أن يكون للغير، فهل يظن عاقل ما أنه بهدم بيت ابنته أو أخته وترك زوجها يعيش في العراء هو وأولاده، ولا أقصد بالعراء هنا الشارع، بل أقصد أن الرجل المحروم من امرأته كالمشرد في الطريق، بائس حزين، هل يظن هذا الولي الظالم أن أخته ستكون سعيدة في بيته؟! لا والله لن تكون كذلك، بل ستكون حزينة كسيفة، يدعو قلبها قبل لسانها على أهلها الظالمين، وتشعر أنها سجينة في بيت أهلها، تنتظر الفرج بالخروج منه وإطلاق سراحها لتعود إلى زوجها الذي جعله الله لباسا لها وجعلها لباسا له، تشعر بالأنس والسعادة والستر في بيته وتحت ناظريه، ومن الظلم للغير أن نهدم بيوت الآخرين، بينما نحن نعيش منعمين في بيوتنا، والله إن هذا هو الظلم والقهر في آن معا، فليتق الله أولياء الأمور في أنفسهم، ولا يقترفوا تلك الجرائم والمظالم التي تقشعر منها جلود المؤمنين، بل تشمئز منها كل نفوسهم الطيبة، ويرفضها كل ذي عقل وشعور، ولتتذكر تلك المرآة التي تخضع لشيء من الإكراه من قبل أهلها لإجبارها على مفارقة زوجها أن عليها الصبر ومجاهدة الشيطان، الذي يدفعهم إلى إقناعها بالطلاق، ولتتذكر الوعيد الشديد على الاستسلام لتلك المخططات الشيطانية الماكرة وتلك الأفكار الهدامة، التي يروجها لها المحيطون بها من الأهل والقرابة من رجال ونساء، وهذا العقاب جاء في السنة المطهرة ورواه الإمام أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي، بإسناد جيد، عن سيدنا ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امرأةٍ سأَلَتْ زوجَها طَلاقًا مِن غيرِ بَأْسٍ فَحَرامٌ علَيها رائحةُ الجَنَّةِ". وماذا بعد هذا الوعيد؟ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وليتذكر الجميع قوله تعالى: { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [سورة النساء:128]. نعم يا رب الصلح خير من الشقاق والفراق، ولأجله لابد من التضحية ببعض الحقوق في سبيل تحقيقه، وهنا تظهر النفوس الكريمة السخية. 

ولقد الله تعالى جعل للمسلمين سبيلا لإصلاح مشكلاتهم إن كانوا عاجزين هم عن حلها، فقال جل وعلا: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } [سورة النساء:35]َ.

نعم إن الله عليم خبير بنوايا كل من الزوجين والحكمين، وقد قيل إن الحكمين الصالحين لن يعدما وسيلة إن صدقا للإصلاح بين الزوجين المتخاصمين، وفي الآية أقوال أخرى، ولكن لنتأمل أن هناك مسؤولية من قبل المجتمع على هذه العلاقة، لأن أضرار الطلاق عادة لا تكون قاصرة على الزوجين فقط، بل تعمُّ المجتمعَ كله، فضياع الأولاد والآثار النفسية التي يعانون منها، من سيتحمل نتيجتها، إنه المجتمع، وكذلك العداوات والبغضاء التي تقع بين الأسر والعائلات، كل المجتمع سيأثر بها، لذلك وجب على العقلاء من أقارب الزوج والزوجة المسارعة إلى الإصلاح بينهما، وتقريب وجهات النظر، فإن تعذر ذلك، أجازوا هدم البناء، ليبني كل واحد منهما بيتا يناسبه، { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا } [سورة النساء:130]، وليحذر الجميع من نسيان العشرة، ونكران الجميل، يقول الله تعالى مؤدبا وموصيا: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، والمؤمن يخشع ويرضى بحكم الله تعالى، ولا يعرض عن آياته، ولايقابلها بالهزء والسخرية، يقول الحق سبحانه وتعالى محذرا من ذلك: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]، بل يقول مخوفا من مجاوزة حدوده ومخالفة أوامره: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] بل يصف من يفعل ذلك بالظالم إذ يقول: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]. لذلك جعل الله للطلاق سورة كاملة لأهميته وخطورته على الأفراد والمجتمعات فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} [الطلاق: 10]. فالسعادة كل السعادة والنجاة كل النجاة لنا جميعا أفرادا ومجتمعات ودولا وحكومات هي في تقوى الله تعالى والتزام أوامره، وفقني الله وخلقه أجمعين للإيمان الصادق والعمل الصالح إنه ولي ذلك والقادر عليه والله أعلم واحكم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين