نقض مقالة المطيري في المسألة الكورونية (2)

 

فصل


قال الدكتور حاكم: (وقد أجمع الفقهاء على أن حفظ الدين هو أولى الضروريات ثم يأتي حفظ النفس) إلخ كلامه، فيقال هذا ليس على إطلاقه وقد أرخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمار رضي الله عنه أن يذكر آلهته المشركين استبقاء لنفسه، ومثل هذا معلوم لمن هو أدنى من الدكتور حاكم رتبة في العلم فكيف به.؟
وقد قال العلامة تاج الدين بن السبكي في (نظائره): (قد عُلم أن لبس زي الكفار وذكر كلمة الكفر من غير إكراه، كفر، فلو دعت مصلحة المسلمين إلى ذلك واشتدت حاجتهم إلى من يفعله فالذي يظهر أنه يصير كالإكراه، وقد اتفق مثل ذلك للسلطان صلاح الدين فإنه لما صعب عليه أمر ملك صيدا وحصل للمسلمين به من الضرر الزائد ما ذكره المؤرخون، ألبس السلطان صلاح الدين اثنين من المسلمين لبس النصارى وأذن لهما في التوجه إلى صيدا على أنـهما راهبان، وكانا في الباطن مجهزان لقتل ذلك اللعين غيلة، ففعلا ذلك وتوجها إليه وأقاما عنده على أنـهما راهبان، ولا بد أن يتلفظا عنده بكلمة الكفر، وما برحا حتى اغتالاه وأراحا المسلمين منه، ولو لم يفعلا ذلك لتعب المسلمون تعبا مفرطا ولم يكونوا على يقين من النصرة عليه، ومما يدل على هذا قصة محمد بن مسلمة في كعب بن الأشرف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لكعب بن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: فأذَن لي فأقول؟ قال: قد فعلت).
ويقال للمطيري: هب أنا نزلنا على رأيك ودهم الوباء الناس فلم يُبق أحداً، حتى تعطلت المساجد، وهذا جائز واقع لا يحيله عقل ولا طبع، فعلى قولك بمنع تعطيل المساجد وإغلاقها، يلزمك بطلان تقديم الدين على النفس الذي نقلت الإجماع عليه، لأنه بتلف النفوس لم يبق للمساجد فائدة أصلا، ويصير تعطيلها والحال هذه واقعا لا محالة، فيكون قولك من تحصيل الحاصل وهو باطل.
ولا يقال إن هذا واقع لا يمكن دفعه، لأنا نقول إن أمكن تلافيه بغلبة الظن لزم تلافيه فيكون تقديم حفظ النفس والحال هذه مقدما وأولى من حفظ الدين، لأن به يتحصل على الدين والنفس معا، وبالمنع يفوت الدين والنفس أو أحدهما ولا بد، وما أمكن تحصيل جزئه بفوات الجزء الآخر فهو أولى من فوات الكل، كتحصيل استبقاء عامة النفوس أو كلها بفوات الصلاة في المساجد، فإذا سلمنا من الوباء حصل لنا استبقاء المقصدين الدين والنفس، وأمكن حفظ الدين بحفظ النفوس من التعرض للتلف بالوباء.
وههنا تعارضت مصلحة الدين ومصلحة النفس في المسألة الكورونية، فإن غلب على الظن بتقرير ثقات الأطباء تدارك النفس بالحجر الصحي المستلزم منع الجماعات فهو أولى، لأن به استبقاء مصلحة الدين باستبقاء من يقوم به الدين، وإلا فما فائدة الإبقاء على المساجد مفتوحة بلا مصلين إن قدر تلف العامة كما تقدم في الخبر الذي ذكرناه عن الذهبي.!
وإن غلب على الظن بتقرير ثقات الأطباء تلف النفوس كان حفظ النفس أولى أيضا بل يجب لما مر، وإن تعادلا نظر، فإن غلب على الظن أن الوباء لا يعدي قدم الدين على الأصل فلم يتجه والحال هذه إغلاق المساجد، وإن كان معديا برأي الأطباء مثل كورونا قدم حفظ النفس كما مر.
والمقصود أن أصل تقديم حفظ الدين على النفس ليس على إطلاقه كما توهمه عبارة الدكتور حاكم المطيري، فما من عام إلا وقد خص، وفي مثل مسألتنا يقدم مقصد حفظ النفس استثناء من الأصل، لأن محصل النظر أن بحفظ النفس استبقاء الدين والنفس معا، وبفوات النفس يفوت المقصدان، فمن رام تقديم الدين هنا كالمطيري فقد رجح احتمال فوات المقصدين على استبقائهما أو استبقاء أحدهما وهو خلاف مقتضى الأصول والنظر.
والأصول التي رمى هو كافة المفتين بإغلاق المساجد ومن عمل بفتياهم بالجهل بـها، تشهد بضد ما يفتي هو كما تقدم، فإن الله أمر بالاعتصام بحبله ونـهى عن التفرق والاختلاف، ولا ريب أن الاعتصام يكون بلزوم الجماعة، ونـهى عن اتباع سبيل غير المؤمنين وهم الجماعة ومعظم الناس، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم الجماعة والسواد الأعظم بيانا لكتاب الله، وجماعة المسلمين على ضد قوله كما هو معلوم، فينتج أن الأصول تدل على ترك قوله ولزوم رأي الجماعة.
ومن هنا كان المقرر في الأصول أن الخلاف النادر كخلاف الواحد والاثنين وإن كان عند الجمهور يمنع انعقاد الإجماع خلافا لابن جرير والرازي وغيرهما، لكنه حجة ومرجح كما حققه أبو العباس بن تيمية وهو مختار البيضاوي والآمدي وابن الحاجب وغيرهم، فقول الدكتور حاكم في المسألة لا تساعد عليه الأصول بل تشهد بضده.
ويشهد لتقديم مقصد حفظ النفس على حفظ الدين في مسألتنا، الأصل المقرر عند أهل النظر أن ما لا يتم الوجوب إلا به فهو واجب، فإن وجوب إعمار المساجد بالصلوات لا يتم إلا باستبقاء النفوس وحفظها، فإن تلفت فات الواجب من ذلك كما مر.
ثم نقل الدكتور حاكم نص ابن تيمية وغيره من الفقهاء بمنع إغلاق المساجد، وهو ضائع لا محصل منه، لأنه خارج محل النزاع فإن هذا المنع هو الأصل ومن يفتي بإغلاق المساجد لأجل الوباء لم يخالفه بل هو قائل بمقتضاه، لأنـهم عللوا الأصل الذي هو إغلاقها بكونه يشبه المنع منها والله يقول (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيه اسمها وسعى في خرابـها).
والمنع منها إنما يكون بالصد عنها بالقوة كما بينه سبب نزول الآية، نزلت في منع المشركين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من دخول مكة كما قاله ابن عباس، وقيل نزلت في بختنصر ملك آشور حين غزا بيت المقدس في القرن السادس قبل المسيح وسبا اليهود وحرق المسجد وأورشليم في السبي الثالث، وقيل نزلت في غزو تيطس الروماني سنة (79) قبل المسيح، فإنه غزا المسجد الأقصى وخربه وحرقه حتى بناه المسلمون بعد الفتح.
وأما إغلاقها مؤقتا لعذر شهدت أصول الشارع لاعتباره فهو من الاستحسان ويشهد له أيضا أصل المصلحة المرسلة فضلا عن عموم النصوص كما يأتي، فهو مستثنى من الأصل العام الذي هو منع إغلاقها، فيعمل بالعام فيما تناوله وبالخاص في الباقي وهو جواز إغلاقها لعذر كتنظيفها وترميمها سواء.
ويقال للدكتور حاكم لو هم مسجد أن يتهدم على المصلين واحتيج إلى إغلاقه لأجل ترميمه، فإن قلت لا يغلق فهو باطل لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأن حرمة المسلم أولى من حرمة البيت الحرام، ولازم قولك بضد هذا الأصل فهو فاسد الوضع، وإن قلت يغلق لزمك جواز إغلاق المساجد لأجل الوباء بإلغاء الفارق، فبطل قولك.
وقد وقع هذا في ببغداد زمان ولاية الرئيس عبد السلام عارف، فإن مسجد القبلية بكرخ بغداد على النهر كان قد مال أحد جوانبه وهم بالسقوط فإن المسجد على ما قيل قد بني أيام أبي يوسف القاضي رحمه الله، فأفتى إمام المسجد إذ ذاك وهو الشيخ عايش الكبيسي بترك الصلاة فيه استبقاء على المصلين، وكان يجمع التبرعات من الناس لترميمه فاتفق أن الرئيس عارف مر بسيارته من شارع المسجد على دجلة، فاعترضه الشيخ عايش وكلمه في أمر المسجد فأمر الرئيس بصرف مبلغ (500) دينار من ماله الخاص، حتى رمموه وعاد الناس للصلاة فيه، ولم يعارض فتياه أحد من العلماء.
وقد يتفق إغلاق المساجد عن الجمعة لعدم توافر بعض شروط الجمعة عند بعض الفقهاء، وهذا عذر شرعي مثل عذر إغلاقها لأجل الوباء بل هذا أولى لأنه ضروري يتعلق بحفظ النفس ولا نزاع فيه، بخلاف بعض الشروط كالعدد وإذن الإمام والاستيطان فإن فيها نزاعا بين الفقهاء، وما لا نزاع فيه أولى بالاعتبار مما فيه نزاع.
وقد حكى لي الشيخ عبد الهادي العيساوي رحمه الله أنه لما كان إمام مسجد الصقلاوية بالأنبار، لم يكن يصلي فيه الجمعة إلا خمسة عشر رجلاً، فبلغ ذلك الشيخَ نجمَ الدين الواعظ الحنفي رحمه الله فأقره وكتب بالصلاة فيه، فعارضه الشيخ عبد العزيز السالم الشافعي رحمه الله وأفتى بالمنع على مقتضى مذهبه، حتى أُغلقَ المسجد.!
فاتفق الشيخان على أن يحكم بينهم العلامة الزهاوي، وانتدبوا إمام المسجد لسؤاله في صورة استفتاء كتبه الواعظ، فشدَّ العيساويُّ الرحال إلى بغداد ودخل على الزهاوي في داره، قال: فوجدته يطالع حتى إذا فرغ من الكتاب سألني عن حاجتي، فدفعت إليه الكتاب الذي فيه الاستفتاء، فتأمله ثم دعا بقلم وورق، فعلّق من حفظه جزءاً لطيفاً في المسألة سرد فيه مذاهب الفقهاء وساق أدلتهم ورجح وجوب الجمعة وإقامتها بثلاثة نفر، قال العيساوي: فلما عرضتُ كتاب الزهاوي على الشيخ عبد العزيز قرأه ثم قبّله ووضعه على رأسه، واستمرت الجمعة تقام بالمسجد.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بـهجران المدينة حتى ما يغشاها إلا العوافي، وفي الصحيح والمسند عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: (بينا رجل في غنمه، إذ عدا عليها الذئب، فأخذ شاة منها، فطلبه، فأدركه، فاستنقذها منه، فقال: يا هذا، استنقذتـها مني، فمن لها يوم السَّبُع، يوم لا راعي لها غيري..) الحديث، ويوم السَّبُع هو يوم الذعر الذي تقع فيه الفتن فيهجر الناس المدينة على أصح الأقوال.
وقد روي أن سبب هجرهم جور السلطان، حتى إن الذئب ليغذي أي يبول عند المنبر ما يرده أحد، ولا فرق بين هجر المساجد خوفا من جور السلطان أو من وباء، والمقصود أن تعطل المساجد لمانع سواء كان قهراً أو باختيار لخوف عدو أو وباء لا يدخل في عموم منع إغلاق المساجد الذي ذكره الفقهاء.
وذكر العلامة ابن عاشور أن المنع هو حرمان المصلين منها في أوقات العبادة، فلا يدخل فيه غلقها في غير أوقات الصلاة، ومنع دخول الصبيان والمسافرين للنوم فيها كما أفتى به ابن عرفة، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم المشركين والعراة من الطواف ومنع مالك الكافر من المسجد ومنع الفقهاء الجنب والحائض.
وهذا العام الذي احتج به المطيري مخصوص كما ترى، وأما العام الذي فيه النهي عن دخول أرض الوباء والخروج منها فهو محفوظ باق على عمومه، وقد تقرر أن العام المحفوظ مقدم على العام المخصوص عند التعارض، على أن السعي في خراب المساجد حقيقة في منع أهلها من التعبد فيها كما صنع المشركون، ومجازاً في خرابـها بحيث تتعطل كما صنع بختنصر وتيطس، فيعطي بدلالة المفهوم أن تعطيلها لأجل صيانة المصلين الذين هم عُمّارها من إعمارها لا من تخريبها، كصيانتها بترميم ونحوه، وعليه فالمنع منها نوعان: ممنوع وهو الذي دل على منعه منطوق الآية وسماه ظلما، ومباح وهو المنع بإغلاقها لصيانتها أو صيانة الذاكرين فيها وهو الذي دل عليه مفهوم الآية، فهو من درء إحدى المفسدتين باحتمال أدناهما، فأدناهما إغلاق المسجد وقد احتملنا لدرء مفسدة أعظم منه وهي فناء الناس بالوباء.
ثم ذكر الدكتور حاكم وفقه الله فتيا علماء مصر في حكم منع الحج منها لوقوع الوباء بالحجاز حتى لا ينتقل إلى مصر، فأفتوا بتحريم منع الحج، ولا متعلق له فيها بوجه، لأن القوم اجتهدوا لزمانـهم واجتهادهم لا يلزم علماء زماننا لاختلاف الحال، ولأن قول مجتهد لا يكون حجة على الآخر بل الحجة في الدليل إن صح أثراً ونظراً.
وأيضا ففتياهم ليست إجماعا وإنما كانوا أربعة علماء لا غير وفي مصر خاصة دون سائر أمصار الإسلام، وهذا بخلاف علماء زماننا فإن أكثر المجاميع الفقهية على جواز المنع فلا يترك قول الأكثر للأقل، ولو قدر أنـهم أفتوا به ولم ينقل مخالف لهم فيما أفتوا مع انقراض العصر، كان قولهم إجماعا سكوتيا وهو على تقدير صحته غير ملزم لعلماء عصرنا، لأن قياس المسألة الكورونية على فتيا علماء مصر قياس مع الفارق وهو باطل، لأن الوباء في زمانـهم كان محصوراً بالحجاز مقصوراً عليه، بخلاف وباء الكورونا فإنه عام فشا في الأرض، فتيقن حصول العدوى به قطعي بنظر الأطباء، وعليه يسوغ تعطيل القطعي بمثله، أعني بالقطعي الأول الحج وبالثاني الوباء، لأن القطعي يترك بمثله، وأما في زمان علماء مصر فالوباء غير محقق لانحصاره في الحجاز فهو ظني ولا يسوغ ترك القطعي الذي هو الحج لظن حصول الوباء، فمن هنا صحت فتياهم، وافترقت عن فتيا زماننا وبظهور الفارق يبطل تعلق المطيري بـهذه الفتوى.
وأيضا فإن فتياهم تتنزل على ظن الوباء لا تيقنه، فإنه حكي أنه وجد بالحجاز ولم يذكر أنه بمكة، فيقال للدكتور حاكم: لو قدر أن الوباء حل بمكة حرسها الله وشرفها في الموسم، فهل تقول بمنع الحج، أو لا على مقتضى ظاهر فتيا بعض علماء مصر التي تعلقت بـها؟ فإن قال: لا يمنع، فقد ناقض النص النبوي العام في النهي عن دخول أرض الوباء، وإن قال: يمنع فقد ناقض فتيا علماء مصر التي تعلق بـها، فسقط قوله.
ومن الغرائب التي لا يدرى ما الحامل عليها قول الدكتور حاكم: (والاحتجاج بدرء المفاسد ومنع العدوى لتعطيل المساجد ومنع إقامة الفرائض ضرب من العلمانية المادية التي تتدثر بالفتوى الدينية).!
فإن كان ينكر وجه احتجاج علماء الوقت بأصل درء المفاسد فهو مصيبة أن يقدم دكتور شرعي على إنكار ما لم يبلغ عقله وعلمه، فهو من جنس قول السيدة عائشة رضوان الله عليها: (ما أسرع الناس إلى أن ينكروا ما لا علم لهم به) وقد بينا وجوه فتياهم اعتماداً على أصل درء المفاسد، وعدم إدراكه لوجه استنباطهم للمنع بـهذا الأصل لا يلزم منه العدم فضلا عن التهوك بوصفه بــ(العلمانية المادية)! وما شأن العلمانية والمادية والوباء قد ضرب عقر دار العلمانيين والماديين؟ وإن كان ينكر نفس التعلق بأصل درء المفاسد فالمصيبة أعظم ولا مزيد.
وليعلم أن هذا الغلو المذموم في التدين والإغراق في التواكل وترك الاعتماد على الأسباب المادية، هو سبب ظهور غلاة الماديين والعلمانيين الذين بالغوا في جحد التوكل والتعلق بالله وأحكام الشرع، لأن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعارضه في الاتجاه كما تقرر في قوانين الفيزياء.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين