نقض مقالة المطيري في المسألة الكورونية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله الذي ما خلق داء إلا جعل له شفاء، وصلى الله وسلم وبارك على من بُعث بالحنيفية السمحاء، وعلى آله السادة النجباء، وأصحابه الذين هم في الاهتداء كنجوم السماء، وبعد:

فقد أرسل إلي بعض الفضلاء مقالة للدكتور حاكم المطيري وفقه الله ونفع به، يحاول فيها تقرير منع إغلاق المساجد أو إيقاف الجمع والجماعات بـها مؤقتا لأجل المرض المخوف الداهم المسمى بكورونا، واحتج الرجل لرأيه بدلائل بسطها من الأثر والنظر، وتعقب فتيا المجوزين لذلك من العلماء وهم الأكثر كما هو معلوم.

فتأملتها ورأيت له فيها ما لا يقر عليه، فكتبت عليها تعليقا موجزاً مبينا رأيي فيما ذهب إليه واختاره، فطلب مني بعض هؤلاء الفضلاء تحرير ما تيسر من التعليق والتعقيب عليها طلبا للحق الحقيق بالقبول والإذعان، لأن منهم من تردد في قبول فتيا المجامع الفقهية ودور الإفتاء لما رأى جزء المطيري هذا، وامتنع عن العمل بفتياهم، فكتبت هذه العجالة، وبالله تعالى التوفيق.

فصل

وأول ما يقع نظر الناظر في جزء المطيري، على قوله: (من عرف حقيقة الإسلام والإيمان والتوحيد لم يخف عليه بطلان فتوى إغلاق المساجد ومنع الصلوات خشية المرض).!

وهو عجيب منه! فما شأن الإيمان والتوحيد في هذا، وإنما هي نازلة يراد استنباط حكم الشارع فيها، ويلزمه ولا بد أن من أفتى من العلماء بذلك وهم الجمهور بل الكافة إلا من شذ، فقد خفي عليهم حقيقة الإسلام والإيمان والتوحيد، واللازم باطل قطعا فالملزوم مثله، اللهم إلا إن كان المطيري من الغلاة الذين يرون إكفار أهل الإسلام كصعافقة الدواعش، وعهدنا به غير هذا فإنه ممن تعرض عرضه لسوط أحكامهم الهوجاء بالتكفير والتبديع. 

أو يكون التوحيد والإيمان والإسلام الذي عليه الدكتور حاكم ليس هو توحيد وإسلام وإيمان أكثر المسلمين، فأطلق عليهم هذا الحكم الغريب وفساد هذا أيضا معلوم بالضرورة، وإلا لزمه أن أكثر الأمة الذين أذعنوا لفتيا المجامع الفقهية وعملوا بـها في الشرق والغرب، لا يعرفون حقيقة الإسلام والإيمان والتوحيد وهو أولى من سابقه بالفساد والبطلان.

والعجب من قوله (وهذا -أي فتيا إغلاق المساجد- لا يسوغه من يعرف أصول الإسلام فضلا عن فروعه، وإنما هو أثر من آثار الثقافة الغربية العلمانية المادية الطاغية) إلخ كلامه الذي لا طائل منه.

وهذه لغة خطابية خارجة عن محل النظر والبحث، ويمكن لمخالفه على سبيل المقابلة أن يرميه بضعف الفكر لاستيلاء نظرية المؤامرة عليه، بل لو رماه بالجهل بأصول الأحكام وفروعها لم يكن رميه إياه بـهذا إلا كرميه هو من أفتى بإغلاق المساجد بمثل هذا العبث والبهت الذي لا يلجأ إليه إلا من خذلته الحجة وأعياه البحث والنظر وغلبته عاطفته فلم يُحكِّم العلم، والعجيب في النازلة الكورونية أن الماديين والعلمانيين لجأوا إلى للصلاة والتحنث لدفع شر هذا الوباء عنهم، حتى إن ترمب دعا الناس للصلاة وهذا في البلاد التي لم يعمها الوباء بعد، وإلا فقد أعلنت كثير من الدول إغلاق الكنائس أيضا، عدا إيقافهم الأنشطة الرياضية والاقتصادية والاجتماعية، ثم يرمي الدكتور حاكم المسلمين بالمادية لأجل فتيا الغلق.!

ونحن لا ننكر وجود المادية بتأثير العولمة في أهل الإسلام، وإنما ننكر دعواه طغيانـها فيهم، وأيضا فعهدنا بالمطيري سلفيا يرى أن المشركين كانوا على توحيد الربوبية لأنـهم يستغيثون بالله في الكرب والشدة ويكفرون بآلهتهم، ومقتضى كلامه هنا أن أهل الإسلام أشد جهلا بتوحيد الربوبية من المشركين، لأنـهم ماديون علمانيون عنده في وقت الشدة والكرب الذي يجأر فيه المشركون للاستغاثة بالله، فتأمل وتعجب.!

وقد ذكر أصحاب السير أن عكرمة بن أبي جهل حين أهدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم دمه فر وركب البحر، فهاج فرغب عكرمة بالدعاء لهُبل، فقال له أهل السفينة: ليس هذا موضع يدعى فيه هُبل، هذا موضع دعاء الله، فقال عكرمة: لئن لم ينفعني في هذا الموضع غير رب محمد، لعمري إنه حق وما سواه باطل، وانحدر للمدينة فأسلم.

وأيضا فهل من تكلم في مسألة التترس من فقهاء النظار لا يدري أصول الإسلام وفروعه؟ وفيها من استباحة الدم المعصوم ما هو أعظم حرمة من إغلاق المساجد بل من الكعبة الشريفة كما أخبر به المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم.! 

وهل من أفتى بتعطل الجهاد بالأندلس ووجوب هجرها لغلبة العدو والعجز عن دفع صولته لا يدري أصول الإسلام وفروعه، وفيه هجران المساجد بالكلية، وهو أشد من تعطيلها تعطيلا مؤقتا لعذر، ولا يخفى على المطيري تأليف العلامة الونشريسي فيه فهو مشهور يعرفه صغار الطلبة اليوم.

وقد قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في (تاريخ النبلاء): (وفي سنة ثمان مبدأ فتنة البساسيري، وخطب بالكوفة وواسط وبعض القرى للمستنصر العبيدي، وكان القحط عظيما بمصر وبالأندلس، وما عُهد قحطٌ ولا وباءٌ مثله بقرطبة، حتى بقيت المساجد مغلقة بلا مُصَلٍّ، وسُمّي عام الجوع الكبير).

فهل المسلمون وعلماء الوقت إذ ذاك لا يعرفون أصول الإسلام وفروعه حتى علمها الدكتور المطيري في ذيل الدنيا؟! وهذا كلام عاطل كنا نربأ بالدكتور المطيري أن يخرج منه وهو فاضل نظّام.!

وهذا عمر العدل المحدث الملهم قد عطَّل حداً من حدود الله مؤقتا فأوقف القطع بالسرقة كما هو معلوم، فعلى قياس قول المطيري الذي احتج لكلامه هذا الذي جسر فيه على نبز عامة علماء المسلمين بالجهل بأصول الإسلام وفروعه، وساق قوله تعالى (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابـها) الاية، على قياس قوله يحتج مبطل بقوله تعالى (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) على أن عمر -حاشاه- ظالم متعد لحدود الله، بل لا يدري أصول الإسلام وفروعه، وهذه كتلك فما جوابه عنها فهو جوابنا عنه.

وهذه مقالة عاطلة كمقالة المطيري، ولا يدري قائلها ما يخرج من رأسه، ولولا غلبة العاطفة على أسلوبـها بحيث يخفى فسادها في غضون ظاهرها الذي ينبيك عن حمية باردة على الدين واحتكار للغيرة الإسلامية على حدود الشارع وخلع الفهم والعلم عليه دون عامة العلماء، لما تكلفنا نقضها وتبيان فسادها فإن مجرد حكايتها وتأملها يغني عنه.

وقد صنف أبو العباس بن تيمية مسألة في نقل الوقف إذا تعطل أو خرب، كالمسجد الذي له أوقاف وقد تعطل فأفتى بجواز نقل أوقافه إلى غيره أو بيعه وصرفه في وقف قائم، ونقله عن نص أحمد، وأوذي من بعض الحنابلة في هذا كالجمال المرداوي وغيره. 

ومعلوم أن تعطل المسجد قد يكون لما يعرض له من حوادث الزمان كهجران أهله لمحل إقامتهم، أو وباء يحل في موضعه، أو استيلاء عدو، أو أن طريقه غير آمن ونحو ذلك، ولولا جواز تعطله لأجل هذه الأعذار لم يتصور الكلام في المسألة أصلا.

وقد قال القرافي في (الفروق): (يجوز للإمام أن ينقل ما يدفعه لهم إذا تعطلت المساجد أو وجدت جهة هي أولى بمصلحة المسلمين من جهتها) وهذا مذهب الثوري كما نقله عنه في (المستظهري) وقد بسطناه في (علل الأصوليين).

وذكر الشيخان من الشافعية أن المسجد إن تعطل بتفرق الناس عن البلد، أو خراب البلد، فإنه لا يباع بل يترك على حاله إن لم يُخف من المفسدين أن ينقضوه، فإن خيف نُقض وحفظ، وإن رأى الحاكم أن يعمّر بنقضه مسجداً جاز، وما كان أقرب إليه فهو أولى.

وفي (المستظهري): (فإن وقف مسجداً فخرب، أو خرب المكان الذي كان فيه، وانقطعت الصلاة فيه، لم يعد إلى الملك ولم يجز التصرف فيه، ولا يجوز نقضه، ولا نقله إلى غيره، وبه قال مالك).

هذا مذهبهم ولا يقال إن تعطله طارئ غير مقصود بفتيا، لأن كلامهم عام في كل تعطل سواء كان بخراب لسبب مرض أو طاعون أو عدو أو هجر الناس للبلد وتركه، ولم يقل أحد منهم بمنع تعطله ولزوم إقامة الجماعة فيه مع وجود هذه المخاوف، بل محمد يقول يعود إلى ملك الواقف، أي إن المسجد يتعطل أبداً، وهذا أشد من تعطيله مؤقتا عن الشعائر لمانع شهد الشرع لاعتباره مانعا.

وهذا كما ترى كمسألتنا الكورونية ولا فرق، فإن من أفتى بتعطيل الجماعات إنما أفتى به لعذر خوف الوباء، ومثل هذا لا يقال فيه إن من أفتى به لا يعرف أصول الإسلام، وغايته أن يكون أخطأ الحكم في اجتهاده على التنزل أنه خطأ، فكيف والأصول والاعتبار والمصالح تشهد له.!

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين