الحدود الشرعية معناها ومقاصدها ( 3/ 3)

مقاصد الحدود والعقوبات في الشريعة الإسلامية

إن نظام الحدود والعقوبات في التشريع الإسلامي وضع على منهج رباني، يراعي الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، فوضع لها من العقوبات الزواجر ما يناسبها، حتى يردها إلى الطريق إن هي شردت عن الصراط المستقيم، أو حادت عن المهيع الجاد.

وقد كان لهذا النظام التشريعي الرباني أهداف عليا يسعى إليها، وأغراض قصوى يجنح إلى تحقيقها، ومقاصد نبيلة يرمي إليها، لأنه نظام من لدن حكيم خبير. على أن مقاصد العقوبات في التشريع الإسلامي تتعدد وتتنوع، فهي كما تعتني بالمجني عليه وبالدفاع عنه، والذود عن حقوقه، فهي كذلك تراعي حقوق الجاني فلم تهمل إنسانيته وإن كان جانيا، إذ إقامة العقوبات لا يذهب كرامة الإنسان. كما أنها تلتفت بعناية كبيرة إلى المجتمع، وما تجلب إليه من خيرات ومصالح وتدرأ عنه من شرور ومفاسد، فكانت أي الحدود والعقوبات لها مقاصد، منها ما هو خاص بالجاني، ومنها ما هو خاص بالمجني عليه، ومنها ما هو متعلق بالأمة والمجتمع. وبيانها بشيء من الإجمال أسجله في ما يلي:

أولا: تأديب وإصلاح الجاني.

إن من مقاصد الحدود والعقوبات إصلاح وتأديب الجاني، حتى لا يتمادى في شره، فينفث سمومه في باقي أفراد المجتمع، وهذا المقصد نجده واضحا جليا، إذا ما درسنا الحدود والعقوبات، وهذا ما أبانه الطاهر بن عاشور في (مقاصد الشريعة الإسلامية) بقوله: "إن مقصد الشريعة من تشريع الحدود، والقصاص، والتعزير، وأروش الجنايات ثلاثة أمور، من بينها تأديب الجاني. والتأديب- كما ذكر- راجع إلى المقصد الأسمي، وهو إصلاح أفراد الأمة الذين يقوم مجموع الأمة منهم، فإقامة العقوبة على الجاني يزول من نفسه الخبث الذي بعثه على الجناية." 

فمقصد الشريعة إذن هو إصلاح الجاني وتأديبه حتى يصبح عنصرا فعالا داخل المجتمع، بدل أن يستمر في غيه وطيشه. يقول ابن عاشور: " إن المقصد الأعظم من الشريعة هو جلب الصلاح ودرء الفساد. وذلك يحصل بإصلاح حال الإنسان ودفع فساده. فإنه لما كان هو المهيمن على هذا العالم وأحواله. ولذلك نرى الإسلام عالج صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه، وبصلاح مجموعه وهو النوع كله، فابتدأ الدعوة بإصلاح الاعتقاد الذي إصلاحه مبدأ التفكير الإنساني الذي يسوقه إلى التفكير الحق في أحوال هذا العالم. ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه، وتصفية باطنه، لأن الباطن محرك الإنسان إلى الأعمال الصالحة كما ورد في الحديث "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب." 

والشريعة لا تعتمد فقط على إقامة الحدود، فليست هي العقوبة الوحيدة، وإنما تعنى أيضا بوسائل إصلاح أخرى، مثل تربية وتزكية النفس، بغرس الفضائل والأخلاق، وبنائها على معرفة الله، بمعرفة جلاله وعظمته وقوته وإنعامه على المخلوقات، وإن كل شيء بيده سبحانه. كما تعتمد على نشر العلم، بتعليم أبناء المجتمع، حتى ترتقي مداركهم، ويرتفع وعيهم، وتسمو أخلاقهم ووعيهم الحضاري والمدني.

فكان لا بد من هذا السبيل، لإصلاح الجاني، بإقامة الحد عليه، وذلك "بتقويم نفسه وصقلها وغسلها من أدران الجريمة، حتى تكون هذه النفس الطاهرة بمنجاة عن محيط الإجرام، وتدخل في عداد الأنفس النافعة للمجتمع" لذلك شاع عند الفقهاء أن التعزيز شرع للتطهير.

ثانيا: ردع وزجر الجاني. 

ومن مقاصد الحدود والعقوبات في الشريعة الإسلامية ردع وزجر الجاني، فهي أقيمت لهذا المقصد، وتنوعها يفيد هذا الغرض، بأن وضع لكل جرم حد رادع يناسب مقدار المفسدة التي وقعت بسببه، فلا جرم أن إقامة الحد على الجاني كما يقول ابن العربي المالكي في (أحكام القرآن): " يردع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده " 

لأجل ذلك حذر الشارع الحكيم من حصول الرأفة عند إقامة الحدود، فهي رأفة –إن حصلت- أخلت بالمقصود من تحقيق الردع والاستصلاح، قال عز وجل: " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم مؤمنين" قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في بيان الآية: "وعلق بالرأفة قوله: "في دين الله " لإفادة أنها رأفة غير محمودة، لأنها تعطل دين الله، أي أحكامه وإنما شرع الله الحد استصلاحا، فكانت الرأفة في إقامته فسادا." 

والردع أو الزجر ليس معناه مجاوزة ما يستحقه الجاني من العقوبة، لأن المبالغة في ذلك تفسد الحكمة من مشروعية فعل الزاجر والرادع، من أن يوقع العقوبة المحققة لذلك، والمناسبة لغاية الزجر والردع بحيث تكف الجاني عن العود إلى الجريمة وعدم تذكرها، وقد أفصح عن هذه الحكمة ابن القيم بقوله: "فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في الرؤوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع. فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه، وإحسانه وعدله. لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما أتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استيلاب غيره حقه." 

ولئن كان مقصد الشريعة-كما رأينا- هو إصلاح الجاني وتأديبه فإن ذلك لا يكون على حساب إهدار آدميته وكرامته، فصيانة كرامة المحدود وعرضه مما تحرص عليه الشريعة. فلا يسب، ولا يلعن، فقد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة تقول لمحدود في الخمر "أخزاك الله" فقال: لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان ... لكن قولوا اللهم اغفر له، اللهم ارحمه." 

وقد بسط القول في هذه المسألة الدكتور الحبيب التجكاني فقال فيما نصه:" إن الاعتراف بكرامة المحكوم عليه، والحرص على حقوقه، هو الخطوة الأولى لإعادة تربيته روحيا وخلقيا، فبذلك وحده يعود له الشعور بالمسؤولية، فيتحرر من إلقاء المسؤولية على الغير، ويبدأ طريق الندم والتوبة والاستقامة." 

هذا الجانب الذي ذكره الحبيب التجكاني، مما تغفله القوانين الوضعية اليوم إغفالا وإهمالا تاما، فهي لا تكاد تفكر في إصلاح الجاني بحفظ وصون كرامته، وأنه مع ذلك إنسان ذو أحاسيس وغرائز. وإنما تفعل عكس ذلك، حيث تدوس كرامته وإنسانيته، مما يربي في نفسه الحقد والضغينة على المجتمع، فيزداد إجرامه، وتصبح العقوبة المقررة في حقه لا تؤدي الدور المطلوب لا في التأديب ولا في الزجر.

ثالثا: التشهير بالجاني والإعلام به "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين"

إن من مقاصد التشريع الجنائي الإسلامي أن يعرف بالمجرم وبمواصفاته ويشهر به، ويشنع عليه إجرامه، وهذا المقصد كفيل بردع الناس، وكف أذاهم. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" فبالإضافة إلى أنه عقاب رادع، غير أن مقصد التشهير والإعلام بالجاني متضمن له، وواضح من تشريعه، ومقصود من الآية. فالإعلان بالجريمة -كما قال الدكتور حسن رجب - هو جزء من العقاب، سواء اتخذ ذلك في العصور الماضية شكل التجريس، كما كان عند العرب، أو شكل طلاء الجاني بالقار، وكسائه بالريش في أوربا في العصر الوسيط، أو بالنشر بالصحف في عالمنا المعاصر. ولكن الإسلام جعل الإعلام عن الجرائم بكل درجاتها جزءا لا يتجزأ من العقوبة. 

فالتشهير والإعلام بالمجرم وبجريمته يجعل الناس يحجمون عن الجرائم، ويحذرون من التساهل في إقامة الحد، لأن الإخفاء ذريعة للإنساء. والإهمال مطية الاستخفاف بحدود الله تبارك وتعالى. ففي التشهير والإعلام بالجاني إشاعة حديثة، وعبرة للآخرين من الذين حضروا إقامة الحد، وهذا مهم من الناحية الاجتماعية من أجل صيانة المجتمع. أما الجانب النفسي فهو تألم الجاني من سقوط شخصيته ومكانته في المجتمع، وهو ما أشار إليه ابن العربي في قوله الآنف الذكر. 

وقد ذكر ابن فرحون في (تبصرة الحكام): أن الجاني في بعض الجرائم يشهر ويسجل عليه ما فعل، وتجعل من ذلك نسخ تودع عند الناس ممن يوثق به، وفي ذلك نوع من النشر. وفي عصرنا هذا تتكفل السلطات الأمنية بذلك، فلها سجلات المجرمين، وغيرهم. كما يمكن اليوم يمكن توسيع دائرة الإعلام والتشهير الذي تهدف إليه الشريعة الإسلامية بسبب اتساع وسائل الإعلام من الصحف، والمجلات والإذاعة.

وقد أخذ العلماء مشروعية التشهير من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبادة بن الصامت لما بعثه على الصدقة يعظه: "يا أبا الوليد اتق، لا تأتي يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها تواج."فقال: يا رسول الله إن ذلك لكائن؟ قال: "إي والذي نفسي بيده، إن ذلك لكذلك إلا من رحم الله" قال: " فوالذي بعثك بالحق لا أعمل على شيء أبدا. أو قال: على اثنين." (رواه البيهقي في السنن الكبرى بتحقيق التركي).

وقد جاء في (حاشية السندي) "أن المراد بالعقوبة بذلك فضيحة الغال على رؤوس الأشهاد في ذلك الموقف العظيم، وأن الحكام أخذوا من هذا الحديث مشروعية التجريس بالجناة أي التسميع بهم، والمراد بذلك تشهيرهم." 

رابعا: إرضاء المجني عليه. 

إن مقاصد التشريع الاسلامي المبارك عديدة ومتنوعة تنكشف عنها الحجب كلما فكر الانسان، وتدبر بروية وتؤدة في خبايا هذا التشريع، من هذا المنطلق أقول بأن مقصد إرضاء المجني عليه تحرص عليه الشريعة حرصا شديدا بسعة وأفق كبير. فإرضاء المجني عليه ينظر إليه من جانب ما في النفوس من حب الانتقام والتشفي، والحنق، والغضب على الظالم. 

وهذه طبيعة جبلية في الإنسان، لا يستطيع معها أن يوفر العدل، ويقر الرحمة، لهذا تولت الشريعة إرضاء المجني عليه بإقامة الحد على الجاني، لأنها لو تركت المجني عليه يتصرف في إرضاء نفسه بيده، لبالغ في حب الانتقام، ولما حقق بذلك عدلا ولا صرفا ... وهذا التصرف يخل بنظام الحياة حيث تحيا بين الناس الثارات والصراعات.

ولقد بين هذا المقصد فضيلة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه النفيس (مقاصد الشريعة الإسلامية) فقال: "وأما إرضاء المجني عليه فلأن في طبيعة النفوس الحنق على من يعتدي عليها عمدا، والغضب ممن يعتدي خطأ. فتندفع إلى الانتقام، وهو انتقام لا يكون عادلا أبدا، لأنه صادر عن حنق وغضب تختل معهما الروية، وينحجب بهما نور العدل... فكان من مقاصد الشريعة أن تتولى هي هذه الترضية وتجعل حدا لإبطال الثارات القديمة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع "وإن دماء الجاهلية موضوعة" 

لذلك ففي نظام العقوبات ما يطمئن المجني عليه، ويحفظ عليه حياته وماله، ودينه وعرضه. فخذ مثلا السرقة، فقد أوجب الشرع القطع في ربع دينار فصاعدا. فلو أسند إلى المجني عليه أن يتولى هذا الأمر بنفسه لما اهتدى إلى ذلك السر الموجود في القطع، ولربما تصرف على غير ما تقتضيه الحكمة، فمن كمال حكمته وسر قدرته أن تولى سبحانه بنفسه تحديد الحد اللازم للجاني لأن المجني عليه قد يبادر إلى قتل الجاني بدل قطع يده. ففي القطع إذن من التشفي وإرضاء المجني عليه، مما لا مزيد عليه بالنسبة إلى سرقة الأموال، لذا فإن "قطع السارق تلوح منه حكمة تأمين كل فرد على ماله واطمئنانه عليه حتى لا تعبث به يد عابث، أو يستحوذ عليه مستحوذ" 

خامسا: حفظ كرامة المجني عليه وسمعته.

إن صيانة عرض الإنسان والدفاع عن كرامته من الغايات التي جاءت الشريعة لترسيخها. فالشريعة الغراء تدرأ كل ما من شأنه أن يخدش سمعة الإنسان، ويصيب كرامته، لأن سمعته وكرامته جزء من حياته لا يستطيع أن يعيش بغيرهما، وفي بيان مقصد حفظ كرامة الإنسان يقول علال الفاسي: "الكرامة حق لكل أحد برا كان أو فاجرا، تقيا أو عصيا، لأن الجزاء يترتب على الأعمال وهي بحسب صفاتها الشرعية، أما الشخص فهو الإنسان دائما حتى المجرم ينال عقابه، ولكن ليس لأحد أن ينال من كرامته بتعييره أو شتمه، أو التشنيع عليه بما فعل لأن في ذلك مجاوزة للحد الشرعي أو للتعازير المقررة." 

فمن مقاصد الشريعة الكبرى صيانة كرامة الإنسان، من أجل ذلك وضع حد القذف، وحد الزنا زاجرا ومانعا من الاتهامات. فالشك في النسل، والاتهام بالزنا يفضي إلى خلل كبير في المجتمع، وتفكك عظيم في الأسر فلا يعود معه استقرار ولا طمأنينة ولا راحة، بل –كما قال ابن عاشور- "إن الشك في انتساب النسل إلى أصله يزيل من الأصل الميل الجبلي الباعث عن الذب عنه، والقيام عليه بما فيه بقاؤه وصلاحه، وكمال جسده وعقله، بالتربية والإنفاق على الأطفال إلى أن يبلغوا مبلغ الاستغناء على العناية." 

ولا يخفى أن الإسلام جاء من أجل إرساء مجتمع نظيف المشاعر، طيب السريرة كريم الأخلاق. بخلاف المجتمع الجاهلي، فكل الموازين فيه مضطربة، وكل القيم فيه مختلة. ففي المجتمع الجاهلي تشيع الفاحشة، ويتفشى القذف، كما كان في الجاهلية الأولى بين الناس حيث يتهم بعضهم بعضا بالزنا، لمجرد أنه يتحدث مع امرأة. 

سادسا: حماية المجني عليه والدفاع عنه. 

ومن مقاصد الحدود وتشريع العقوبات الدفاع عن المجني عليه، وحمايته من كيد الجناة والظالمين، فلئن كان من مقصد الشريعة حفظ نظام الأمة واستدامته، فلا جرم أن هذا الحفظ والاستدامة لا تكون إلا بالدفاع عن حقوق الناس، ودرء الشر عنهم، واستجلاب الخير لهم. ولهذا شرع القصاص، من أجل حماية المجني عليه والدفاع عنه، لما فيه من المماثلة والتشفي على الجاني. وقد جعله العلماء حقا للأفراد لأن الجرائم التي يجب فيها القصاص على نوعين: نوع فيه اعتداء مباشر على نفس الشخص، ونوع فيه اعتداء على المجتمع. غير أن مساس الجريمة بذات المجني عليه يفوق بكثير ما يمس المجتمع كما في القتل مثلا. 

فتشريع عقوبة القتل مثلا تظهر منه حكمة حماية نفوس المجتمع، ودفع الأذى عنها، والدفاع عنها، لأن القتل، على ما قال ابن العربي: "أعظم الذنوب إذ فيه إذاية الجنس وإيثار النفس، وتعاطي الوحدة التي لا قوام للعالم بها. وتخلق الجنسية بأخلاق السبعية، وإذا كانت مع قوة الأسباب في جار أو قريب، والولد ألصق القرابة وأعظم الحومة، فيتضاعف الإثم بتضاعف الهتك للحرمة" 

على أن حماية المجني عليه والدفاع عنه، لا يقتصر على المجني عليه المسلم، بل يتعداه إلى جميع رعايا الدولة الإسلامية من ذميين ومستأمنين، وكل من أعطته الدولة المسلمة حق الأمان. فالحياة الواردة في آية القصاص في قوله تعالى: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" [البقرة:179] لا تنحصر في حياة صنف دون آخر، أو جنس دون جنس، وإنما هي الحياة بمعناها الشامل، حياة المجتمع المسلم بشتى تشكيلات أفراد، وتنوع أعراقه وأجناسه، وبمختلف أسسه الاجتماعية، وضروب المعتقدات السماوية السائدة فيه.

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى قتل المسلم بالذمي، ولهم في ذلك تفصيل، أكتفي هنا بما قرره الأستاذ الشهيد عبد القادر عوده، بعد بيانه لمذاهب الفقهاء في المسألة، قال رحمه الله: "وتحقيق معنى الحياة في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم، لأن العداوة الدينية تحمله على القتل خصوصا عند الغضب. فكانت الحاجة إلى الزاجر أمس، وكان فرض القصاص أبلغ في تحقيق معنى الحياة." 

سابعا: أخذ الدية والعفو (تصفية القلوب). 

ومن مقاصد الشريعة الإسلامية بالنسبة إلى المجني عليه أخذ الدية، أو العفو عن الجاني، وسواء كان هذا العفو من أولياء المجني عليه، أو منه مباشرة. لأن أولياء المجني عليه هم أيضا في حس الشرع مجني عليهم. فقبول الدية من قبل المجني عليه أو أوليائه، إذا رضوا بذلك، له في ميزان الشرع مقصد وحكمة وغاية، وهي تحقيق لصفاء القلوب، وشفاء لجراح النفوس، وتقوية لأوامر الأخوة بين بقية الأحياء. 

وقد أفاض العلامة ابن عاشور في بيان مقصد الدية بالنسبة إلى المجني عليهم (الأولياء والمجني عليه)، وكذلك بالنسبة إلى الجاني وأوليائه، فهي تحقق معنى التكافل والتوادد، كما تحقق العفو والتغمد، والصفح والتغاضي، والتجاوز عن إقامة القصاص وفي ذلك يقول: "فيها ( الدية) نفع عام، وهو حق المواساة عند الشدائد ليكون ذلك سنة بين القوم في تحمل جماعاتهم بالمصائب العظيمة. فهي نفع مدخر لهم في نوائبهم، كما قال تعالى: "ولا تنسوا الفضل بينكم" مع ما في ذلك من إرضاء أولياء القتيل حتى تنتزع الإحن من قلوبهم. تلك الإحن قد تدفعهم إلى الاجتراء على إذاءة القاتل. فإن فرحهم بمال الدية الكثير يجبر صدعهم. ولو كلف القاتل دفع ذلك لأعوزه، أو لصار بحالة فقر، فبذلك كله حصلت مقاصد الأمن والمواساة والرفق.." 

ومن مقاصد الشريعة بالنسبة إلى المجني عليه تحقيق العفو، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبب العفو إلى المجني عليه، ويرغبه في ذلك. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه قصاص إلا طلب فيه العفو." وقال صلى الله عليه وسلم: "مازاد عبد بعفو إلا عزا." فكأن المقصد من هذا المسلك النبوي أن تنقلب العداوة إلى محبة، والبغض إلى تسامح، والكراهية إلى إخاء وتوادد. فالعفو يدفع الثارات بين أفراد المجتمع، وينشر الرحمة بينهم.

ثامنا: حفظ نظام الامة.

إذا كانت للحدود مقاصد خاصة بالمجني عليه والجاني، فلا جرم أن لها مقاصد كذلك متعلقة بالمجتمع ونظام الأمة، لأن الشأن في نظام الحدود في الشريعة أنه لا ينظر إلى الفرد فحسب، باعتباره جانيا أو مجنيا عليه، وإنما يتعداهما ليشمل الأمة والمجتمع كله. وإلى هذه المقصد الأساسي للحدود والعقوبات نبه الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه (المسؤولية والجزاء) وهو القضاء على الجريمة التي تهدد حياة المجتمع وسلامته. واعتبر نظام المجتمع شأنه في قيامه شأن الفرد، فكل ما يهدد سلامة الفرد، يهدد سلامة المجتمع ونظام الأمة ويعد بذلك خطر على حياتها. 

وإن المراد من نظام العقوبات ومقاصدها في التشريع الجنائي الإسلامي هو حفظ نظام الأمة وصيانته، والعمل على استدامته. وحفظ نظام الأمة يكون في شتى جوانبه، وعديد من ميادينه، في الجانب العقدي والخلقي والتشريعي، والسياسي والاقتصادي... إلخ. فمقصد العقوبات بصفة عامة جلب المصالح التي تحفظ نظام الأمة، واستدفاع المفاسد المؤدية إلى الخلل سواء الواقع أو المتوقع.

إن الوقوع في حد من حدود الله تعالى معناه الوقوع في إحدى المفاسد التي جاء الشرع من أجل إزاحتها ودرئها فيؤذن ذلك أن العقوبات إحدى الوسائل التي تجلب المصالح للناس والمجتمع بأكمله. 

وحفظ نظام الأمة. والحرص على استدامته إنما يكون بحفظ النوع الإنساني واستدامة صلاحه، فإيقاع العقوبة على الجناة من باب الإصلاح لهم والحفظ. وفي ذلك يقول ابن عاشور مبنيا المقصد العام من التشريع."هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه." 

وقد أشار علال الفاسي رحمة الله تعالى عليه إلى نفس المقصد العام للشريعة الذي نبه عليه ابن عاشور، وإن تباينت عباراتهما في التنصيص عليه. ذكر ذلك في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها) تحت عنوان "المقاصد الشرعية في الإسلام" يقول: "والمقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرا صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع." 

وذهب إلى أن مفهوم الإصلاح إنما هو إصلاح أحوال الناس، وهذا الإصلاح هو الذي دعا إليه الرسل، وظلوا يعملون على تربية الناس عليه. فهذا موسى عليه السلام يقول لأخيه هارون:( اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المقسدين).

ومما يتعلق بحفظ نظام الأمة والمجتمع حفظ ضروراته الخمس، من حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظها هنا المنسجم مع نظام الحدود، هو حفظها من جانب العدم، وذلك بدرء كل ما من شأنه أن يعود عليها بالخراب والتلافي والإفساد، فهذا النوع من الحفظ مقصود للشارع الحكيم، وليس فقط الاقتصار على الحفظ الوجودي، وإنما لا بد من الحفظ العدمي حتى يحصل التكامل.

وصفوة القول مما سبق: أن نظام الحدود في الشريعة، ينبغي أن يفهم حق الفهم، وأن يوقف على مقاصده الحكيمة، وغاياته النبيلة، وأن الأمة مطالبة بالرجوع إلى دينها وشريعة ربها، في كل المجالات لتنسجم مع عقيدتها، التي هي سر عزها وتقدمها، وسر قوتها، وروح تغييرها، و" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم."

والحمد لله رب العالمين

الحلقة الثانية هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين