ورقات في تاريخ القدس وفلسطين(5)

فلسطين والحملة الصليبية الأولى 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد.

أدى انتصار السلاجقة على البيزنطيين في معركة ملاذ كرد عام: (463 هـ) إلى تغير أوضاع نصارى المشرق؛ مما اضطرهم إلى توجيه نداء استغاثة إلى بابا الفتكان؛ فاستغل البابا هذا النداء، وقام بعقد مؤتمر في فرنسا، عام: (1095م) عرف بمؤتمر: «كليرمونت» دعا فيه أوروبا كلها إلى إنقاذ قبر المسيح، والأرض المقدسة من ذلكم الجنس اللعين الذي طغى فيها، وصور لهم بشاعة ما يلقاه النصارى على يد السلاجقة المسلمين؛ فألهبت كلماتُه هذه حماسة أوربا، وأثارت حنقها على المسلمين، وتعالت لذلك أوروبا على كل خلافاتها، ونزاعاتها، وأحقادها، واجتمعت على حرب المسلمين، فجهزت الحملة الصليبيَّة الأولى على بلاد المسلمين.

وصلت الحملة الصليبية الأولى بحرَ القسطنطينية عام: (491 هـ)، وكان قوامها قرابة مليون مقاتل، ومنه سارت إلى بيت المقدس، واستولت في طريقها إليه على المدن والقرى الشامية، مرتكبةً أبشع المجازر والخيانات، ولم يستطع السلاجقة الوقوف بوجهها؛ نظرًا للتمزق السياسي الذي أصابهم، والخراب الاقتصادي الذي عمَّ بلادهم، وفي عام: (492 هـ) وصل الصليبيون بيت المقدس، وكان الفاطميون -حكام مصر- قد أرسلوا جيشًا لحماية القدس من الصليبيين، فحاصر الصليبيون القدس (39) يوماً، ضربَ أهلُها خلالها أروع الأمثلة في البطولة، والدفاع عنها، وقاتل معهم الفاطميون، ثم سرعان ما انسحب الفاطميون من القدس؛ فانهارتْ بعدها قوة المسلمين، ودخل الصليبيون بيت المقدس.

توجَّه الصليبيون إلى المسجد الأقصى؛ فقتلوا فيه أكثر من سبعين ألف مسلم؛ ممَّن احتمى فيه من العلماء والعُبَّاد والزُّهاد، وغيرهم، ثم توزَّعوا في القدس فقتلوا أهلها، ومارسوا فيهم أبشع صنوف القتل والتعذيب، فقطعوا الرؤوس، وجمعوها أكوامًا، وكذا فعلوا بالجثث، وكانوا يرمون الناس من الشواهق، حتى لقد غاصتْ خيولهم بدماء القتلى، فلم يعد يُرى في المدينة إلَّا الموت، والجثث، والأشلاء، ودخلوا على اليهود في معبدهم؛ فأحرقوهم فيه، ولا يُعرف كم كان عددهم فيه.

بعد أن انتشرت رائحة الموت في بيت المقدس، وعلتْ أصوات أجراس النصارى فوق المسجد الأقصى، ودُنِّستْ الصخرة، ورُفع عليها الصليب؛ صحتْ الأمة من سباتها، ونهضتْ لمقاومتهم، وبقي الصليبيون في بيت المقدس واحداً وتسعين سنة، لا يرفع في المسجد الأقصى أذان، ولا تقام فيه جمعة، ولا جماعة! إلى أن أكرم الله هذه الأمة بنور الدين، وبعده صلاح الدين؛ فخلص المسجد من رجس الصليبيين، وذلك عام: (583 هـ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين