الرد على تليمة في المسح على الجوارب الرقيقة دون طهارة وتحديد مدة (1 - 4) 

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:

فقد طالعت للأستاذ عصام تليمة مقالا نشره موقع قناة الجزيرة، مال فيه إلى إطلاق القول بجواز المسح على الجوربين بلا قيد ولا شرط، وزعم أنَّ ما رجَّحه مذهب عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتماداً على ما حكاه أبو داود في (السنن) وهو في مقاله هذا الذي ذكر في ذيله أنه أنموذج من كتاب في الأحكام يعمل على وضعه بقصد تيسير الفقه على الناس.

وقد يقال: ما وجه العجب منه في هذا، والأصل في أحكام الشارع التيسير؟ 

والجواب: أن موقع التعجُّب إنما هو في تصريحه باختيار الأيسر قبل البحث والترجيح، وهو مهدر، لأنه لا يخلو أن يبحث على وَفْق الأصول والضوابط أو لا؟ الثاني: ضائع، والأول: يتعين فيه أن يرجِّح على وفق القواعد والأصول وهذا يحتمل فيه أن يرجح الأيسر ويحتمل أن يختار الأثقل. 

وأما إطلاق انتقاء الأيسر قبل البحث فهو ظاهر في أنه إنما بنى كتابه هذا على غير أصل، وأنه إنما ينتقي من أقاويل الفقهاء ما يتوهَّم بعقله وذوقه أنه أيسر بقطع النظر عن قوَّة الدليل والأصل أو ضعفهما، وهو من جنس اللعب.!

فإن قال: الأيسر عندي مطلق عن مذاهب العلماء، بمعنى أنه يقصد الأيسر في نفس أحكام الشارع، وأما المذاهب ففيها الشديد واليسير، فهو يختار الأيسر منها لأنه ملائم لأصل مقصود الشارع.

قيل: هذا فاسد ضرورة أنَّ عامَّة المذاهب قامت على مراعاة التيسير في الجملة وإنما يتفاوتون في اعتباره لأن المجتهد يستنبط على وفق الأصول التي منها التيسير، فينظر هو في المواءمة بينها، ولو كان إنما يجتهد مراعيا التيسير دون غيره من الأصول لكان لكل أحد أن يجتهد وإن لم تتوافر فيه شروط الاجتهاد، وللزم منه أنَّ كلَّ أحد يختار الأيسر الملائم لذوقه ضرورة اختلاف الأذواق وتفاوت العقول في اعتبار المناسب، فتضطرب الأحكام وتتعطَّل النصوص والأصول، وهو عبث لا يقوله عاقل. 

وأيضا فالتيسير لم يراع على إطلاقه في أحكام الشارع وإلا ما وجد فيها التكليف بما فيه مشقَّة ولا كان الأجر فيها على قدر المصلحة؛ إذ المصلحة قد تكون حيث المشقة أحيانا كالجهاد والقصاص، وضابط التيسير: أن يلائم أصول الشارع ولا يضاد نصوصه الكليَّة وأصوله التي منها الاعتبار، كما في السنن عن أم المؤمنين: (ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه).

وعن الشعبي قال: (إذا اختلف عليك الأمران فأيسرهما أقربـهما للحق) يريد إذا انسدَّت طرق الاجتهاد رجع إلى اعتبار الأيسر، لكن بأصل واعتبار شرعي لا بمجرد الهوى والذوق، ولهذا قال سفيان الثوري كما خرّجه أبو عمر الحافظ في (العلم): (العلم الرخصة من ثقة، وأما التشديد فيُحسنه كل أحد) فتأمل تقييده الرخصة والتيسير بالثقة أي: انضباطه بالأصول والقواعد، وإلا فنفس التيسير يحسنه كل أحد إذا كان من غير أصول ولا ضوابط.

فالتيسير نوعان: مطلق في أحكام الشارع، وهذا يوجد في عامة النصوص حتى التي ظاهرها المشقَّة باعتبار مآلها ومناسبتها لأحوال المكلفين (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) والثاني: نسبي مقيَّد كالرخص، وهذه لا يقاس عليها إلا حيث فُهمت العلة كما تقرر في الأصول.

ولهذا شكَّك بعض أهل الأصول وأظنه الآمدي في تحقق الرخصة من جهة أن العذر الذي لأجله وجدت الرخصة، لا يخلو أن يترجَّح على السبب المحرِّم، أو لا، أو يساويه؟ فإن ترجَّح لزم أن يكون كل راجح رخصة، وإن لم يترجَّح فالمنع راجح، وإن تساويا فالرخصة الأيسر، وقد أجاب الصفي بالتزام أن الراجح هو الرخصة ولا يلزم أن يكون كل راجح رخصة، لأنه لا يخلو أن يترجَّح بعذر مستند إلى اعتبار الشارع ودليله فهو الرخصة، أو من غير عذر معتبر دليله فهو باطل.

وهذا الأخير الباطل هو ما يتخيَّله الدهماء والضعفة من المتفقهة أن التيسير هو الأخف على الناس، وهذا هوى وميل، وليس من الشرع بسبيل، وقد أجمعنا على أنَّ النصوص مبناها على التيسير، والأصول والقواعد التي يُجتهد على وفقها إنما انتزعت باستقراء نصوص الشارع الكلية، وعليه فالاجتهاد المنضبط بـها لا يفضي إلا إلى التيسير وإن كان في ظاهره نوع مشقة إذ المشاق وإن كانت غير مقصودة للشارع إلا أن الأحكام لا تخلو عنها، ولهذا يترتب الأجر تارة على قدر النصب حيث يتساوى جنس المصلحة.

ألا ترى أن نفس الحكم قد ترى فيه أنت مشقة وغيرك يراه سهلا يسيراً، فمن رام انتقاء الأحكام على مطلق التيسير في أذواق العقول فهو متبع لأهواء الناس لا للأصول والنصوص، وقد قال ربيعة لبعض المفتين والقضاة: (ليكن همك إبراء ذمتك بين يدي الله لا إبراء الناس) يريد أنَّ عليك إصابة الحكم الذي هو شرع الله بقطع النظر عن كونه يسيراً عند الناس أو لا، فإن الناس يسلمون وأنت تحاسب، ولأن ما يكون يسيراً عند بعضهم قد يكون شاقًّا عند الآخرين، ومراعاة نصوص الشارع وأصوله مقتضى العدل.

والكلام مع الأستاذ تليمة في ثلاثة مقامات من بحثه: الأول: في إطلاقه المسح على كل جورب دون قيد أو ضابط، والثاني: إطلاقه المسح من غير توقيت، والثالث: تجويزه المسح من غير طهارة.

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين