إتحاف النبلاء بحكم قراءة كتب الحديث لرفع البلاء

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:

فقد كان من عمل العلماء فيما مضى، من أهل الحديث والنظر والتصوف أنـهم يستجلبون البركات، ويستنزلون الرحمات، لدفع الكُربات، وتفريج الشدائد والملمات، بقراءة كُتُب الحديث الـمُباركات، فكانوا يجتمعون عند الشدائد للتبرك بقراءة كتب السنة المشرفة بنية دفع الضر ورفع البلاء واستجلاب النصر، وهذا من التوسل بصالح الأعمال كما دل عليه حديث النفر الثلاثة الذين انسدت عليهم صخرة في الغار وفيه: أن بعضهم قال لبعض: (لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى (بصالح أعمالكم) الحديث.

لا يقال إنه شرع من قبلنا، لأنه ههنا حجة بإقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفعلهم، وبأصل امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولأنه ذكر في سياق الثناء عليهم فيقتضي صحة ما فعلوه.

فمن هذه الكتب التي نُقل عن أهل العلم والصلاح قراءتـها لكشف الكرب، (العمدة) للحافظ عبد الغني المقدسي، فقد قال الحافظ السخاوي في (الضوء اللامع): واتّفق أنه في بعض الأوقات حوصرت حلب، فرأى بعضُ أهلها في المنام السراجَ البُلقينيَّ فقال له: ليس على أهل حلب بأس، ولكن رُح إلى خادم السنة إبراهيم المحدّث، وقُل له يقرأ (عمدة الأحكام) ليُفرّج الله عن المسلمين، فاستيقظ فأعلم الشيخَ فبادر إلى قراءتـها في جمع من طلبة العلم وغيرهم، بالشرفية يومَ الجمعة بُكرة النهار، ودعا للمسلمين بالفرج، فاتّفق أنه في آخر ذلك النهار نصر اللهُ أهلَ حلب.

ومنها (صحيح البخاري) وقد قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: قال لي من لقيتُ من العارفين عمّن لقيه من السادة الـمُقَرّ لهم بالفضل إن (صحيح البخاري) ما قُرئ في شدّة إلا فرجت، ولا رُكب به في مركب إلا نجت، وكان البخاري مجابَ الدعوة وقد دعا لقارئه. 

وقال الحافظ ابن كثير: (كتاب البخاري الصحيح يُستسقى بقراءته الغمام) وذكر العلامة عبد الحق الدهلوي في (أشعة اللمعات) أن مشايخَ الحديث الثقات كانوا يطالعون (صحيح البخاري) لحصول المرادات، وكفاية المهمات، وقضاء الحاجات، ودفع البليات، وكشف الكربات، عند الشدائد والمضايق، فحصّلوا مرادهم وفازوا بـمقاصدهم، وقد بلغ هذا عند أهل الحديث مبلغ الشهرة والاستفاضة.

وقال المحدث أصيل الدين: قرأتُ (صحيح البخاري) نحو عشرين ومائة مرة في الوقائع والمهمات لنفسي وللناس، فبأيّ نيّة قرأتُه حصل المقصودُ وكفى المطلوب.

وقد ذكر هذا المباركفوري في (مقدمة التحفة) وقال: أجاز كثير من أهل العلم هذا الزمان قراءة (صحيح البخاري) وختمه لشفاء الأمراض ودفع المصائب وحصول المقاصد.

وقال العلامة تقي الدين ابن عبد اللطيف السبكي:

مثل البخارِيِّ الإمام المرتضى...فهو الذي اغتبق الفضائلَ واصطبحْ

مَنْ فضلُهُ فِي الناس بحرٌ قد طَما...وعرائسٌ تُجلى وغيثٌ قد طفحْ

وكتابُهُ كالغيث يُستسقى به ......... فسواه فِي كرباتنا لم يُستَنحْ

وهو المجرَّبُ فِي الشديد وكشفه...أوليس فِي غارات أمرٍ قد وضحْ

ولو ذهبنا في تقصي كلامهم في هذا المعنى لطال المقام وفي هذا القدر كفاية، وقد ذكر الأستاذ سعيد طولة في كتاب (تاريخ المدينة المشرفة) عن العلامة محمد طاهر سعيد سنبل أن الفرنسيين لما دخلوا مصر، فتح أهل المدينة الباب المنيف المسمى باب التوبة المقابل للوجه الشريف، وحضر أعيان أهل طيبة المشرفة، وخُتم صحيح البخاري في مجلس واحد بقراءة متعددين من الفضلاء الأماجد، وتشفّع كل من حضر بسيد البشر في دفع هذا الأمر المهم والخطب المدلهم، فظهرت آثار الإجابة في تلك المواطن المستطابة، ولله الحمد لم يمض ثلاثة أعوام حتى أخرجوا من مصر أولئك الكفرة اللئام، ونسأله سبحانه أن يعز دينه على الدوام.

ولا يستقيم التعلق بأن السلف الأول لم يفعلوه، لأن هذا إنما يصح إدعاؤه حيث لم يوجد أصل عام كلي يندرج تحته العمل المحدث، فأما إذا استخرج له العلماء أصلا فإنه عندئذ من البدع المستحسنة كما نص عليه جمع من المحققين كالقرافي والعز والنووي وابن حجر وغيرهم.

فمن لم يقنع بـهذا الأصل فلا أقل من أن يدع التشنيع بالتبديع على فاعله، فإن التعلق بالترك عدم محض لا يقابل بالأصل المستخرج الذي ذكرناه، لما تقرر أن مطلق الترك ليس بحجة حتى يقترن معه إنكار السلف، أو يقوم دليل على أن المقتضي للأخذ به كان قائما على عهدهم فلم يأخذوا به لعدم تحقق المصلحة منه كسائر المحدثات، فإن الباعث على العمل بـها إنما هو تحقق المصلحة منها أو غلبة الظن بتحققها.

ولهذا لم يعمل السلف الأول بكثير من المستحدثات التي تندرج تحت أصل كلي وعمل بـها الأئمة من بعدهم لتحقق المصلحة والحاجة إليها في زمانـهم وعدم الحاجة إليها زمان السلف الأول، مثل التأليف في العلم ونحوه، وقد قال الشافعيُّ رضي الله عنه: (ما أُحْدِثَ وخالفَ كتاباً أو سنةً أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعةُ الضلالةُ، وما أُحْدِثَ من الخير ولم يُخالف شيئاً من ذلك فهو البدعةُ المحمودة) أخرجه الحافظ أبو بكر البيهقي في (معرفة الآثار).

وقال الحافظ أبو محمد بن حزم في (أصوله): (والبدعة كل ما قيل أو فُعل مما ليس له أصل فيما نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم) ونصوص العلماء والأئمة يضيق عن بسط نقلها هذا الموضع، بل نقل شيخ الإسلام العلامة إبراهيم الكوراني في (رفع الريب) عن العلامة ابن حجر الهيتمي اتفاق العلماء على هذا ونصه على ذلك واقع في (شرح الأربعين النواوية) له، وقد قال العلامة ابن غازي:

كُنْ تابعا ووافقنْ من اتبعْ...مقَسِّما لخمسة هذي البدعْ

واجبةٍ كمثل كَتْبِ العلمِ ... ونَقْطِ مصحف لأجل الفهمِ

ومستحبةٍ كمثل الكانسِ .... والجسر والمحراب والمدارسِ

ثم مباحةِ كأكل الـمُنخل ... وذاتِ كُرْهٍ كخُوان المأكلِ

ثم حرامٍ كاغتسال بالفتاتْ...وكاسيات عاريات مائلاتْ

وعلى هذا يحمل ما ورد من النصوص في ذم البدع مما ظاهره الإطلاق كحديث (كل بدعة ضلالة) ونحوه جمعا بين النصوص في الباب، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صح عنه عند مسلم (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بـها) الحديث وهو الأصل في هذا، وخبر عائشة (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي ما لا أصل له، لما وقع عند أبي عوانة في (مستخرجه) بلفظ (من أحدث في أمرنا ما لا يجوز فهو رد) والنصوص يفسر بعضها بعضا. 

وقد يتنازع العلماء ممن يرى أن من البدع ما هو حسن على ما قررناه في عد بعض الحوادث من البدع المذمومة أو المستحسنة، وهذا النزاع سببه اختلاف اجتهادهم في إعمال هذا الأصل وتحقيقه، وأما النزاع فيه بين أهل الحديث والفقهاء فسببه اختلافهم في أصل المسألة وهو دعوى تقسيم البدع إلى مذموم ومحمود كالخلاف بين الشاطبي وابن لُب في حكم الاجتماع على الدعاء بعقب الصلوات، وصنف كل واحد منهما في الرد على صاحبه، لكن لأن هذا الأصل غامض وغير مطرد تجد أن المانع يقع فيه فيتناقض ويقرر استحسان ما لو تأمل لوجد أنه بدعة على مقتضى أصله، كتناقض الشاطبي في استحسان دعاء الخضر وتناقض ابن تيمية في عمله بأدعية غير مأثورة بل مجربة عن الصالحين، فيقال وأكثر هذا البدع المستحسنة من هذا النوع ولا فرق، كالاجتماع لقراءة كتب السنة لدفع البلاء ونحو ذلك.!

وقد تنازع العلماء في المحدث الذي لم يكن في زمانه عليه الصلاة والسلام مما زاده بعض المتقدمين من السلف والأئمة، على ثلاثة أقوال حكاها السجلماسي وغيره:

أحدها: أن كل المحدثات ممنوعة ولو احتيج إليها لعمومات النصوص الواردة في ذم البدع والمحدثات، وقد أخرج البخاري في (التاريخ) وحسنه السيوطي (طوبى لمن وسعته السنة ولم يعدل عنها إلى بدعة) وهو قول الحنابلة.

الثاني: أن المحدثات نوعان ما خالف الشرع فهو مردود، وما وافقه وشهدت أصوله العامة له فهو حسن، لأدلة وشواهد كثيرة ويؤيده ما أخرجه أبو عوانة في (مستخرجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا ما لا يجوز فهو رد) وهو مفسر لرواية (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فقوله (ما ليس منه) أي: ما لا يشهد لجوازه أصل، وهذا قول الحنفية والشافعية وبعض الحنابلة.

الثالث: وهو قول المالكية والغزالي أن المحدثات إذا دعت إليها الضرورة والحاجة جاز إحداثها والعمل بـها وإلا فلا.

ويتخرج على هذه الثلاثة الأقوال حكم الزيادة على الوارد في النص تعبداً، وهل يسوغ الزيادة عليه أم يتعين الاقتصار على الوارد دون زيادة، وفيه ثلاثة مذاهب كالأقوال الماضية، وسبب الخلاف هل الأفضل الاتباع أم الاستزادة في الخير طلبا لزيادة الأجر والثواب.؟

فمن يرى الاتباع والاقتصار على الوارد أفضل أو واجبا يتمسك بأنه أحوط، ومن يرى الزيادة يقول إنه لا تنافي بينها وبين الاتباع، لأنـها تتضمنه وزيادة، وقد صح عن السلف الزيادة على الوارد في مواضع منها ما كان ابن عمر يزيد في التحميد عند العطسة الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول الحافظ أبي موسى المديني وغيره واختاره ابن القيم وغيره. 

وزاد ابن عمر وعائشة لفظ (وحده لا شريك له) في التشهد كما خرّجه الحافظ أبو بكر البيهقي في (السنن الكبير) وفي (الموطأ) أن رجلاً زاد في السلام على ابن عمر شيئاً فكرهه ولم ينكر عليه وغير ذلك، وزاد ابن مسعود السيادة في اسم النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد كما رواه ابن ماجة وغيره، وزاد سعيد بن جبير التسمية في التشهد.

وزاد جماعة السلف في التلبية منهم عمر وأنس وعروة والأسود وغيرهم، ونقل السرخسي أن في تلبية أهل البيت عليهم السلام: (والجاريات في الفلك على مجاري من سَلَك) واختار جواز الزيادة فيها أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية المروذي، والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأشهب واختاره أبو العباس بن تيمية في (شرح العمدة) وغيره من المتأخرين.

وما روي في ذم الزيادة عن بعض السلف فمحمول على أنه خلاف الأولى أو على أن من زاد فقد ترك أصل التلبية الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو يحمل على خوف أن يعتقد من زاد أن الزيادة من أصل الشرع، وضابط الأمر أن لا ينسب ما زاده إلى الشارع، وأن لا ينقص من المشروع، وأن لا يكون ما زاده سبباً لهجران المشروع، وأن يندرج تحت أصل عام، ويشترط في غير الأذكار أن تدعو إليه حاجة أو مصلحة راجحة، والله أعلم.

وما ذكرناه من مذاهبهم في المحدثات هو الأصل العام عندهم، ولا يناقضه أن بعض الأئمة قد يخالفه في مسألة فيمنع الزيادة أو يجوّزها، لأنـهم إنما يخالفون أصولهم العامة لنظر راجح عندهم يستدعي ترك هذا الأصل لأصل آخر هو أقوى منه في هذا الفرع، بخلاف دعاة الاجتهاد الانتقائي المعاصر فإن فروعهم تضطرب لتضارب أصولهم، وبه يعلم فضل التمسك بمذاهب الأئمة، وبالله الثقة، والحمد لله رب العالمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين